وقف تنفيذ إعفاءات القضاة: “المفكرة” تهنّئ قضاة تونس بنصرٍ مستحقّ


2022-08-10    |   

وقف تنفيذ إعفاءات القضاة: “المفكرة” تهنّئ قضاة تونس بنصرٍ مستحقّ

بتاريخ 09-08-2022، استجاب الرئيس الأول للمحكمة الإدارية محمد المهدي قريسيعة لطلب إيقاف التنفيذ فيما تعلق ب 48 قاضيا ممن طعنوا في قرارات إعفائهم التي صدرتْ عن الرئيس قيس سعيد بتاريخ 01-06-2022 ورفضه فيما تعلق بغيرهم وعددهم 6. وتعتبر هذه القرارات -التي هي نافذة من تاريخها ولا تقبل الطعن بأي وسيلة حسبما جاء فيها– على درجة كبيرة من الأهمية سواء لجهة المبادئ التي ترسيها او بالنظر لقيمتها في معركة استقلالية القضاء التي خاضها القضاء التونسي طيلة الفترة الفائتة.

قرارات مبدئية انتصرتْ للحق في التقاضي

بحجة التزامه بتطهير القضاء، اعتمد الرئيس قيس سعيد بشكل أساسيّ على آلية الإعفاء التي أجاز لنفسه بموجب مرسومه عدد 35 لسنة 2022 الالتجاء إليها مقيّداً حقّ من تشملُه في الطعن فيها بشرط صدور حكم جزائي باتّ يبرئه من الاتّهام الذي يثار في حقّه وجوباً بمجرد إعفائه. موقف صحّحه الرئيس الأول للمحكمة الإدارية الذي ضيّق مما كان من تقييد للحق في التقاضي أولا ليمضي ثانيا لمنع الانحراف بالإجراءات متى كان فيه مسّ واضح بأصل الحق.

الحقّ في التقاضي: مخرج من داخل النص

في مرحلة أولى، وبعد تضمين عرائض دعوى المعفيين وعددها 54، وطبق الإجراءات المعمول بها، وجّه الرئيس الأول للمحكمة الإدارية مراسلة لكل من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة العدل يطلب فيها تقديم جوابها عنها. وقد أكد هنا محامو المدّعين أن رئاستيْ الحكومة والجمهورية لم تقدّما أيّ جواب بعد مضي الأجل، فيما اكتفت وزارة العدل بتقديم تقارير طلبتْ صلبها القضاء بعدم قبول الطعن لعدم انتظار القائمين به لمآل التتبع الجزائي.

في مرحلة ثانية، أصدر الرئيس الأول أحكاما تحضيرية تطلب من المدعى عليهم (المذكورين أعلاه) ومن مجلسي القضاء المؤقتين العدلي والإداري مدّه بالمؤيدات التي تُفيد إثارة تتبّعات عدلية في حقّ المدعين. فتلقى جوابا من مجلس القضاء تمثل في جرد للتبعات التي طالت عدداً من المعفيين قبل صدور قرارات الإعفاء وكانت سندا لملاحقات تأديبية كانت جارية في حقهم. ولم يصله بالمقابل أيّ جواب من رئاستي الجمهورية والحكومة في وقت طلبت فيه وزارة العدل أكثر من مرة منه إمهالها لتقديم مؤيّدات جديدة قبل أن تنتهي بالاكتفاء بتقديم ملفات اغلبها مما سبق تقديمه من المجلس المؤقت.

وهنا أكد عجز رئاسة الجمهورية التي اتّخذت قرارات الاعفاء عن إثبات إثارتها لتتبعات جزائية ما ورد بعرائض دعوى المعفيين من تمسّك باستحالة تنفيذ شرط انتظار التتبع الجزائي لكون الأفعال التي أعفوا على أساسها لا تشكل جرائم جزائية. وهو ما استندت له المحكمة الإدارية لتقرّ بمقبولية الطعن المقدم لها وتنظر بالتالي في أصل طلب إيقاف التنفيذ.

الإعفاء ينتج ضرراً لا يمكن تلافيه: تطوّر هام في فقه قضاء المحكمة الإدارية

ينص الفصل 39 من القانون عدد 40 لسنة 1970 المتعلق بالمحكمة الإدارية أنه ” لا تُعطّل دعوى تجاوز السلطة تنفيذ المقرر المطعون فيه. غير أنه يجوز للرئيس الأول أن يأذن بتوقيف التنفيذ إلى حين انقضاء آجال القيام بالدعوى الأصلية أو صدور حكم فيها إذا كان طلب ذلك قائما على أسباب جدية في ظاهرها وكان تنفيذ المقرر المذكور من شأنه أن يتسبّب للمدّعي في نتائج يصعب تداركها”.

وفيما مضى من عمل المحكمة الإدارية كما يستشفّ من الطعون التي تعهدت بها في إعفاءات القضاة السابقة (إعفاء ال 71 قاضيا في 2014 مثلا)، لم يكن الرؤساء الأول لها يستجيبون لطلبات إيقاف التنفيذ وكانوا يبررون موقفهم بكون الحق في التعويض الذي يعطيه القانون للمعفي يمنع القول بوجود نتائج يصعب تداركها. ويبدو أن وزيرة العدل ليلى جفال كانت تعوّل على هذا الموقف بما يفسّر مسارعتها خلال فترة إمهالها للجواب إلى صرف تعويضات للمعفيين (وهي التعريضات التي تستحق لهم من جراء الإعفاء) ونشرها لاحقا بيانا يؤكد قيامها بذلك. وهو ما خالفه رئيس المحكمة قريسيعة الذي اعتبر أن المسّ بالأمان الوظيفي خارج مؤاخذة عادلة يولّد حتما نتائج يصعب تداركها. ويبدو موقفه هذا مهمّا جدا لما فيه من جرأة في التصدّي  لاستعمال  السلطة السياسية للإعفاءات بما  يضرّ باستقلالية القضاء ويضعفه. وهو ما يصح معه اعتباره بمثابة تتويج لمعركة استقلالية القضاء التي ينخرط قضاة تونس في خوضها.

إسقاط الإعفاءات: انتصار غير مسبوق

لم يكنْ من الوارد تصوّر أن تنتهي المحكمة الإدارية للتصريح بإيقاف تنفيذ الجانب الأكبر من الإعفاءات لولا نجاح قضاة تونس في صناعة رأي عامّ على وعي بكونها لم تكن وسيلة اصلاح للقضاء بل كانت وسيلة تدخل وتحكّم فيه. وهي صناعة اضطرتهم على إعلان إضراب قرابة شهر كامل ودخول عدد من القضاة المعفيين إضراب جوع. ولهذا الاعتبار، جاز القول أن قضاء إيقاف التنفيذ كان ساحة سجلت نصرا هاما للقضاء المستقلّ وأكدت أنّ الانتصار في القضايا الكبرى يحتاج إلى نضال وصمود. فهنيئا للقضاء هذا النصر الصعب المستحقّ.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، حركات اجتماعية ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني