مَلامح البرلمان القادم: شتات من الأفراد في خدمة مشروع الرئيس


2022-12-15    |   

مَلامح البرلمان القادم: شتات من الأفراد في خدمة مشروع الرئيس

انطلقت يوم الجمعة 25 نوفمبر 2022 الحملة الانتخابية لانتخابات مجلس نواب الشّعب المُقرّر إجراؤها في 17 ديسمبر القادم، وذلك في ظلّ دعوات مُقاطعة من قِبل طيف واسع من الفاعلين السياسيين والأحزاب ولا مبالاة بادية للعيان من قبل كثير من المواطنين. وباستثناء بعض المُلصقات الخاصة بصور المرشّحين وبرامجهم المُعلقة في الأماكن التي خصّصتها الهيئة العليا المُستقلة للانتخابات للغرض، وحصص التعبير المُباشر للمترشحين في التلفزيون العمومي وبعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي خُصّصت لموضوعات الحملة وبعض النشاطات الانتخابية المتفرقة، لا يبدو أنّ تونس تعيش على وقع حملة انتخابية حقيقيّة، ما دفع العديد من الإعلاميين والناشطين إلى وصف الحملة بأنّها ضعيفة وباهتة مقارنة بالحملات الانتخابية التي وقعت في سنوات 2011 و2014 و2019. 

تصوير أحمد زروقي

سياق انتخابي على مقاس الرئيس

تُعتبر انتخابات مجلس نواب الشعب القادمة آخر محطّة في المسار الذي اختاره رئيس الجمهورية قيس سعيّد مُنفردًا لتونس. فبعد الانقلاب على الدستور وحلّ أغلب المؤسسات الدستورية وجمع كافة السُلطات في يده، أجرى سعيّد استشارته الوطنية وكتَبَ دُستوره ونظَّم استفتاء أشرَفت عليه هيئة انتخابات قامَ هو بتنصيبها، وهي نفس الهيئة التي تُشرف على المسار الانتخابي الحالي، وأعدّ قانونا انتخابيا يتمَاشَى مع تصوّره الخاص للفعل السياسي. وكنتيجة مباشرة لانفراد سعيّد بالقرار خلال كافة المراحل السابقة وإقصاء الداعمين والمساندين له من الفاعلين السياسيين فضلا عن المعارضين له، وحَصره الفعل السياسي في شخصه وممارسته سياسة الهروب إلى الأمام، انحَسَر بوضوح الدعم الذي كان يحظى به خلال لحظة 25 جويلية بشكل كبير، ممّا أثّر مباشرة على المسار الانتخابي الجاري، والذي يُعتبر بالنسبة إليه نواة مُؤسساتية ستُضفي المشروعية على حُكمه.

جاءت نتائج الترشّحات لتؤكّد هذا الانحسار، إذ أنه من أصل 161 دائرة انتخابيّة أقرَّها المرسوم الانتخابي الجديد لم يُسجَّل أيّ ترشّح في 7 دوائر، فيمَا سُجّلَ ترشّح واحد في 10 منها، ممّا يعني أنّه لا وجود لحملة انتخابيّة ولو محدودة في 17 دائرة انتخابية على الأقلّ. ويبدو ذلك طبيعيّا بالنظر إلى أنّ الخاصيّة الأساسيّة التي تجمع كافّة المترشّحين هو مباركتهم بدرجات متفاوتة المسار السياسي والدستوري الذي أطلقه الرئيس قيس سعيّد، وبالتالي قُبولهم ضمنيا أن يكونوا أعضاء برلمان صُوري يفتقر إلى أدنى الصلاحيات التشريعية الفعلية أو الرقابية على السُلطة التنفيذية. إذ أنه بناءً على الفصل 68 من دستور 25 جويلية 2022، لا يتقدّم النواب بـ”مشاريع قوانين” وإنّما بـ”مُقترحات قوانين” شريطة أن لا تُخلّ هذه المُقترحات بالتوازنات المالية للدولة، فيما مَنحَ نفس الفصل صلاحية تقديم مشاريع القوانين لرئيس الجمهورية، مما يعني أنّ مجلس النواب القادم لن يكون أكثر من كتابة عامة تشريعية موسّعة لإقرار قوانين الرئيس. هذا بالإضافة إلى أنّ النظام السياسي الجديد يقوم على تقسيم “الوظيفة التشريعية” على مجلسيْن؛ هما مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، وفي ظلّ غياب تحديدات دقيقة لمهام كُلّ مجلس منهما يبدو أنّ الارتباك سيكون العلامة المُميّزة للمرحلة المؤسساتية القادمة، هذا إن جاز أصلا وصفها بالمؤسّساتية.

تصوير أحمد زروقي

شعبوية الخطاب والممارسة

بالنظر إلى القناعات السياسية للمترشحين في الحملة الجارية والتي تتماهى إلى حدّ كبير مع تصوّرات الرئيس، ليس غريبا بالمرّة أن نشهد تصاعدا في الخطاب الشعبوي القائم على التعميم والمغالطات. وإذا ما اعتمدنا مبدأ حُسن النيّة، فإنّ النتيجة في أفضل الأحوال ستكون غياب الثقافة السياسية لدى أغلب المترشحين، إضافة إلى انعدام دراية أكثرهم بمحدودية صلاحيات الوظيفة التي يتقدّمون لها في هذه الانتخابات.

تَركّز الخطاب السياسي مُنذ إطلاق ما يُسمّى بمسار 25 جويلية على فكرة أساسية تَمثّلت في ضرورة تجاوز الأحزاب باعتبارها “الشرّ المُطلق” الذي يَعمَل على نهب وتفقير الشّعب وضرب مَصالِحه، وهذه الفكرة ليست جديدة كما يزعم سعيّد وعدد لا بأس به من المُترشحين، بل من اليسير إيجاد آثارها في التاريخ عموما وفي تاريخنا السياسي الوطني خصوصا. وإن كانت اللاّحزبية تتخذ صيغا مُختلفة باختلاف المراحل التاريخية فهي على المستوى العملي تشكّل تجسيدًا لمنظومة الفكر الواحد والرأي الواحد والحزب الواحد الذي لا يرى ضرورة في وجود تعددية سياسية، وهو المنحى الذي اتخذه سعيّد وأنصاره على مستوى الممارسة السياسية.

هذا التصوّر للأحزاب لهُ ما يفسّره في السياق التونسي الذي عَرِف صراعا حزبيا لا هوادة فيه تكثّف على مستوى البرلمان مُنذ انتخابات 2011، إلاّ أن التمعّن في سياقات ظهور هذا الخطاب لا يجب أن تحجب عنّا حقيقته الشعبوية، لأنّ الأحزاب عمليّا هي الإطار السياسي الذي يُمكن للمواطن من خلاله أن ينتظم ويؤثّر ويبني قوّة اجتماعية وسياسية قادرة على الحُكم بناءً على برنامج وطني مُعلن. وغياب الأحزاب أو تغييبها عمدًا عن الفعل السياسي لا يؤدّي إلاّ إلى حُكم فردي مُطلق باسم الشعب. بالإضافة إلى هذا، فإن الخطاب الشعبوي للمترشحين لم يكتف فقط بتبنّي الفكرة المعادية للحزبية، بل تجَاوزَها البعض للإشادة بعدم وجود خلفيات سياسية في برامجهم. وبغضّ النظر عن أنّ الغاية الفعلية لمثل هذه التصريحات هي تثبيت فكرتيْ التجديد ونظافة اليد، فإنّها تأتي لتؤكّد إمّا جهل المترشحين بالطبيعة السياسية لنشاطهم أو تعمّدهم المغالطة عبر استعمال خطاب يراهن على عدم إلمام المتلقّي بتعقيدات الظاهرة السياسية.

بالإضافة إلى نبذ التّحزّب، تُعتبر مقولة “الانتصار للشباب” حجر الزاوية في الخطاب الشعبوي عموما وفي الحملة الانتخابية الجارية حاليّا، لما تُوحي به هذه المقولة من تجديد وقُدرة على الفعل ومواكبة اهتمامات أهمّ الفئات الفاعلة في المُجتمع. وبالرّغم من أنّ الشباب المترشّحين لهذه الانتخابات -الذين تتراوح أعمارهم بين 23 و35 سنة- لا تتجاوز نسبتهم 14 بالمائة من مجموع المترشحين، ما يعني أنّ تمثيليّتهم ستكون حتما أقل على مستوى المجلس النيابي القادم، فإنّ كافة الخطابات تقريبا تُحيل على الشباب وتمكينهم من النفاذ إلى المؤسسات العامة، حتّى أنّ مترشّحا يبلغ من العمر 47 عاما خلال حصّة نقاش تلفزيونيّة عبّر عن سعادته -باعتباره شابا- بالقانون الانتخابي الذي يَمنح فرصة للشباب ليتقلّدوا مناصب سياسية هامّة.

من المرجّح أنّ هذه الأفكار التي يُركّز عليها المترشّحون للمجلس النيابي القادم في خطابهم الانتخابي هي من قبيل السلوك السياسي البراغماتي الذي يُبيح قول كُلّ شيء وأيّ شيء إذا كان يُحقّق الغاية السياسيّة -وهي الفوز في الانتخابات في هذه الحال- ولعلّ هذا يعتبر تأكيدا تونسيّا لشكوك حنّة آرندت في أنّ المجال السياسي يخوض بطبيعته حربا مع الحقيقة بكُلّ أشكالها[1]. مع ذلك، فإنّ الشعبوية في هذه الحملة لم تتوقف على الخطاب فحسب وإنّما جاوزته نحو الممارسة. إذ كيف لنا أن نفهم حتى من منظور براغماتي تنظيم مترشّح لموكب يعتلي فيه سيارته ويؤدي التحيّة للمارّة محاكيا بطريقة مُبتذلة زعماء حركات التحرّر الوطني ومواكبهم خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم؟ وكيف نفهَم تقديم مُترشّح آخر لعرض فروسيّة في إطار دعايته الانتخابية؟

لا يُمكن فهم هذه الممارسات إلاّ باعتبارها تعبيرا فجّا عن غياب برامج فعليّة يُمكن طرحها ومُناقشتها بالطريقة الكلاسيكية، أي عبر اجتماعات شعبية يتقدّم خلالها المترشحون بأفكارهم ويُعبّرون عن مواقف وأطروحات قابلة للنقد والتعديل والمراجعة، وبالتالي فإنّ هذه الظواهر الغريبة عن دائرة الفعل السياسي والتي أثارت موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي تأتي كبديل عملي لسدّ الفراغ الحاصل على مستوى الفعل السياسي ذاته والذي أضحى مُحتَكَرا بشكل شبه تام من قِبل رئيس الجمهورية.

القانون الانتخابي وصورة المجلس المُقبل

مَنعَ القانون الانتخابي المترشّحين من التمويل العمومي ومَنع على الأحزاب التمويل العمومي واكتفى بالتمويل الذاتي والخاص وحدّد إجمالي إنفاق الحملة سقفا حسب عدد السكّان بالدائرة الانتخابية المعنية، وهو ما جعل السقف متواضعا[2]مقارنة بالتكاليف التي من المُفترض أن يقع صرفها على حملة انتخابية جماهيرية وتنافسية فعلية. أما الأهم من النتيجة المباشرة لهذا التضييق الجغرافي والمالي والتي تجسّدت في الطابع الباهت للحملة فهو تبعاتها السياسية المُستقبليّة والتي تتمثّل أساسا في انعدام إمكانية ظهور شخصيات سياسية ذات إشعاع وطني قادرة على تقديم برامج شاملة.

أثّر كذلك تقسيم الدوائر الجديد ونظام الاقتراع على الأفراد في طبيعة الخطاب السياسي للحملة، فشُحِن بطابع محلي ضيّق وبالمشاكل التي تشغل الناس في دوائرهم المحلية، دون مراعاة طبيعة المهام الوطنية لمجلس نواب الشعب وصلاحياته. وبالرغم من أنّ هذه الإجراءات نسبت إلى نفسها أهدافا تتمثل أساسا في تجديد الطبقة السياسية وتمثيل الشعب تمثيلا حقيقيّا وضمان تكافؤ الفرص في الانتخابات، إلاّ أنّها أفضت إلى حقائق مُغايرة بشكل شبه كُلّي. أوّلا، لا يبدو أنّ الصيغة التي تقدّم بها سعيّد تقطع مع الماضي، حيث نجد من بين المترشّحين من كان نائبا سابقا في برلمانات 2014 و2019، بل وحتى مترشحين كانوا نوّابا في عهد نظام بن علي، ممّا يوحي أنّ سعيّد بقانونه الانتخابي أراد القطع مع مخالفيه فحسب لا مع “القديم”. ثانيا، اقتصر تقديم الترشحات بشكل كبير حسب الاحصائيات التي قدّمتها هيئة الانتخابات على الذكور الكهول والشيوخ وذلك بالنظر إلى الشروط التي فُرضت في القانون الانتخابي، حيث تُمثّل الفئة العمرية من 36 سنة فما فوق نسبة 86 بالمئة من إجمالي الترشّحات، وهو ما يعني إقصاء منهجيا للشباب والنساء اللواتي لا يُمثّلن سوى 12 بالمئة من إجمالي المترشحين، ما يطعن في مقولتي “تمثيل الشعب تمثيلا حقيقيا” و”تكافؤ الفرص”، وهكذا تجلت الانتخابات كآلية لتمثيل الذكور-الكهول من مالكي رأس المال الاجتماعي والمالي. ثالثا، أدّى إقصاء أيّ دور للأحزاب وتضييق الدوائر الانتخابية إلى تشتت سياسي رهيب وغياب كامل لأي مشروع أو تصوّر وطني.

بناء على المعطيات السابقة والخطاب السائد، فإنّ المجلس المُقبل سيكون مزيجا هجينا وغير متناغم من الكهول الذكور، الذين تقودهم مصالح شخصيّة ولا يهمّهم صلاحياتهم الفعلية بقدر ما يهمّهم تقرّبهم من الماسك الفعلي بزمام السُلطة وهو رئيس الجمهوريّة، أو من الذين يحملون تصورات حالمة وغير واقعية عن حقيقة صلاحياتهم وقُدرتهم على تغيير الوضع في دوائرهم.          


[1] Arendt, Hannah, « Truth And Politics », In The New Yorker, February 25th, 1967. 

[2]  أنظر الفصل 3 من الأمر عدد 860 لسنة 2022 مؤرّخ في 16 نوفمبر 2022 يتعلّق بتحديد السقف الجملي للإنفاق على حملة انتخابات أعضاء مجلس نوّاب الشّعب لسنة 2022.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني