هكذا انهال علينا السّاطور في تونس


2023-11-02    |   

هكذا انهال علينا السّاطور في تونس
رسم عثمان سلمي

هم مغيّبون ومقصيّون حتّى عند الحديث عنهم. يُختزلون في صنف واحد، وتنزع عنهم إنسانيّتهم، ليتحوّلوا إلى تهديد ديمغرافي أو أمني أو اقتصادي، فيحرمون من كلّ الحقوق وتستباح أجسادهم، فيرمون في الحدود الصحراويّة كالكرة التي تتقاذفها الأنظمة. لأنّ الهجرة هي قبل كلّ شيء ظاهرة إنسانيّة، ولأنّهم الأقدر على وصف معاناتهم، اخترنا إعطاءهم الكلمة مباشرة، لنقل شهاداتهم كما هي.  اعتمدنا بالأخصّ على شهادتين مفصلتين تُنشران للمرة الأولى، تمّ توثيقُهما بمساعدة جمعيّة أخصّاء نفسيون العالم – تونس. هي قصص إنسانيّة، لعلّنا نتذكّر أن وراء الأرقام والمعطيات، حياة بشر ومعاناتهم، ولعلّنا نضع أنفسنا، ولو لوهلة، مكانهم. هي قصص توضح المسؤوليّة المباشرة للدولة في ما حدث، خلافا لسياسة الإنكار الرسمي، ولكن أيضا مسؤوليّتنا كمجتمع، بين الهجمات العنصريّة التي انخرط فيها بعض شباب الأحياء، والتضامن الإنساني الذي حصل في مناطق عديدة وساهم في إنقاذ المئات. وضعنا مع الشهادتيْن الرئيسيّتين، مقتطفات من شهادات أخرى تحصّلنا عليها مباشرة أو وثّقتها منظمات أو وسائل إعلام، تُثبت أنّ الإبعاد القسري إلى الحدود الجزائريّة والليبيّة لم يتوقّف أبدا وصولا إلى أكتوبر 2023، لتتواصل معاناة الآلاف من المهاجرين، من دون أن نسمع أصلا أصوات استغاثتهم.

“لقد قتلوني في تلك الصحراء لكن سأعود حتى أصل إلى أوروبا”

غادرتُ ساحل العاج في سنة 2019، ذهبت أوّلا الى نيجيريا ثمّ نصحني بعض الأصدقاء بالتوجّه إلى تونس. عندما تسوء الأوضاع ببلدك، عليك أن تتوجه بالنظر إلى مكان آخر. هذا المكان في ذهننا هو أوروبا. ولكنّ الذهاب إليها هنالك والتحصّل على التأشيرة ليس سهلا أبدا بالنسبة لنا، ويتطلّب في الواقع الكثير من الأموال (4 ملايين فرنك إفريقي CFA أي ما يعادل أكثر من 20 ألف دينار تونسي).  لذلك علينا البحث عن وسيلة أخرى في المتناول٬ وكان علينا أن نجرّب حظنا حتّى وإن كنّا نعلم مسبقا بوجود  مخاطر كثيرة.

قدمت إلى تونس بالطائرة ووجدتُ بلدا رائعا. بكلّ صراحة، لم أتعرّض إلى أيّة مشكلة مع التونسيين، بل كان لي عدّة أصدقاء من بينهم. كلّ شيء كان على ما يرام إلى حدود 2021 حين غادرت العاصمة كي ألتحق بصفاقس. ذهبتُ إلى هناك بهدف ادّخار المزيد من المال فهناك يمكن أن تكسبَ أكثر وتُنفقَ أقلّ. وبالفعل ادّخرت المال لمدة سنتين وأردت أن أجرّب حظّي.

عندما كنت في العاصمة٬ تعرّضت للنصب والاحتيال ثلاث مرات. لاجتياز البحر هناك دائما “الحرّاق” وأيضا المرشد أو الوسيط، الذي يكون عادة إفريقيّا من جنوب الصحراء ويمثّل نقطة الاتصال مع “الحرّاق”. في أوّل مرة، لم يتسنَّ لي حتى رؤية لون البحر والقارب. أعلمنا المرشد بأنّ “الحرّاق” قد تسلّم النقود وبعد ذهابه لم يعد يجيب على الهاتف. خسرت حينها 3500 دينار تونسي. في المرة الثانية، دفعت 3000 دينار وتعرّضت للنصب من قبل المرشد وهو “أخ” من بلدان جنوب الصحراء. المحاولة الثالثة كانت خلال مارس الماضي٬ حين تمّ ارجاعُنا من البحر من قبل الحرس الوطني. في تلك المرة، دفعت 2500 دينار تونسي وقام كل من المرشد و”الحرّاق” بواجباتهم ولكن هذه المرة كان الحظ السيء من نصيبنا. في كلّ مرّة كانت كلّ مدخّراتي تذهب هباءً (يقول هذا باكيا). قد تكون هذه المحن ما يجعل من المغامرة جميلة.. لدينا مثل يقول: “علينا المشي على الجمر للخروج من النفق يوما ما”، وربما تكون هذه هي الجمرات التي عليّ أن أدوسَها لكي أعبر النفق. ولكنّ المغامرة ليست سهلة. غادر كلّ أصدقائي تقريبا. هم يتواجدون حاليا في إيطاليا وألمانيا وبلجيكا وسويسرا، وبعضهم لم يتعرّض لما تعرّضتُ له من خيبات على الطريق إلى أوروبا.

منذ أحداث فيفري 2021، تغيّرت الكثير من الأشياء مع الإخوة التونسيين. لقد كنّا سابقا في وئام تامّ. لم أحمل أيّة ريبة تجاههم في السابق. ولكنّ الوضعية تغيّرت الآن. في إحدى المرّات، أردت تقديم قهوة كهدية لشخصٍ تبدو عليه مظاهر الخصاصة، فلم يقبلها ولم يشكرْني أصلا. بدأتُ العيش في قوقعة مع بقية المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء ولم أعد أخرج من المنزل. لقد قلت في نفسي: سيحدث شيءٌ ما في هذا البلد، لذلك عليّ التعجيل بمغادرته. وبالتالي، بدأتُ البحث عن حلّ بأسرع وقت ممكن. كنت أعلم أنهم أصبحوا يستعملون قوارب مصنوعة بطريقة سريعة وبدائيّة فيها مخاطرة عالية، إضافة إلى حالة الطقس التي يمكن أن تسوء.. كنت أعلم كلّ ذلك ولكنّ الوضعية في تونس كانت تدفعني للمخاطرة ومغادرة البلد بأيّ ثمن. .مع ذلك حرصت على نقطة واحدة وهي متعلقة بحمولة القارب، التي لا يجب أن تتجاوز 45 شخصا.

كانت البداية في نهاية الأسبوع الذي سبق الأحداث. تصاعدت حينها السردية المتعلقة بالمهاجرين من جنوب الصحراء، الذين تمّ تحميلهم مسؤوليّة انقطاع الموادّ الغذائية وكلّ مشاكل البلاد، وبدأت الهجمات العنصريّة ضدّنا.

في مساء يوم الإثنين 3 جويلية، علمنا بمقتل تونسيّ على يد مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء. مباشرة أصبحنا جميعا مُستهدفين، خصوصا في حيّ يقع في طريق المهدية. بدأت حملات المطاردة، وأوقفوا مجموعة أولى من المهاجرين تمّ ترحيلها إلى الصحراء. كان يمكن أن تكون زوجتي وبرفقتها إبني ضمن هذه المجموعة لو لم تتمكّن من الهرب بأعجوبة. في تلك الليلة، كانت تزور إحدى صديقاتها المريضة عندما بدأ بعض السكّان بنهب المنازل. قاموا بكسر الأبواب والشبابيك ودخلوا على أصحابها من كلّ مكان. لم نفهم إلى الآن كيف وصلت قوات الأمن بتلك السرعة. كنّا نظنّ أنّهم قدموا لتهدئة الأوضاع وردع المهاجمين، ولكنّهم شرعوا مباشرة في حمل المهاجرين وتجميعهم في العربات.

إحدى المهاجرات، وهي من الكاميرون، فكّرت عندها أن تقوم بنزع ثيابها. فعلت بعض النسوة ذلك، ومن بينهنّ زوجتي، ورقصن، حينها ارتبك أعوان الحرس الوطني وتركوهنّ. لا أعرف إذا كان ما فعلته النسوة حراما، ولكنّه مكّن زوجتي وثلاث سيدات أخريات من الهرب من قبضة الأمن ومصير الإبعاد إلى الصحراء.

عندما رجعتْ زوجتي، طلبتُ منها مغادرة الحيّ والمدينة مع إبني. ولكن فيما يخصّني، قررت الذهاب للعمل في اليوم الموالي كالعادة. عندما ذهبت للعمل في صبيحة يوم الثلاثاء، أحسستُ بأنّ الجوّ العامّ تغيّر كثيرا. وطلب مني رئيسي في العمل أن أعود إلى منزلي. لكنّ المنزل لم يعُدْ يعني الأمان. إذ تكرّر السيناريو ذاته للهجوم، هذه المرّة حيث أقطن. كان الأمر مخيفا جدّا. كانت الساعة تقريبا في حدود العاشرة ليلا. كنت نائما عندما سمعتُ صوت كسر الباب… كلّ شيء كان مهشّما. كانوا عدة أشخاص يلبسون أقنعة. يحملون هروات، يكسرون كلّ ما يعترض طريقهم، وكانوا يصرخون: “أعطونا النقود أعطونا الهواتف”. أحسست أنّي أحلم… أخذتُ كلّ ما تقع عليه يداي.. صوت داخلي كان يقول لي “البس حذاءً مغلقًا من الأمام لا حذاءً عاريا”. لم أعرف لماذا ولكنّي لم ألبس الشبشب. هذا الحدس هو الذي أنقذ حياتي فيما بعد. الحذاء المغلق ساعدني على مواصلة المشي في الصحراء بينما فقد الآخرون نعالهم المفتوحة ولم يتمكّنوا من مواصلة السير على الأقدام.

لم أتمكّن من أخذ نقودي ولا من إخفاء هاتفي. في لحظة ما، أردت رميه من النافذة كي لا يأخذوه. ولكنهم كانوا يحيطون بي وبالمنزل. كانوا بأعداد كبيرة، وكانت هناك مجموعة أخرى أمام المنزل بدراجات ناريّة… كنّا بين 20 و30 مهاجرا نقطن في تلك العمارة. هذه المرّة، لم يأتِ البوليس إلى المكان. أرغمَنا المهاجمُون على الجلوس على الأرض في وضعيّة مُهينة، وعلى أن نقول: “تحيا تونس”. قاموا بضربي بعمود حديدي وصاحوا “هل ستنشد (شعار تحيا تونس) أم لا؟”
لقد كانت هجمة منظمة. أعتقد أنّهم كانوا متواطئين مع أعوان البوليس، وأنّ العمليّة تمّت مع سبق تصميم، لأنه عندما تمّ تسليمنا للبوليس كان كلّ شيء جاهزا وكانت هناك حافلة في انتظارنا. أجبرنا المهاجمون على المشي كيلومترين على الأقدام للوصول إلى الحافلات ومن ثمة عادوا أدراجهم. تسلّمنا البوليس ونقلونا إلى مركز الشرطة. لم يأخذوا منا بصماتنا ولا أسماءنا ولا أيّ معطى عن هوياتنا. ومن ثم صعدنا مرة أخرى بالحافلة ونقلونا إلى الصحراء. كانت جنسيات المهاجرين داخل الحافلة متعدّدة: ساحل العاج، الكاميرون، غينيا، مالي، سيراليون، السنغال، غامبيا، بوركينا فاسو، توغو… كنّا نظن بأنهم سيأخذوننا إلى الحدود الليبية.

حوالي الساعة الحادية عشر ليلا٬ انطلقت الحافلات الأربع وأنزلونا حوالي الرابعة صباحا في صحراء قفصة، قرب الحدود مع الجزائر. قام الأعوان بتفريقنا وتَشتيتنا عبر دفعِنا للسير في اتجاهات مختلفة، ولكن كلّها تؤدي إلى الحدود. حينها قالوا لنا “اذهبوا إلى الجزائر.. في غضون 20 دقيقة ستكونون هناك”. عندما تقدمنا، كان الدرك الجزائري يقوم بدورية تمشيط، فخشينا أن يطلق النار علينا. اتفقنا جميعا على رفض السير والذهاب للجزائر فجلسنا على الأرض وتوقّفنا عن التقدم. قلنا لهم: “إن كنتم تريدون التخلص منّا فخذُونا إلى سفاراتِنا”.

بعد قليل، قدم أعوان من الجيش الجزائري لتفريقنا مع سؤالنا: من أين أتيتم؟ أجبْناهم بأنّ أعوان الحرس الوطني التونسيّ قاموا باقتيادنا إلى هنا وأننا لا نحمل وثائق هوياتنا.. كان بعض أفراد المجموعة يحملون جوازات سفرهم المختومة عند وصولهم لتونس، وآخرون كانوا يحملون بطاقات لاجئ وآخرون لديهم بطاقات قنصلية. قام أعوان الجيش الجزائري بالتثبّت من الجوازات والقيام بالاتصالات. حينها كان الأعوان التونسيون وراءنا فوق الربوة فانطلقت محادثات بين الطرفين بالعربية. لم أفهم فحوى الحوار ولكنّي أحسست بالغضب والتشنّج فيما بينهم. قال لنا الأعوان التونسيّون: إن عدتم من هنا فسنُطلق عليكم النار، وأمرُونا بالذهاب في اتجاه آخر. بعدما سلكنا تلك الطريق لفترة سمعنا صوت إطلاق النار وانتابَنا خوف شديد. وجدنا أعوانًا آخرين من الحرس الوطني، سردْنا عليهم كلّ الوقائع وقامُوا باتصالات هاتفية مع قياداتهم. بعد ذلك، قسّمونا إلى مجموعتيْن ثمّ نقلُونا على متن حافلتيْن. قاموا بترحيل المجموعة الأولى إلى الصحراء والثانية، التي كنت ضمنها، إلى المكان الأول الذي أنزلونا فيه في المرّة الأولى.عندما صدّتنا القوات الجزائرية مجدّدا، قررّنا تقفي آثار الأقدام التي وجدناها، إذ لم يكن لدينا هاتف أو أيّ وسيلة لتحديد الاتجاهات.  كنّا نمشي في النهار وننام  ليلا تحت الأحراش.

في اليوم الموالي حاولنا مواصلة التقدّم بينما لم يكن لدينا ماء وغذاء. رأينا قرية بعيدة فتقدّمنا باتجاهها. قدّم لنا المتساكنُون الماء والطعام وحتى الثياب. قرّر بعض أفراد المجموعة (15 نفرا) مواصلة السير ومغادرة المكان خوفا من أن يسلّمنا المتساكنُون للحرس الوطني. أمّا أنا فكنتُ من الذين اختاروا البقاء. لكن من ساعدونا حاولوا بعد أيام تسليمنا لأعوان الحرس الوطني. مرّة أخرى، كان علينا الهرب فمشينا سيرا على الأقدام طوال الليل في اتجاه الأضواء التي تدلّ على القرى التي قد نجد فيها الماء والطعام. بعد ذلك، قدم الهلال الأحمر لمساعدتنا بالغذاء والدواء، واهتمّوا بنا لمدة ثلاثة أيام وأخبرونا بأنهم سيخرجُوننا من هناك، فسعدْنا كثيرا ظنا منّا بأنّ هذه المحنة ستنتهي أخيرا. ولكن مرة أخرى، قدم أعوان الحرس الوطني لنقلنا إلى مكان آخر، قالوا أنّ فيه الماء والغذاء والثياب والغرف فصدّقناهم وتعلّقنا بذلك الأمل. ظنّ البعض بأنهم يأخذوننا إلى العاصمة وظنّ البعض الآخر بأنهم سيجتَمعُون أخيرا بعائلاتهم. عندما غادر ممثّلو الهلال الأحمر، بدأنا نشكّ، فرفضنا الصعود في الحافلات، فهدّدونا لإجبارِنا على امتطاء الحافلات ورشقُونا بالغاز المُسيّل للدموع. عندها قال أحدنا “علينا الانصياع لأوامرهم٬ معنا الكثير من النساء والأطفال”. امتثلنا للأوامر ووضعنا مصيرنا بين يديْ الله.. صعدنا إلى الحافلة التي سارت بنا مئات الكيلومترات طيلة ساعات (من قفصة إلى الكاف). ألحقُونا بالمجموعة الأولى. فكنّا حينها مائة شخص تقريبا. ثمّ  قاموا بتفريقنا ونقلنا في شكل مجموعات من خمسة أنفار على مستوى الحدود الجزائرية من ولاية الكاف.

عندما كنّا بالقرب من القرى، كان الأهالي يجمعون المساهمات فيما بينهم لإطعامنا. قدّموا لنا الخبز والماء والحليب والبسكويت وحتى الطماطم والبصل لكي نضعه بالخبز. في كلّ القرى التي مررنا بها كان الأهالي يتقدّمون نحونا ويقدّمون لنا الأكل. حتى الرعاة قاموا بإطعامنا وقدّموا الياغورت (اللبن) للأطفال. لقد كنا نتقدّم سيرا دون أي معرفة بالاتجاهات، كنا فقط نتوجه نحو الأضواء التي نراها.

لم أفهم لماذا يقومون بكل ذلك٬ لماذا يطلبون منّا الذهاب للجزائر. من كان يقوم برعاية أطفالنا الذين كانوا في صفاقس؟ كان أكثر ما أشعر به هو الإنهاك واليأس، وانهرتُ مرّة بالبكاء أمام عون الحرس الوطني وأنا أسأله: لماذا تقومون بكلّ هذا؟ كنت قلقا جدّا على إبني وزوجتي..لم أعلم شيئا عن أخبارهما.

كان هناك في المجموعة الثانية امرأتان تمكنّتا من إخفاء هاتفيْهما في ملابسهما الداخلية. عندما تمكّنّا من شحن الهاتفيْن في إحدى القرى، اتّصلت إحداهما بزوجها المتواجد بفرنسا والذي تواصل بدوره مع منظمة حقوقية كانت تقدم المساعدة. تمكّنّا أيضا من الاتصال بمنظمة الهلال الأحمر بالكاف التي تنقلت لمكاننا ولكنّها قامت بإعلام الحرس الوطني عنّا.  فانعدمت ثقتنا بالمنظمات وأصبحنا يائسين. لكنّ المنظمة الحقوقية التي اتّصل بها الزوج استطاعت الاتّصال بمن تنقّل إلى مكان تواجدنا ومن ثمة إنقاذنا.

أقلّ ما يمكن أن نقوله أمام كلّ ما عشناه، هو أنّ تونس أساءتْ معاملتنا. لكلّ بلد بالتأكيد قوانينه، ولكن لا يمكن لأيّ قانون أن يجيز ما تمّ إلحاقه بنا… لقد كان شرّا محضا.. نحن لم نرتكب أيّ جرم ولم نكن نستحقّ ما أصابنا. وإذا كان هناك مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء قد ارتكب جريمة فلا يمكن معاقبة كل المهاجرين بصفة جماعيّة. عندما كنتُ في ساحل العاج أتذكّر أنه تمّ تصوير تونسي يقوم بصفع عون بوليس إيفواري، لم نقم على إثرها بطرد كل التونسيين من بلدنا ولم نأخُذهم بذنب واحد منهم. الوضعيّة تغيّرت كثيرا في تونس منذ فيفري، حين قالوا بأننا هنا لتغيير التركيبة الديمغرافية. لكنّ التونسيين يعلمون جيّدا بأننا هنا للذهاب إلى أوروبا. نحن نعمل هنا لجمع المال وتأمين رحلتنا نحو الضفة الأوروبية.

عليّ الخروج للعمل لأنني لم أعد أملك شيئا فقد سلبوني كل ممتلكاتي. ولكنني أخاف من الخروج ومن السير في الشارع وحيدا.. لم أعد أشعر بالأمان. أشعر بالخوف وأواجِه مشاكل في النوم. أخاف من أن يتكرّر ما حصل في صفاقس في بقيّة الجهات. صرت أفضّل أن أتلقّى راتبي كلّ يومين أو ثلاثة وليس بصفة شهريّة، خوفا من أن أخسر كلّ شيء. كان لدي ما يكفي من المدّخرات للذهاب. ولكن علي الآن البدء مرة أخرى من الصفر. لقد قتلوني في تلك الصحراء، ولكنّي سأعود مجدّدا وسأصل يوما ما إلى أوروبا.

“كنّا أمام احتماليْن لا ثالث لهما، إمّا السجن أو الصحراء”

كنت أقطن في صفاقس، في طريق قرمدة تحديدا، وأشتغل منذ سنوات لدى ميكانيكي. ليلة الإثنين 3 جويلية، على الساعة الثامنة، هجم علينا شباب الحيّ، قفزوا من فوق سقف المنزل وكسروا الزجاج، وكانوا مسلّحين بالسّواطير والحجر والغاز. كان عددهم كبيرا جدّا، يرتدون ثيابًا سوداء ووجوههم مغطّاة. كانوا يسمّون البناية “منزل السود”. كان كلّ منّا في غرفته، لم نفهم شيئا حينها. حاولوا افتكاك هواتفنا، ثمّ أشعلوا النار داخل المنزل، فاحترق كلّ متاعنا بما فيه وثائقنا وجوازات سفرنا. صعدْنا إلى السقف، ومعنا نساء وأطفال، حاصرونا هناك. بعضنا حاول الهرب من المنزل. تواصل الأمر من الثامنة ليلا إلى الثانية فجرا، وحاولنا المقاومة. ضربُونا بعنف شديد، حتّى أغميَ على البعض منّا..البعض الآخر تظاهر بالموت كي يتوقّف العنف.

كان جارُنا في المنزل المقابل لنا رئيس مركز شرطة، حاول مساعدتنا واستقبل عددا منّا فقَذفوا الحجارة على منزله. أصابني حينها حجرٌ في وجهي، ولكنّ العناية الإلهيّة أنقذتني. كان معنا شابّان إيفواريّان، أصيبا بضربات ساطور، نقلناهم إلى منزل رئيس قسم الشرطة، الذي اتّصل بسيارة الإسعاف ولكنّها لم تأتِ. قمنا في النهاية بنقلهما إلى الاستعجالي في المستشفى عبر سيّارة تاكسي، لكنّهما توفّيا من الغد (لم يتم نشر أسماء الضحيّتين وقد جاءت الشهادة صادمة لنا). لم تأتِ قوّات الأمن إلاّ في الثالثة فجرا، بعد سبع ساعات من بداية الهجوم، ولكنّها جاءت لأخذنا نحن. كنا حوالي 150 مهاجرا في المركز، بعضنا من دون ثياب.

كان هناك أيضا الشاب التونسي الذي أضرم النار في منزلنا، وجاءتْ معه أمّه وأخته اللّتان فعلتا كلّ شيء لإطلاق سراحه. أخذوا معطياتنا وبصماتِنا، وسألونا عن طريقة دخولنا إلى تونس وعن مدّة بقائنا فيها وعن عملنا. أجبرونا على الإمضاء على وثائق باللغة العربيّة، ورفضوا تمكيننا من مترجم رغم إلحاحِنا. حين قلنا لهم لا يمكن أن تطلبوا منّا أن نمضي على شيء لا نفهمه، أجابونا: “هذا ليس طلبا وإنّما أمر، تمضون على الوثائق لنقوم بوضع أسمائكم في سجلّ ثمّ نطلق سراحكم”. بقينا هناك حتى منتصف النهار. كانت ثيابي ملطخة بالدماء (جرّاء العنف الشديد الذي تعرّض له وما أحدثه من جروح دامية). هناك رجل أمن اشترى لنا خبزا وياغورت (لبن)، خصوصا وأن من بيننا امرأة ترضع إبنها وكانت في حالة صعبة. كنت احتفظتُ بهاتفي، فبقيت على اتصال مع خطيبتي في فرنسا، وكانت آخر رسالة أرسلتها لها على الساعة الثانية: نحن في انتظار أن يطلق سراحنا. كنت وضعتُ هاتفي في الشاحن، وهو مبرمج للرنّ كلّ يوم على الساعة الرابعة. حين رنّ، حاولتُ أخذه لإسكات الجرس. فاعتبر عون البوليس أنّني أحاول تصويرهم، فافتكّ منّي الهاتف وضربني على ظهري، وقال لي أنّه سيبحث في الهاتف.

كانوا قد فرّقونا حينها، حوالي ثمانين رجلا من جهة، والنساء والقصّر من جهة أخرى. كانت النسوة يبكين ويطالبن بعدم فصلهنّ عن أزواجهنّ. كنا نعتقد أنّنا الضحايا وأنّهم سيحمُوننا من المعتدين علينا ثم يُطلقون سراحنا، ولكنّنا في النهاية فهمنا حقيقة الوضع حين وضعوا لنا الأصفاد ونقلونا أزواجا، في كلّ عربة 16 نفرا. فهمْنا أنّنا في حالة احتفاظ، حين وضعونا في أربع غرف إيقاف. كان هناك عون أمن تونسي أسود البشرة، وكان طيّبا جدّا معنا، بقي معنا في الليلتين اللتين قضّيناهما في الاحتفاظ، ولكن في النهار كان هناك عون آخر. طلبوا منّي فتح هاتفي، فألححتُ عليهم أن لا يتّصلوا بزوجتي وأمّي كي لا يخيفونهما. كانت الحرارة عالية جدّا داخل الغرف، وكنا تحت مراقبة الكاميرات. لم أفهم ما الذي أوصلنا إلى هنا ولكنّي فهمت تدريجيّا أنّنا أمام احتماليْن لا ثالث لهما، إمّا السجن أو الصحراء. كنت خائفا جدّا وكنت أصلّي وأدعو لأنّي لم أعرف الصحراء من قبل، وقد وصلت إلى تونس عبر الطائرة.

يوم الثلاثاء جاء شخصٌ يرتدي بدلة بقائمة من الأسماء لترحيلها، معظمهمّ غينيّون، وكان أيضا من بينهم 5 إيفواريين وكامرونيّان إثنان وآخران من مالي والكونغو. كان أحد الموقوفين معنا مرعوبا ويبكي كثيرا، وقد ظلّ يتقيّأ طوال الليل.

ثمّ أخذوا البقيّة مجدّدا بالأصفاد إلى شاحنات في ظروف سيّئة. لم نكن نعلم الاتجاه، إن كان الصحراء أم السجن. في النهاية أخذوا مجموعتنا إلى السجن وقسّمونا على الغرف: أربعة في كلّ غرفة. وبذلك، انفصلت عن أصدقائي. كنت أنا وصديق آخر إيفواري من طالبي اللجوء المسجّلين لدى المفوضيّة، ولكنّنا فقدنا كلّ وثائقنا في الهجوم على المنزل.

كنت أسأل باستمرار عن سبب إيقافنا، من دون إجابة. كان التونسيُون الموقوفون هناك يقولون أنّنا متورّطون في جريمة قتل التونسي التي زادتْ معها الأحداث اشتعالا. في الغرفة التي زُجّ بنا فيها، كان هناك أيضا أعوان أمن تونسيون مسجونون، وكانت نظراتهم لنا مريبة، ثمّ فهموا مع الوقت أنّنا أيضا ضحايا. كان هناك كبران للغرفة (أحد السجناء الذين تختارهم الإدارة لتمثيل سجناء الغرفة وتنظيم الحياة داخلها)، وكان هنالك كبران آخر تونسي أسود البشرة ينظّم أحوالنا نحن السود، وكانت معاملته لنا جيّدة ويحسّ بمعاناتنا. حين عرضوني على قاضي التحقيق، كان هناك محامٍ للرابطة التونسية لحقوق الإنسان الذي بفضله أُطلق سراحي، فاستطعت الالتحاق بأخي في تونس العاصمة. لكنّ حلمي يبقى الالتحاق بحبيبتي في فرنسا.

تفاؤل (السودان):

هي ممرّضة، هاجرت مع زوجها ياسين والجنين الذي في بطنها، من السّودان إلى تونس سيرا على الأقدام، بعد اشتعال الحرب الداخليّة هناك، في مسعى للوصول إلى أوروبا. كانا يقطنان ويشتغلان في جرجيس. أوقِفا من طرف رجال الأمن التونسي في بداية أوت، وألقيَ بهم في الصحراء الحدوديّة مع ليبيا مع مجموعات أخرى من المهاجرين، بعد تعنيفهم وافتكاك هواتفهم. وجدهم الحرس الليبي بعد أيّام من المشي من دون ماء ولا غذاء.

تفاؤل

باتو (الكاميرون):
جاء من ليبيا مع زوجته الإيفواريّة فاتي دوسو وابنتهما ماري، بغية توفير تعليم لها، بعد خمس محاولات فاشلة للوصول إلى أوروبا. أوقفوا بعد دخولهم التراب التونسي في جويلية 2023، مرّة أولى ثمّ مرّة ثانية، وألقى الأمن التونسي بهم في الصحراء الحدوديّة مع ليبيا، بعد أنّ تمّ تعنيفهم وتهشيم هواتفهم. اضطرّوا إلى شرب فضلاتهم كي لا يموتوا عطشا. لم يستطِع باتو مواصلة المشي، فطلب من فاتي وماري المواصلة من دونه. في النهاية، تمّ إنجاده هو، وتوفّيت زوجته وابنته وتحوّلت صورتهما إلى رمز لمعاناة المهاجرين في كلّ المنطقة المغاربيّة. “كنت أتمنّى لو وجد حرس الحدود الليبي ثلاث جثث وليس اثنتين فقط”.

باتو

زينب (مالي):
التحقت بأختها المستقرّة في صفاقس للعمل. تمّ إيقافها في بداية أكتوبر مع عشرات المهاجرين وألقي بهم في ولاية القصرين في الحدود الجزائريّة، بعد تعنيفهم وافتكاك هواتفهم. ظلّت مع مجموعة من المهاجرين الآخرين من مالي وغينيا يمشون على أقدامهم إلى غابات الكاف، من دون غذاء أو ماء، وسط عجز المنظّمات والمتطوّعين عن مساعدتهم، رغم المحاولات.

زينب

“داكيتي” (غينيا):

اعترض الحرس البحري التونسي في 17 سبتمبر مركبهم الذي كان يقلّ أكثر من 40 مهاجرا، وقد اقترب من المجال الإيطالي. وقع اقتيادهم إلى ميناء صفاقس، أخذوا منهم كلّ ما يملكون بما فيه جوازات سفرهم، ثمّ وضعوا في حافلات ونقلوا إلى الحدود مع الجزائر، بعيدا عن المعابر الرسميّة. حسب منظمة هيومن رايتش واتش، أصبح هناك مؤخرا بروتوكول منظّم لعمليات اعتراض المهاجرين، يتمّ وفقه إبعادهم مباشرة إلى الحدود البرّية، في مجموعات صغيرة كي لا يثير الأمر ضجّة. بين 15 و19 سبتمبر، مع اشتداد الضغوط الإيطاليّة، اعترضتْ تونس قرابة 3000 مهاجرا في البحر، معظمهم من جنوب الصحراء.

داكيتي

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص في العدد 27 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

للاطلاع على العدد كاملا، إضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني