هجمة ضدّ الدولة وإرادة العيش المشترك


2023-10-18    |   

هجمة ضدّ الدولة وإرادة العيش المشترك
رسم رائد شرف

خلال الفصل الأخير، انطلقت هجمة واسعة ضدّ المثلية وألوان أقواس قزح. وإذ شارك فيها زعامات سياسية ووزراء ونواب وقضاة ورؤساء بلديات ورجال دين، فقد أخذت في محطات عدة منها طابعًا سورياليا وبدتْ في العديد منها وكأنها تجهد لإجهاض التحوّلات الاجتماعية التي حصلت في العقود الأخيرة في اتجاه يعيد عقارب الساعة إلى الوراء في مجال مدنية الدولة كما في مجال الحريات العامّة والخاصّة. ولعلّ أخطر ما في هذه الهجمة هو اقترانها بنزعة من السلطة الحاكمة لإحكام هيمنتها ليس فقط على القرارات العامّة، ولكن أيضًا على الفضاء العام والحيّز الخاص على حدّ سواء.

وهذا ما سأسعى إلى رسمه في هذا المقال من خلال التوقّف عند ثلاثة منزلقات أو سقطات رشحت عنها هذه الهجمة.  

النظام العامّ الدّيني

أوّل ما يلفت في الهجمة المذكورة هو إشهار ما جاز تسميته “النظام العامّ الديني”، وهو النظام المناقض للدستور والقوانين المعمول بها. ففي حين يضمن الدستور للطوائف تنظيم أحوال المنتسبين إليها أو ممارسة الشعائر الدينية شرط عدم الإخلال بالنظام العامّ أي النظام العامّ الذي تضعه الدّولة (المادة 9 من الدستور والقرار 60 ل/ر)، برز مؤخّرًا خطاب مناقض تمامًا قوامه عدم جواز إقرار حقوق مدنيّة بحجة مخالفتها للنظام العامّ الديني والذي تمّ التعبير عنه من خلال تسمية “نظام الخالق”. هذا ما انبثق بشكل خاص عن لقاء هجين حصل للمرة الأولى بين الحكومة اللبنانية والبطريرك الماروني في الديمان وانتهى إلى وجوب “التشبّث بالهوية الوطنية وآدابها العامّة وأخلاقياتها المتوارثة جيلًا بعد جيل، وقيمها الإيمانية لا سيما قيمة الأسرة وحمايتها ومواجهة الأفكار التي تخالف نظام الخالق والمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون”. وفيما وُصِف هذا اللقاء أنّه استشاريّ، فإنّ التطبيقات الأولى له دعتْ إلى التعامل معه على أنّه ملزم. وهذا ما نستشفّه من الطلب الذي وجهه وزير الثقافة محمد المرتضى إلى الأمن العامّ ووزارة الداخلية في تاريخ 9 آب 2023 بوجوب عدم إعطاء إجازة عرض لفيلم “باربي” لتعارضه مع خلاصات لقاء الديمان والتي يتعيّن وفق الوزير “الالتزام تمام الالتزام” بها. وقد علّل المرتضى طلبه بأنّ الفيلم يسوّق “فكرة بشعة مؤداها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم والتشكيك في دور الزواج وبناء الأسرة وتصويرهما عائقًا أمام التطوّر الذاتي للفرد”، فضلًا عن أنّه “يروّج للشذوذ”.

وإذ انتقدت “المفكرة القانونية” الوزير المرتضى على خلفيّة أنّه أعلن مرجعيّة لقاء الديمان في إنكار ضمنيّ للدستور، لم يجدْ الوزير حرجًا في ابتداع قراءة مشوّهة للدستور وبخاصّة مادته 9 تدعيمًا لموقفه، بهدف التأكيد على فوقية “نظام الخالق”. فقد قفز الوزير إلى الجملة الثانية من المادة لجهة أنّ الدولة تؤدّي فروض الإجلال لله تعالى بعدما أسقط الجملة الأولى التي تنصّ صراحة على أنّ حرية المعتقد “مطلقة”. فإذا تمّ ذلك، أعلن من دون أيّ تردّد أنّ التزام الدولة بتأدية فروض الإجلال لله تعالى إنّما يعني حكمًا الالتزام بالمعتقدات الدينية للمسيحية والإسلام والقيم الأخلاقية المنبثقة عنها، فاتحًا بذلك بابًا واسعًا للانقضاض على مجموعة من الحرّيات وفي مقدّمتها حرّية المعتقد. والواقع أنّ هذا التفسير مغلوط جملة وتفصيلًا طالما أنّ موجب تأدية فروض الإجلال ملقى على عاتق الدولة وأنّ حرّية الأفراد بالمعتقد تبقى في المقابل “مطلقة”. ومن المهم هنا التشديد على أنّ الدستور خصّ حرية المعتقد بتوصيف “مطلقة” للدلالة على أنّها حرّية غير قابلة لأيّ انتقاص أو تقييد، وذلك بخلاف الحرّيات الدستورية الأخرى التي تحتمل التقييد في ظروف وبشروط معيّنة. وهذا ما تأكّد لاحقًا في المادتين 18 من كل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966)، وهما مادتان بات لهُما قوّة دستوريّة بحكم الفقرة “ب” من مقدمة الدستور تبعًا لتعديلات الطائف. في الاتجاه نفسه، ذهب المجلس الدستوري في قراره رقم 1 تاريخ 23/11/1999 حيث اعتبر أنّ المادة 9 من الدستور “تنطوي على موقف محايد للدولة تجاه الأديان”، بمعنى أنّ الدولة في لبنان لا تتبنّى أيّ دين رسميّ لها، ولا تهدف إلى فرض الأخلاق الدينية على المواطنين كونها دولة مدنية ومصدر شرعيّتها هي إرادة الشعب اللبناني صاحب السيادة وفقًا للفقرة “د” من مقدمة الدستور. لا بل إنّ قضية “شطب القيد الطائفي” ما كانت لتنجح لولا تسليم الإدارات العامّة بحرّية المعتقد وفق المادة 9 من الدستور التي تضمن للفرد حرّية “الانتماء أو اللاانتماء إلى طائفة والتّصريح أو اللاتصريح عن خياره بهذا الشأن” وتاليًا حرّية الالتزام بالقيم الدينية أو عدم الالتزام بها (هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل في تموز 2007).

ومن المهم هنا التنبيه إلى أنّ التشويه حصل ليس فقط بفعل تجاهل الطابع المطلق لحرّية المعتقد، إنّما أيضًا بفعل الخلط بين مفهوم “إجلال الله تعالى” أو أيضًا مفهوم احترام الأديان الوارد في المادة 10 من الدستور والالتزام بقيمها. وهو خلط مغلوط: ففيما احترام الأديان يفرض الامتناع عن تحقير رموزها وشعائرها، فإنّ الالتزام بقواعدها يتجاوز بكثير ما يفرضه موجب الاحترام ليصل إلى مستوى الخضوع المنافي تمامًا لحرّية المعتقد. ولعلّ أشهر القضايا الدالّة على عدم جواز الخلط بين هذين الأمرين، هي قضية إنشاد مارسيل خليفة لآيات قرآنية ضمن قصيدة “أنا يوسف يا أبي”، وهي القضية التي أثارتها دار الإفتاء على خلفية أنّ إنشاد الآيات يتعارض مع قواعد الشرع الإسلامي. وقد انتهى القضاء الجزائي في بيروت (القاضية غادة أبو كروم) إلى إسقاط الملاحقة ضدّ خليفة بعدما بيّنتْ أنّ مخالفة القاعدة الشرعية لا تشكّل تحقيرًا للدين وأنّ الحرية الفنية لا تخضع للقيود الشرعية أو لما تحدده من مسموح وممنوع وأنّ إنشاد الآيات “المخالف للقاعدة الشرعية” لا يُشكّل تحقيرًا للدين طالما أنه تمّ بوقار واحترام (قرار 15/12/1999). وقد عاد القضاء ليكرّر مواقف مماثلة في قرارات أخرى، وثّقتها “المفكرة القانونية” وكلّها ذهبت إلى التأكيد أنّ عدم الالتزام بالقواعد والمعتقدات الشرعية لا يشكّل أيّ تحقير للدين، وأنّ أيّ تأويل مختلف إنّما ينقلنا من نظام حرّية المعتقد إلى نظام هيمنة الأديان.

ومن المهمّ بمكان هنا الإشارة إلى أنّ استخدام المادة 9 من الدستور للدفاع عن هيمنة الأديان ليس جديدًا، حيث كانت مرجعيات دينيّة قد أثارتْه في أكثر من مكان لمنع أيّ مسّ باحتكار الطوائف تنظيم الأحوال الشّخصية. للتذكير مثلًا، أثارت المحاكم الشرعيّة هذه المادة في معرض احتجاجِها على تطاول القضاء المدني على صلاحيّاتها وذلك في معرض تطبيق قانون حماية الأحداث، وتحديدًا المادة 25 منه التي تجيز لقاضي الأحداث اتخاذ قرارات لحماية أيّ طفل قد يكون في حال خطر. وقد اعتبرتْ هذه المحاكم أنّ تدخّل هذا الأخير لإبقاء طفل في كنف أمّه خلافًا للقاعدة الشرعية التي أوجبتْ نقله إلى أبيه بحكم بلوغه سنّ السابعة إنّما هو تطاول عليها مخالف للمادة 9 التي ضمنتْ للطوائف تنظيم أحوالها الشخصية. وإذ حسمت الهيئة العامّة لمحكمة التمييز هذا الجدل لصالح قضاء الأحداث (7/7/2009)، ولّد هذا النقاش دينامية إيجابية داخل المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى (السنّي) دفعه إلى رفع سنّ الحضانة من 7 سنوات للذكور و9 سنوات للإناث إلى 12 سنة. وقد شكّل هذا التحوّل انعكاسًا هامّا لتطوّر الحياة المدنية والقيم التي تفرزها على التنظيمات الدينية، في اتّجاه اعتبار التدابير المتّخذة لحماية أيّ طفل من الخطر بمثابة نظام عام مدنيّ (أو خط أحمر) يتعيّن على الطوائف الالتزام به.

الأمر نفسه شهدناه في فترة لاحقة في معرض الجدل حول قانون حماية أعضاء الأسرة وبخاصّة النساء من العنف الأسري، والذي انتهى هنا أيضًا إلى منح القضاء المدني صلاحيّات حمائية واسعة، وذلك اعترافًا بخطّ أحمر آخر قوامه عدم جواز تعريض النساء للعنف الأسري، وهو خطّ أحمر نتج هو أيضًا عن تطوّر الحياة المدنية وأقرّ القانون وجوب تقيّد الطوائف به. وعليه، يتحصّل بوضوح وفق الدستور، أنّه عدا عن أنّ احترام الأديان لا يعني مطلقًا الالتزام بقيَمها، فإنّه لا يشكّل مطلقًا مانعًا دون تطوّر القيم المدنية، أي القيم التي تنبثق عن العيش المشترك وتشكّل محورًا لوحدتِهم وتكون ملزمةً للطوائف.

وعليه، وعدا عن عدم دستورية إعلان الديمان والتفسيرات التي أعطاها وزير الثقافة له، فإنّ أخطر ما قد يؤدّي إليه هو تجميد المجتمع في انقساماته ومنعه من تطوير قيمه المشتركة العابرة للطوائف على ضوء تطوّره الطبيعي.

الهيمنة على الفضاء العامّ أو تابوهات لا تحتمل النقاش   

أوّل الشواهد على السعي إلى إقصاء المثلية من الفضاء أو المشهد العامّ تمثل في القرارات التي اتخذها وزير الداخلية بسام المولوي في منع ليس فقط التظاهرات في الأماكن العامّة، إنّما أيضًا اللقاءات والندوات في الأماكن الخاصّة. وقد تُرجمت قرارات وزير الداخلية بصورة كاريكاتورية من قبل “جنود الرب” الذين نشطوا لإزالة كلّ ما قد يرمز إلى المثليّة، وتحديدًا ألوان قوس قزح. إلّا أنّ هذه المساعي بلغتْ منزلقًا أكثر خطورةً مع بروز توجّه لإعادة إحياء تابوه في شأن المثلية، وبشكل أعمّ للتحكّم بما يقال أو لا يقال أو ما يمكن أو لا يمكن التفكير فيه. وإذ تمثّل هذا التوجّه بشكل خاص في المقترحات الثلاثة المقدّمة تباعًا لتجريم “الترويج للشذوذ الجنسي”، من قبل مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير ووزير الثقافة محمد المرتضى والنائب أشرف ريفي، نلحظ بشكل خاصّ أنّ مقترح المرتضى ذهب ليس فقط إلى معاقبة الترويج الصريح للمثليّة إنّما أيضًا وبالقدر نفسه الترويج الضمنيّ لها، من دون أن يكبّد نفسه عناء تعريف المقصود من ذلك. وما يزيد من غموض هذا المفهوم واحتمالات تطبيقه للتضييق على حرّية التعبير والنقاش العامّ هو ما أورده في الأسباب الموجبة لمقترحه حيث جاء حرفيًا أنّ لبنان يواجه “هجمة من شأنها إذا نجحت، لا قدر الله، أن يكون لها أبشع الأثر على المجتمع والأجيال الناشئة، وهذه الهجمة تتمثّل بسعي ممنهج من بعض العناصر التي تنشط متماهية مع أجندات بعض الجهات التي تعمل تحت ستار المنظمات غير الحكومية، للتّرويج للشّذوذ الجنسي والتحوّل الجنسي والحضّ عليهما وتصويرهما على أنّهما من الأمور الطبيعية بل من المسلّمات وفق معايير الحداثة والترقّي الاجتماعي والتحضّر الإنسانيّ”. وعليه، يتبدّى إذًا أنّ مجرّد تصوير المثلية على أنّها من “الأمور الطبيعية” يُعتبر من منظور الوزير المرتضى ترويجًا ضمنيًا لها. وهذا ما قد يحصل مثلًا في حال إصدار توضيح علمي من جمعية الأطباء النفسانيين بأنّ المثلية هي ميل طبيعي وأنّها ليست مرضًا عملًا بما انتهت إليه منظمة الصحة العالمية، أو في حال تقديم اقتراح قانون لإلغاء المادة 534 من قانون العقوبات أو الإعلان عن مطلب حقوقي بإلغاء تجريم المثلية أو انتقاد الفحوصات الشرجية أو العنف المرتكب ضدّ المثليين أو رهاب المثلية.

فكأنّما المُستهدف من هذا الاقتراح ليس التشويق لممارسة المثلية كبثّ أفلام جنسية مثلًا، إنّما أيضًا وربما قبل كل شيء أيّ ندوة علميّة أو حقوقيّة أو عمل فنّي يتناول المثلية أو التحوّل الجنسي على أنّها أمر طبيعيّ أو مكافحة المثلية على أنّه اعتداء على فئة هشّة. وعليه، وبكلام آخر، يتبدّى أنّ المُستهدف هو بالدرجة الأولى النقاش العامّ المتّصل بالمثليين والعابرين والذي لا يخفي وزير الثقافة رغبته في طمسه والسّيطرة عليه وصولًا إلى إخراس أيّ موقف معارض لمعاقبة المثلية، تمامًا كما كان يحصل في الأزمنة التي كانت المثلية تخضع فيها لتابوهات ومسلّمات اجتماعية قامعة. وما يؤكّد ذلك هو تشديد مقترح المرتضى على وجوب حلّ الجمعيات غير الحكومية فور التثبّت من صحّة اتهامه لها بالتورّط في ذلك، بما يشكّل تهديدًا لحرّية الجمعيات والحركة الحقوقية برمّتها.

فكأنّما يُراد تعميم نظام الفيتوات السياسية، بحيث يشمل ليس فقط القرارات والمؤسّسات العامّة بل أيضًا الفضاء العامّ ومعه النقاش العامّ وتطوّر الوعي والثقافة الاجتماعية، وصولًا إلى وضع المجتمع برمّته تحت وصاية السلطة السياسية الحاكمة وما تحبّه أو تكرهه وما تستحليه او تستبشعه. كلّ ذلك في تعارض تامّ مع مبادئ حرّية التعبير التي تمنع منعًا مطلقًا أيّ تقييد لحرّية النقاش العامّ في المسائل العامّة بما فيها المطالبة بإلغاء عقوبة جزائية عن أيّ فعل، على خلفية أنّه يناقض أصول الديمقراطية (الشرح العامّ رقم 34 على المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية).

لا حرمة للحيّز الخاص 

الأمر الثالث الخطير الذي رشحت عنه الهجمة ضدّ المثليّة هو التوجّه لتأكيد وضع اليد على الحيّز الخاص. بمعنى أنّ السّلطة الحاكمة تعلن أنّها تتحكّم ليس فقط في القرارات العامّة أو في الخطاب العامّ، إنّما أيضًا في الحيّز الخاصّ وعمليًا الأسرة والجسد. وقد تجلّى ذلك ليس فقط في تأثيم المثلية واعتبارها مخالفة للقيم الدينية أو لنظام الخالق، ليس فقط في استعادة توصيف المثلية بالشذوذ في سياق خطاب رسمي تشوبه الكراهية والرفض التامّ وكثير من التحريض، إنّما أيضًا في التوعّد بتسخير العقوبة الجزائية في هذه الهجمة. وهذا ما يتحصّل من بعض المقترحات القانونية التي دعتْ إلى اعتبار العلاقات المثلية جناية يعاقب عليها حتى 10 سنوات سجن أو إلى رفع العقوبة الجزائية لتصل إلى 3 سنوات حبس. لا بل أنّ اقتراح النائب أشرف ريفي ذهب إلى حدّ استباحة حرمة الحيّز الخاصّ بشكل تامّ من خلال توسيع المعاقبة لتشمل كل من “يخبّئ” العلاقات المثلية أيضًا. 

وقد أتتْ هذه المقترحات هنا أيضًا بمثابة إدانة لتطوّر الحياة المدنية وسقوط التابوهات التي كانت تشكّل حائلًا دون تطوّر العلاقات المثلية أو أقلّه الإعلان عنها، وبالأخصّ للقرارات القضائيّة التي رفضتْ تطبيق المادة 534 على العلاقات المثلية تبعًا لاعتبارها حقًا (وتاليًا فعلًا) طبيعيًا أو بكلّ بساطة فعلًا لا يخالف الطبيعة. فكأنّما هنا أيضًا تهدف الهجمة إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإحباط أي تطوّر حقوقيّ في هذا المضمار. وفيما يصعب أن يستتبع خطاب الرفض هذا قمع الرغبات أو حتى الإعلان عنها، لا يجوز في المقابل التقليل من نتائجه السلبية في إشاعة جوّ من الكراهية والتهميش ضدّ المثليين على خلفية هويّاتهم الجنسية وتاليًا في تقويض إرادتهم وإرادة عوائلهم (الحريصة على حفظ كراماتهم وحمايتهم من التنمّر والابتزاز) في العيش المشترك، مع ما قد يستتبع ذلك من تهميش ذاتي أو تهجير قسري. وهو أمر يتعارض تمامًا مع الفقرة “ي” من مقدمة الدستور التي تعتبر أيّ سلطة تخالف ميثاق العيش المشترك فاقدة للشرعية.  

من هذه الزاوية، يأخذ مفهوم الشذوذ من منظور المشاركين في الهجمة على المثلية معنى مغايرًا: فهو ليس الشذوذ عمّا هو طبيعي، إنّما ببساطة الخروج من الأطر الطائفية التي تتحكّم في خيارات الفرد. فلا تنشأ أي مساحات مدنية من خارج هذه الأطر، بما يضمن هيمنة هذه الأطر وتأبيدها ومعها حدّة الانقسام الاجتماعي. فلا شيء إلّا هذه الأطر، ولا شيء من خارجها إلّا الشاذون و”الخوارج”.    

نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، حرية التعبير ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني