نبض الجنوب في أيّام الهدنة: “كم نكره التّيه”


2023-12-04    |   

نبض الجنوب في أيّام الهدنة: “كم نكره التّيه”
استغل الجنوبيون الهدنة لقطف ما بقي من زيتونهم على أمه في القرى الحدودية المتاخمة لفلسطين

لم يكد فجر هدنة 24 تشرين الثاني 2023 قد انبلج حتى قاد ناصيف مواسي سيارته من البرجين حيث تسكن شقيقته نحو عيترون بلدته في جنوب لبنان، بمحاذاة الحدود مع فلسطين المحتلة. ليلتها، قضى أبناؤه الثلاثة سهرتهم في توضيب الأغراض “ما بدنا نضيّع وقت الصبح، دغري بدنا نمشي ع الضيعة”، قالوا لأمّهم المتحمّسة مثلهم للعودة إلى منزلهم في منطقة قَدّس، وتحديدًا على يمين الطريق مقابل موقع المالكية حيث يركز جيش الاحتلال الإسرائيلي أحد مواقعه العسكرية المُحصّنة. يُرجِعُ أهالي عيترون تسمية الحيّ إلى عاصمة فلسطين “القُدس”، فعبره تمتدّ طريقهم الترابية في ترحالهم القديم نحوها، لتتحول مع الوقت وتعاقب الأجيال إلى “قَدَس”. “قَدَس” نفسها المحبوسة اليوم وراء السياج الشائك الذي بترها عن سميّتها المدينة-الأم، ما زال أهلها يحرصون على سير طريقها لغاية الأسلاك الشائكة، فقط ليحافظوا على معالمها من جور الاحتلال والزمن. هناك اختار ناصيف السكن، وهناك ترعرع أبناؤه، فيما تحوّلت الأراضي الفسيحة التي تزنّر المنزل من جميع الجهات إلى مرتع لطفولتهم، برغم الدبابة المعادية المرابضة أبدًا، مُسلّطة مدفعيتها نحو عيترون مرورا بالبيت.

في قَدَس، وقبل أن يطفئ ناصيف محرّك سيارته، فتح حسين، ابنه “الوسطاني” بابها وهرع نحو حظيرة المواشي ليفتحها مسرعًا إلى الداخل. توجّه نحو عِجلته الصغيرة، وهي بقرة حديثة الولادة ذات خمسة أشهر، وجعل يقبّلها على رأسها، ويضمّها إلى صدره فرحًا ببقائها على قيد الحياة. لم يتركْ ناصيف ماشيته مختارًا، إذ يبعد بيته نحو ألف متر خط نار عن مدفع الدبابة وجحافل العسكر المحتلين المتأهّبين دائمًا. وبعد استهدافهم مدنيين وصحافيين، خاف على أسرته التي رفضت المغادرة من دونه، خصوصًا وأنّ حصة عيترون من الاعتداءات والاستهداف كبيرة منذ 8 تشرين الأوّل الماضي، مع تضرّر نحو 50 منزلًا فيها بالقصف المعادي. لم يشأ ناصيف المخاطرة بأبنائه، هو الذي عاش أهوال عدوان 2006 ولم يكن يومها قد رزق سوى بطفله الأول، فكيف مع ثلاثة أبناء اليوم؟

انتهى حسين من تقبيل العِجلة الصغيرة ليهرع نحو البيت ويأتي بالشامبو وغالون مياه “صارلها زمان ما تحمّمت” قال لوالده قبل أن يبدأ بغسلها، ومن ثمّ غسل الخواريف الثلاثة المتبقية في الحظيرة. كانت “عَجّولة”، كما يسميها، مُتعبة وعطشى والأهم بدا عليها الوهن والضعف: “كنّا لقيناها ميتة مع الخواريف لو تأخرنا نهارين بعد”، يقول ناصيف فرحًا بنجاة مواشيه “أنا حطيت لهن أكل كتير وفكيت رباطاتهم ليفلتوا بالزريبة وسكرت عليهم الباب، بس الميّ خلصت وعطشوا كتير بغيابنا”.

كان ناصيف وعائلته سعداء بعودتهم، متلهفين لحياتهم الطبيعية، هو الذي باع بقراتِه الأربع، ومن بينهم أم “عجّولة”، وكانت بقرة حلوب كريمة قبل بدء العدوان بيومين، فصار موضع تندّر أهالي عيترون: “ناصيف كان عارف بالعدوان وزمط وباع بقراته بسعرهن”، خاصة بعد أن اضطر معظم مربي المواشي في البلدة والخط الحدودي، إثر بدء العدوان، إما إلى بيع أبقارهم وأغناهم وماعزهم بثلث السعر أو النزوح بهم نحو الساحل والبقاع وهي عملية صعبة ومكلفة أيضًا، وتترك خسائر فادحة عليهم. وفي خضم انشغاله في إنعاش خرافه و”عَجُّولة” من الضعف الذي ألمّ بها، يحمل ناصيف همّ الموسم الزراعي الشتوي، هو الذي يمون على نحو 50 دونمًا من أراضي جيرانه المغتربين فيزرعها بالخضار العضوية البعلية “بيقولولي فلاح وازراع مطرح ما بدك بغيابنا وأنا ما بكذّب خبر، مطرح ما بلاقي تراب بقول للتراكتور فلاح”، ليشيد بمنتجاته: “ما بحط أسمدة ولا أدوية كيماوية بس بعشّب المزروعات من النباتات الطفيلية وبطمرهن (أي يغطي جذوعها المكشوفة بالتراب) وبيطلع عندي أحلى موسم لبيتي وبيوت رفقاتي وكذلك لمن يرغب”.  لا يبيع ناصيف إلا ما تصنعه زوجته من ربّ البندورة “ما معوّد بيع إلاّ الدخانات (كمزارع تبغ)، الباقي من زراعة الخضار بوزعه ونحن مناكل ومنمون”. يكتفي ببيع منتجات أبقاره ورؤوس الأغنام، ومعها نحو 1000 كيلوغرام من الدخان يسلّمها للريجي سنويًا، و”عندي معاشي كعسكري متقاعد”. نشاط زراعي يتيم لا يمارسه ناصيف وهو تربية الدجاج بسبب ما يسميه “قطعان الواويي (الثعالب) التي تتنقل بين فلسطين ولبنان: “في كتير تعالب وحرام خلفو وعندهم صغار بضل حطلهم أكل واهتم فيهم”، هؤلاء جاؤوا إليه مع الهدنة بمجرّد أن لمحوا سيارته وعائلته، فسارعت زوجته إلى إطعامهم من كيس بقايا اللحوم التي جلبها معه ناصيف من الملاحم المنتشرة على طريق عودته إلى عيترون.

وناصيف يتحدّث عن رزقه وحياته التي يُحب، تتغير ملامحه، ينظر من حوله راضياً، ثم إلى السماء فوقه تمتدّ زرقاء صافية ليقول: “ما بدّي أكتر من هيك، عيلتي وبيتي ورزقي وهالأرض هون ب قَدَس”. ومع لفظه قَدَس يصوب عينيه نحو موقع الإحتلال أمامه في المالكية “بس بدي ينقلعوا عنا، وما رح إرجع فلّ إلاّ إذا خربت ع الأخر”، وهو ما حصل صباح أمس الجمعة حين أمطرت إسرائيل مع انتهاء الهدنة المنطقة من حوله بالصواريخ، ما دفع بمعظم العائلات التي عادت مع الهدنة إلى النزوح مجدداً.

وعليه، “تاه” ناصيف، كما يسمي الجنوبيون النزوح، إلى كَونين البعيدة عن الخط الحدودي الأحمر نسبيا ليسكن في منزل دبره له صديقه “بس طلع البيت ع حافة وادي كونين وعشنا أنا وولادي ليلة بشعة كتير خاصة عندما أُصيب خزان المياه على السطح، بقيو الولاد قاعدين كل الليل، ما ناموا بانتظار الصبح، فغادرنا إلى منزل أصدقائنا في صفد البعيدة عن مرمى العدوان نسبيا”. وهي ليلة حلّت صعبة على من بقي في القرى الحدودية كون بلدة كونين خارج مناطق قواعد الاشتباك المتعارف عليها، ويعتبر قصفها خرقا لها، للقواعد.

مريم أيوب في مارون الراس: لن نترك الزيتون

أبعد من التعلّق العاطفي بالجنوب

مع حلول هدنة 24 تشرين الثاني الإنسانية التي اتُفق عليها في غزة وانسحبت تلقائيًا على لبنان لغاية انتهائها عند السابعة من صباح الجمعة، الأوّل من كانون الأول الجاري، عاد آلاف الجنوبيين إلى قراهم راسمين مشهدا لهذه العودة يقول كثيرون أنّه يتخطّى التعلق العاطفي لأي إنسان ببيته وأرضه. طريقة عودتهم ولهفتهم تكشف تفاصيل سرّ هذه العلاقة التي تدخل في صلب نمط حياة أهل الجنوب وسلوكياتهم العملانية.

هنا، في الجنوب، وحتى في المنطقة المتاخمة لفلسطين مباشرة، والمصنفة حمراء في خريطة “قواعد الإشتباك” المتزامنة مع العدوان على غزة، عاد الناس إلى الأرض قبل البيوت. حاول بعضهم، كمريم أيوب، في أعلى تلة مارون الراس، وعلى ضربة حجر من مستوطنة أفيفيم المحتلة في الجليل الفلسطيني، قطف الزيتون الذي أبقته القذائف على أمه، فيما نشط الفلاحون لتعويض ما فاتهم من حراثة الأرض مستعينين بالبغال وثيران البقر عندما عزّ عليهم العثور على تراكتور غير ملتزم بأجندة مواعيد طويلة، فأخرجوا أدوات أبائهم وجدودهم البدائية واستعانوا بها متحسبين من استئناف العدوان، وكما توقعوا حصل مع استئناف القصف صباح الجمعة الماضي.

وهنا في الجنوب لكل شيء قيمة في اقتصاد الأسر التي تعتمد على الزراعة حتى الموظفون من بينهم وكذلك المتفرغون الحزبيون. فلا يفوّتون أيّ فرصة لاستثمار مقدرات المكان، فتكثر قطعان الماعز والغنم ومعها مزارع الدواجن، وقفران النحل. ويكاد لا يخلو بيت من قنّ دجاج، فيما تستعيض العائلات عن الأرض، عندما يعزّ تملكها، بطبول (أوعية زراعة الورد) يشتّلونها نعنعًا ومردكوشًا وحبقًا وغيرها من الحشائش التي تدخل في مكونات الطبخ، وغالبًا ما يزينون بها مداخل البيوت وأدراجها. 

كلما ابتعدنا عن صور المدينة والساحل الذي اجتاحه العمران، وكلما أمعنا في الريف، تتكاثر تربية الدواجن والمواشي، وقبلهما الزراعة. لا تترك امرأة جنوبية حتى مساحة صغيرة من تراب الأرض أمام بيتها بوراً، حتى لو شتلتها بمسكبة بقدونس وخمس خسّات وطبول النعنع والحبق والمردكوش ومعها لو شجرة واحدة من الزيتون لزوم مؤونة البيت. وقد تغرس شجرة حامض في عُبّ ركن البيت “أرضنا كريمة، والبحصة بتسند خابية وبتدعمنا، ونحن ما منحب نترك أرضنا” تقول خديجة، المرأة الستينية التي عادت خلال الهدنة لأجل كل هؤلاء “بتصدقي كنت خايفة ع البيت أكيد، بس كمان خفت يموتوا الدجاجات والزريعات بغيابي”. “تاهت” خديجة (نزحت) لأن أحفادها لابنها لم يتركوها وحيدة “أو منروح سوا أو منبقى كلنا بعيتا”، فقررت مرافقتهم “غصباً عني”، تقول، خصوصاً أن بلدتها، عيتا الشعب، الملاصقة لفلسطين مباشرة، تُعتبر من أخطر خطوط التماس ومستهدفة بقوة كما كان حالها في عدوان 2006. قبل أن “تتوه” حملت خديجة نسخة عن مفتاح بيتها وأودعته منزل الحاجة فاطمة “في ناس بتبقى بالضيعة ما عندها محلّ تروح عليه، وفي ناس بتبقى حتى ما تترك عيتا، وبالحرب ما بيعرف الواحد شو بيصير، لازم كل بيوتنا تضل مفتوحة”.

الحرب التي تفتح جميع البيوت

ترفض الحاجة فاطمة ترك منزلها مستندة إلى تجربتها في النزوح المستمر وآخره في عدوان 2006: “لي بيترك بيته يا بنتي بيتبهدل”. على طاولة تتوسّط منزلها، ركّزت الحاجة فاطمة سلّة قشّ مملوءة بمفاتيح الدور. تقول أن المحلات تُقفل أبوابها “حتى سيارة واحدة أو إنسان بالطريق ما بتشوفي بعد الساعة تلاتة”. ولذا فإن النازحين يفكرون بالصامدين في البلدة “البيوت مليانة مونة، زيت وسكر ورز وعدس وحمص وهيدي إشيا بتساعد أنه ما تجوع العالم الباقية، والناس بيعرفوا مين بيبقى بالضيعة، وهيك بيكون في نقطة تجمُع للمفاتيح وأنا وحدة من نقط سلل المفاتيح”. وللمفاتيح دور آخر “في ناس ما عندها طاقة شمسية وناس عندها، خطي ممكن يستفيدوا منها”. والإفادة منها هنا لتشريج الهواتف وحتى لتسخين الماء للاستحمام أو لسحب شريط لإضاءة لمبة، تكسر وحشة الليل. أما قوارير الغاز فمتاحة للجميع “لي ما بيلاقي غاز بيفك قنينة جاره وبيستعملها”، وكذلك “شوالات” (أكياس) الطحين، تصبح متاحة لمن يحتاجها، وغالبًا من يخبز في الحرب يقوم بتوزيع الخبز على كل محتاجيه من حوله.

روح التعاضد التي تتولد مع الحرب لا تقتصر على عيتا، إذ يضحك مجموعةٌ من الشبّان الذين لم يتركوا بلدتهم راميا عندما نسألهم إذا كان النازحون يتركون مفاتيحهم للباقين في القرية “ما في عنّا سلال للمفاتيح، بس ما حدا بيفلّ قبل ما يخبّر جيرانه وين حاطط مفاتيحه، تحت طبل الورد لي فيه العطراية أو المردكوش، أو تحت إجر الطاولة الباقية برا، أو ..أو ..أي مكان آخر، وفي ناس بتترك شرّاقة باب المطبخ مفتوحة، يعني بس بتمدّي إيدك وبتفتحي الباب إذا عزتي شي”. ولكن وراء ضحكة شبان راميا ندرة لطيفة يرويها أحد النحّالين الذي بقي في البلدة لكي لا يخسر خمسين قفيرًا من النحل نقلها من المواقع الأمامية الحدودية المستهدفة إلى حدود الضيعة الخلفية مستفيدًا من الهدنة، رغم أنّ نصف نحله مات، كما يقول، لأنّه لم يتمكن من إطعامه خلال 23 يومًا من الاشتباكات. وقعت القصة – النُدرة عندما تلقى النحال نفسه دعوة على الهاتف من أصدقائه للعشاء معهم “ناطرينك أوعى ما تجي، بدنا نتعشى سوا”، وكان هذا قبل الهدنة. وصل مازن (النحال) ليجد أنّ أصدقاءه قد ذبحوا دجاجة بلدية يحتارون في كيفية نتفها وتحضيرها للشواء، فتبرّع للقيام بالأمر كونه يربي دجاجًا في منزله. عندما جهزت الدجاجة للطعام، وجد مازن لحمها قاسيًا فتوقف عن تناولها، وهنا كانت المفاجأة حين ضحك جميع أصدقائه وقالوا له “هيدي من عندك، نقّينا أكبر وحدة لنتعشى”. قصة جلب دجاجة من قن أحد المنازل شائعة بالحرب أيضًا، حينها لا يبقى شيء ملكًا خاصًا “شو منعمل؟” يقول مازن، ” كلنا منعمل متل ما عملوا الشباب وبس يرجعوا الناس، الباقيين بيخبروهم شو أخدوا من عندهم ويعرضون عليهم دفع ثمنه، وغالبًا ما يرفض العائدون تلقي مقابل على ما استعمله الباقين”. وحدهم أصحاب الدكاكين والسوبرماركت يقبضون ثمن ما يذهب من بضائعهم في الحرب. يقول ناصيف إن جاره في عيترون، وهو صاحب سوبرماركت هاتفه قبل أن يغادر البلدة قائلًا “أنا رح فلّ، بالمحل عندي في كل شي، إذا ضاقت الأحوال عليكم فتحوا الباب وخدوا كل احتياجاتكم”. يقول ناصيف إنّ من يفتح محلًا يُسجّل على ورقة كلّ ما يأخذه، وعندما تنتهي الحرب يعود ويدفع دينه “هيك عملنا بعدوان 2006 وانشالله ما منضطر نعمل نفس الشي اليوم، انشالله ما تتطور الحرب”.         

على بركة عيناتا

مرغمون أم أبطال؟

رغم أنّ الخروقات الإسرائيلية المعادية خلال الهدنة كانت نادرة نوعًا ما، إلّا أنّ زائر القرى الحدودية في الجنوب، خلال الهدنة عينها، لا يمكن أن يشعر بالأمان التامّ. تقول ذلك حركة السير شبه المعدومة على الخط الحدودي من الناقورة في أقصى الجنوب، مرورًا برأس الناقورة فعلما الشعب وطير حرفا ويارين والضهيرة التي تختم قضاء صور لتسلّم الجغرافية إلى راميا، فاتحة قضاء بنت جبيل من ناحية الناقورة (قضاء صور أيضًا) وصولًا إلى عيتا الشعب فرميش ودبل جارة بنت جبيل ومنها، من بنت جبيل، إلى عيناتا وعيترون مرورًا بمحيييب وبليدة وحولا فمركبا وكفركلّا التي تفتح على سهل الخيام مرجعيون، ومنه إلى العرقوب وشبعا. على الحدود التي لا يبعد بعضها أحيانًا 500 متر خطّ نار عن المواقع الإسرائيلية المحتلة، فيما يلامس السياج في بعض المواقع كمركبا وكفركلّا، نمرّ أمام العديد من المحلات والمنازل المتضررة إثر استهدافها بالقصف الإسرائيلي، فيما صوت الطائرات المُسيّرة يرافق العابرين وسكان القرى ليلًا نهارًا. والجنوبيون معتادون على صوت طائرة “إم كا” المعادية، أو “أم كامل” كما كانوا يسمون طائرة الاستطلاع تاريخيًا في معاناتهم الطويلة معها، قبل أن يتطوّر السلاح الجوي وتخطف منها “المُسيّرة”، سيدة القتال اليوم من الجانبين، الأضواء. لكن لا يمكن لزائري ومتفقّدي الجنوب من خارجه اليوم أن يتعاملوا مع أنين الطائرة التي لا تغيب عن السماء بشكل طبيعيّ ومريح، حيث يمكنها في أي لحظة جنون عدواني أن تستهدف العابرين بصاروخ. وعليه، يتجنّب العديد من النازحين من القرى المتاخمة مباشرة للحدود العودة إليها لقربها من مواقع الاحتلال، وكذلك يمتنعون، إلّا في الضرورة القصوى، عن سلوك الطرقات الطرفية المتاخمة للحدود، واستعاضوا بالطرقات الداخلية في حال توافرها بين البلدات للتنقل.

وهناك في البلدات الحدودية المباشرة، ومنها مارون الراس التي تعلو مدينة بنت جبيل، مركز قضائها، وتفصلها عن فلسطين، تتوقع وأنت في طريقك لتفقد العائدين خلال الهدنة أن تجدها فارغة من أهلها. ف لِمارون، كما يختصرها جيرانها، رمزية اكتسبتها في عدوان 2006 من المعارك الشرسة التي خيضت في سفحها على الشريط الحدودي مباشرة، ومن تلك التي دارت رحاها على أعلى تلالها عندما بدأ الإجتياح البري الإسرائيلي العدواني. ومارون لم تخلُ من كل أهلها في 2006 برغم تمركز الجيش الإسرائيلي المحتل في بعض منازل أطرافها يومها. لكنها في الحسابات العسكرية، وهذا ما يعرفه أهلها جيدًا، مرشّحة لتكون من أولى البلدات المستهدفة بقوة في حال تطور العدوان. وهناك، في مارون الراس، بقي أستاذ المدرسة حسين علوية مع زوجته وابنتيه في بيته الحجري القديم الجميل.

تصل إلى بيت علوية لتجد زوجته تقطف سلّة صغيرة من تينة الدار “هيدي التينة منسميها شتوية” تؤكد وهي تقدّم لنا بعض أكواز التين. تقول أم مصطفى إنّها لم تتوقّف عن قطف تينتها حتى في عز أيام القصف “بتطّلع بالطيارة ل قاعدة فوق مارون كل الوقت، وبنزل ع الجنينة وبهتم فيها وبقطف كل شي بدي اقطفه”، تقول المرأة الستينية أنها لا تخاف “ما بدي روح ولا محل، بدنا نبقى هون، هيك قررنا أنا وزوجي وبناتنا”. تعمل رنا، ابنة أم مصطفى ممرضة في مستشفى بنت جبيل الحكومي “وما فيها تترك المستشفى وقررت تبقى بشغلها لأنه بقاءها مهم بهالوقت العصيب ع الناس، لا بل ضروري”. وعليه تقود رنا سيارتها عند السابعة من كل يوم من مارون الراس، ودائما تحت المسيّرة وتعود عند الثالثة من بعد الظهر برفقة الطائرة نفسها، حاملة معها حاجيات الأسرة، وما يطلبه القليل من أهالي مارون ممن لم يغادروا أيضًا، من بعض المحلات التي تفتح أبوابها في مركز القضاء. تختصر أم مصطفى مسيرة ابنتها بجملة “بنتي قلبها قوي ما بتخاف”.

في المنزل الحجري، يصرّ أستاذ المدرسة المتقاعد حسين علوية على تنظيم جولة لنا في البيت الذي ورثه عن أهله ويحبه، وأصرّ على ترميمه برغم تضرره الكبير في عدوان 2006 “بهيدي الغرفة”، يشير إلى غرفة بجدران لا تقلّ سماكة مدماكها الحجري عن 40 سنتيمترًا، “قُتل 11 جنديًا إسرائيليًا محتلًا خلال معركة الدفاع عن مارون”، ولذا يقول علوية أنه أصر على ترميمها “لتبقى ذكرى تحكي عن تاريخ البلدة المقاومة، ولتبقى كرمز شرف وبطولة”.

ولكن ماذا عن الحرب اليوم والقصف الذي يزنّر مارون وأنتم في قلبها؟ نسأل علوية ليجد جوابه في السؤال: “إنت قلتي في قلبها، القصف عم يجي ع الأطراف”، برغم مرورنا بمنزل متضرّر بشدّة من القصف في أول مدخل “حي الضيعة” حيث يسكن “طبعًا في صوت قصف قويّ وصواريخ رايحة وصواريخ جاية من فوقنا، بس نحن قررنا ما نفلّ”. والبقاء وعدم النزوح رغبة التقى عليها أبو مصطفى وزوجته وابنتاه: “عنا بيوت كتير برا مارون لأولادي ولقرايبينا، بس ما بدنا نترك بيتنا، وأنا بعتقد أنه كل أهل مارون ما كان لازم يفلوا”، شارحًا أنّ إخلاء القرى يسهّل استهدافها “بس نترك بيوتنا بيصير سهل عليهم يقصفوها عشان هيك لازم ما نتركها كلنا، إلا لي عندهم أطفال”. 

لا يبقى أبو مصطفى حبيس منزله حتى في عز العدوان “كل يوم الصبح، وخصوصًا لمّن بيوقع قصف ع مارون، وغالبًا ما يحصل، بروح بتمشى بالضيعة، بتفقد بيوت الناس لشوف شو انضرب وشو تضرّر، الناس دايمًا بيتصلوا ليتطمنوا علينا وع بيوتهم وكمان بتطمن ع الباقيين بمارون حتى لو كانوا قلال، وبرجع ع البيت”، احتياط واحد يأخذه علوية “ما بتحرك بالسيارة أحسن ما يستهدفوني”.

على طرف مطلّ مارون نحو الجليل الفلسطيني، تصل سيدة أربعينية وفي يدها أكياس تدل على أنها عادت للتو من سوق بنت جبيل حيث تزودت ببعض الاحتياجات: “هيّاني جبت أغراض وما رح فلّ حتى لو ما تجددت الهدنة”، تؤكد عندما نستغرب أنها بقيت وحدها على أطراف مارون، أي على مسافة لا تزيد عن ألفي متر خط نار من مواقع الإحتلال الإسرائيلي.

تقول السيدة التي لم ترغب بذكر اسمها: “الإنسان بيتبهدل إذا ترك بيته، وأنا ما معي إدفع أجرة شقة لأنه الأسعار صارت بمئات الدولارات ومن وين بجيب الدولار؟، لتضيف “عندي قناعة أنه ما حدا بيموت إلا ما خلص عمره، بخاف من القصف، بس بقول نامي يا مرا هيك إذا صار عليكي شي بتكوني غفيانة وما بتحسي”.

كما سيدة مارون، كذلك حال حميدة علي بسام، المرأة السبعينية التي قررت البقاء في وادي عيناتا “ما بسمع غير عواء الكلاب بالوادي، وأصوات الصواريخ بالليل ع التلال، وبخاف، ما بدي قول ما بخاف”. “وليش ما بتفلي؟” نسأل حميدة، “بقيت بتموز 2006 لليوم 23 من العدوان وما تركت الوادي بس كانت معي بنتي وقتها وعمرها 7 سنين، ولمن تهت (نزحت) تعبت كتير وعانيت ورجعت لقيت بيتي مدمر، اليوم، بنتي تزوجت وبقيت لوحدي، بدي ضل ببيتي ما بدي فلّ، لا معي مصاري لفلّ، ولا بدي اتبهدل بالمدارس لأنه ما في مساعدات هونيك لتعيش الناس، وأنا ما معي مصاري أصرف ع حالي، لبدو يفل بده يكون معه وعليه”. في العدوان الحالي لم تعد حميدة تُحب الليل، كل المنازل القريبة منها فرغت من سكانها “بخاف يصير شي واضطر توه بالليل وحدي، الوادي ما في حدا، بخاف إذا طلعت من بيتي من الوحوش والكلاب الشاردة، غير القصف، إذا انجرحت أو حتى متت ما في مين يخبر عني”. وعليه تقضي ليلها “قاعدة ومتكتفة” على حافة سريرها بانتظار الصباح “الضو بيونّس، بروح بجيب ربطة خبز قبل ما تسكر المحلات ع الساعة 12 الضهر وبرجع ع بيتي”. تأكل من بعض ما تبقى لها من عدس وبرغل “ما حدا بيموت من الجوع، شدة وبتمرق انشالله”. تسكت حميدة وتشرد وكأنها تستعيد عمرها “ما بقى من العمر قد ما مضى”، تقول قبل أن تستأذن الخروج إلى الوادي “خليني روح جمّع شوية حطب، قنينة الغاز صارلها زمان عندي، بركي انقطعت بعملي ابريق شاي ع النار”.

منزل تعرض للقصف في راميا أخر قرى بنت جبيل لناحية قضاء صور من جهة الناقورة

الرزق كاستمرار للحياة

مع زهرا الجمّال، أم عباس، الباقية في عيناتا مع زوجها المقعد وابنتها وابنها يتغيّر الحديث. تبدو المرأة التي تختم العقد الخامس قريبًا، قوية متفائلة رغم كل شيء، بل بالأحرى تتحدث من منطق الأمور وواقعها “وين بدي روح وأنا عندي تسع بقرات بعيش وبعيّش عيلتي من وراهن؟ وين باخد بوعباس وهو مقعد مريض؟ يحصل هذا فيما فرغ حي العقبة في أعالي عيناتا لناحية عيترون من سكانه “إيه عم نشوف القصف من حوالينا ونتفرج عليه”. بعض القصف الإسرائيلي يطال عيترون جارتها، وبعضه يستهدف عيناتا التي شهدت نزوحا ملحوظا بعد استشهاد الطفلات تالين وريماس وليان شور وجدتهما لأمهن سميرة عبد الحسين أيوب، و”كمان قصفوا المطيط بضيعتنا (تلة من تلال عيناتا)، بس ما رح نترك بيتنا ورزقنا، الفلّة مش كلمة بالتم حتى بالحرب”. مع كلامها هذا يبتسم أبو عباس تعبيراً عن رضاه عن موقف زوجته: “ما رح نفلّ، أنا مش نازل عن هيدا التخت، يا منعيش ببيتنا ع كرامتنا، يا منموت فيه”. تقول أم عباس أنها كما كل الجنوبيين تعتمد على مؤونتها “أنا بموّن عدس وبسلق قمح وبجرُش برغل وبطحن طحين، كل شي بدك ياه بتلاقيه، ونحن منعيش من هالبقرات، أو بدنا نبيعهم للتجار ل عم يستغلوا الوضع وياخدوهم بتلت حقهن أو بدنا نحافظ عليهم”. تسكت قليلا لتضيف بهدوء: “هيدا تعب عمر وهيدي حياتنا، من يومين بعت بقرتين وحدة منهم مولدة جديد حتى حافظ ع الباقيين ونقدر نصرف لأنه عم نكب الحليب وعم طعمي البقر نص وجبة، بس أبدا ما رح نفلّ ونكب رزقنا وكل حياتنا”. تحلّ مشكلة إقفال الدكاكين بالعجن والخبز “وبعمل مناقيش كمان”. أما عندما تريد تدليل عائلتها فتقصد قن دجاجها “مرباية ديوك، مندبح ديك ومنطبخ عليه”. المهم بالنسبة إليها أن تهدأ الأوضاع ويعود الناس إلى منازلهم: “عنا جيران بالحي التاني رجعوا ع بيتهم لأنه قرايبينهم ل نازحين لعندهم كل الوقت كاشين مع أنهم عم يدفعوا كتير بمصروف البيت”، تقول لتؤكد “ما حدا بيحمل حدا وقت طويل، الناس ما إلها إلا بيوتها تسترها وتريّحها، بيتبهدل الإنسان بس يترك بيته ومش كل الناس معها مصاري تستأجر وتصرف”. نغادر بيت أم عباس وهي تلّوح عن الباب “إذا ضلينا طيبين بتجي تزورينا، وإذا متنا بتترحمي علينا، بس نحن ما رح نتوه”، تقول وابتسامتها لا تغادر وجهها.      

لقراءة التحقيق باللّغة الانكليزية، إضغطوا هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني