قيس سعيّد مع رئيس الهيئة العليا للانتخابات وأعضائها (من الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة التونسيّة - فيسبوك)
تمّ تحيينه بتاريخ 10/08/2022
بالتزامن مع مذبحة القضاة التي ارتكبها سعيّد عبر إصدار أوامر رئاسية لإعفاء 57 قاضيا وقاضية، قام هذا الأخير بإصدار مرسوم جديد[1] يقضي بتنقيح القانون المنظّم للانتخابات والاستفتاء بهدف تغيير قواعد الاقتراع. خطوة تهدف لتقديم التبعات القانونية للسيناريو الوحيد الذي يراهن عليه سعيّد ألا وهو انتصاره في الاستفتاء من دون أيّ إشارة للإجراءات المتّبعة في حالة الرفض. يأتي هذا التنقيح كخطوة جديدة لرئيس الجمهورية بعد تعيينه لأعضاء جدد في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وحلّه مجلسها السابق المنتخب بهدف تحقيق مشروعه الفردي، أسابيع قبل موعد الاستفتاء حول الدستور الجديد.
لم يكن في تغيير قواعد اللعبة الانتخابية ووسائلها استثناء في حصيلة ما أقدم عليه قيس سعيّد منذ 25 جويلية الماضي. فقد أثبت الحاكم بأمره اليوم أنّه ماضٍ في مشروعه تحت عنوان “الغاية تبّرر الوسيلة” من دون أيّ اعتبار لما تتّسم به خطواته من عبث وتناقض مع ما كان يدافع عنه فيما قبل. في المقابل، تقدّم الهيئة الجديدة للانتخابات التسهيلات والتنازلات الكافية لتنفيذ مشروع الاستفتاء المُسقط، تتغاضى عن الخروقات ولا تعبّر عن أي موقف واضح من المسار الذي أقحمها فيه سعيّد. هيئة مطيعة يتدافع أعضاؤها من أجل إتمام المهمّة العبثيّة التي كلّفهم بها هذا الأخير غير مكترثين بالهدف الأسمى الذي بُعثت الهيئة من أجله. إذ فضّل الأعضاء إخراجها في شكل هيئة تقنية مذعنة لقرارات سعيّد الفرديّة ومستعدّة لكلّ المراوغات الإجرائية التي تصل حدّ الاستنباط الأخرق قصد اتباع هوى سعيّد وحده وخدمةً لمشروعه.
هيئة تنظيم الاستفتاء لا تتجرّأ على التفوّه ب “لا”
لم ينحصر تدخّل قيس سعيّد في مسار الاستفتاء عبر فرض موعده المُسقط فقط. بل امتدّ أيضا لتنقيح القانون المنظّم للاستفتاء وللانتخابات وتعيين أعضاء جدد في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بعد أن قام بتعديل القانون المنظّم لها ثلاثة أشهر تقريبا قبل تاريخ الاستفتاء. بل بلغ به الأمر حدّ التصريح بمناسبة أداء اليمين من قبل أعضاء الهيئة الجدد، في 12 ماي 2022، بأنّه يرفض تواجد مراقبين أجانب خلال عملية الاستفتاء بذريعة أنّ تونس دولة مستقلّة. في المقابل، يظهر الفيديو الذي نشرته صفحة رئاسة الجمهورية، مشهدا مذلاّ لأعضاء الهيئة وهم يُومئون برؤوسهم واعدين بتنفيذ المهمّة التي كلّفهم بها في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. مهمّة شبه مستحيلة على المستوى المادي واللوجستي والإجرائي، لكنّ الهيئة لم تتجرّأ على رفضها خلافا لما بدر من تركيباتها السابقة من مواقف.
فعلى سبيل المثال، تمسّكت الهيئة السابقة للانتخابات سنة 2011 بتأجيل موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي إلى تاريخ 23 أكتوبر بدلا عن 24 جويلية الذي أعلنت عنه الحكومة. وقد صرّح رئيس الهيئة آنذاك كمال الجندوبي خلال مؤتمر صحفي بتاريخ 26 ماي 2011، أنّ الموعد المُعلَن من قبل الحكومة غير وارد في أجندة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وأشار هذا الأخير إلى كونها غير قادرة على احترام الموعد المذكور لأنه لا يضمن إجراء انتخابات تعددية وشفافة وديمقراطية. وعندما وقّع الرئيس المؤقت آنذاك، فؤاد المبزّع، مرسوم دعوة الناخبين إلى الموعد المعلَن من قبل الحكومة، أكّد العربي شويخة، وهو أحد أعضاء الهيئة المستقلة للانتخابات في ذلك الوقت، رفض الهيئة للموعد المقرّر من قبل الرئيس. ليضيف أنّ “القرار النهائي يعود الى الهيئة العليا“ وهو ما تمّ العمل به فيما بعد وفُرض على كلّ الأحزاب السياسية والحكومة ورئيس الجمهورية.
خلافا لما تحمّلته قيادة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات سنة 2011 من مسؤولية، وما فرضته من رزنامة انتخابية، لم تجرؤ الهيئة الحالية على اقتراح تأجيل موعد الاستفتاء المحدّد من قبل قيس سعيّد. بل ارتأت الانسياق وراء حلول ترقيعية بهدف تنفيذ قراراته وهو ما يمسّ جوهريّا باستقلاليتها. لا يتعلّق الأمر هنا بنقاش الجوانب التقنية والتنظيمية للاستفتاء. بل يتعلّق أساسا بالأهداف والمبادئ التي تؤطّر استقلالية الهيئة والأهداف العامة لأعمالها؛ والمتمثلة في توفير كلّ الشروط اللازمة لتأمين حق الشعب في ممارسة حقه وسيادته عبر الصندوق، أولوية مطلقة بمعزل عن دستورية وشرعية الاستفتاء المقبل. فلا معنى للاستفتاء ولشعارات الاستقلالية إن لم تكن الهيئة قادرة على توفير الشروط الموضوعية لتمكين المواطنين من ممارسة سيادتهم عبر تصويت حرّ ونزيه وشفّاف وديمقراطي.
على عكس هيئة الجندوبي في 2011، لم تجرؤ هيئة بوعسكر على اقتراح تأجيل موعد الاستفتاء
إنّ استقلالية الهيئة لا تتعلّق بقدرتها على اتّخاذ القرارات التقنية واللوجستية لتنفيذ مشروع استفتاء لا سلطة تقريرية لها على قرار تنظيمه. ولو كان الأمر كذلك، لتمّ إسناد تنظيم العملية الانتخابيّة لأيّ مؤسسة أخرى تابعة للسلطة التنفيذية أو تكليف وكالة خاصة لتنظيم الأنشطة والفعاليات. استقلالية الهيئة تكمن في مدى قدرتها على فرض قرارها الذي يصبّ أوّلاً وأخيراً في مصلحة الناخب ويكرّس سيادته، من دون تدخّل أي سلطة وإلا يصبح دورها محلّ تشكيك.
خلال انعقاد اجتماع مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتاريخ 13 ماي 2022، تمّ استعراض مختلف الصعوبات التنظيمية الخاصة بتنظيم الاستفتاء خلال هذه المدّة الوجيزة. وقد تداول المجتمعون ثلاث فرضيات من دون التطرّق إلى احتمالية التأجيل رغم اقتراح ذلك من قبل عضوين كما تمّ تضمينه بمحضر الجلسة المنشور.
تقضي الأولى باعتماد سجلّ انتخابي غير محيّن وبالتالي إقصاء وحرمان مليونيْ مواطن من ممارسة حقهم في الانتخاب. وتتمثل الثانية في فتح باب التسجيل لمدة عشرة أيّام لا غير نظرا لقصر مدة التنظيم وبالتالي تسجيل 3.5 % فقط من الجسم الانتخابي غير المسجّل. أمّا الفرضية الثالثة، والتي تمّ إقرارها، فتتمثّل في العودة إلى المستحوذ على السلطة التشريعية لتغيير القانون قصد اعتماد التسجيل الآلي للمواطنين. هذه الفرضية أدّت إلى التخلّي عن مبدأ التسجيل التلقائي فقط واعتماد التسجيل الآلي عبر إضافة المواطنين غير المسجّلين والمدرجين في قاعدة بيانات وزارة الداخلية. ماذا يعني هذا؟ أنه رغم عدم تحيين السجلّ الانتخابي الذي يجب التدقيق به قصد طرح المتوفّين وتحيين المعلومات المتعلّقة بالناخبين، ورغم عدم تسجيل مليونين من المواطنين لتمكينهم من ممارسة حقهم في الانتخاب، تجنّب أعضاء الهيئة طرح فرضية التأجيل أمام قيس سعيّد. وعوضا عن ذلك، اختاروا خيانة الأمانة الموكلة إليهم واختلاق إجراءات تصل حدّ تعديل النص القانوني والعودة إلى صاحب الفضل في تعيينهم كي يقرّر ما يناسبه.
كلّ المراوغات جائزة في سبيل إرضاء الحاكم بأمره
إنّ تقديم الاستفتاء على حساب مصلحة المواطنين وحقّهم في ممارسة حقهم في الانتخاب لم يتوقّف عند مستوى موعد الاستفتاء المُسقط. بل قرّرت الهيئة أيضا إلغاء تنظيم الانتخابات البلدية الجزئية المبرمجة قبل الاستفتاء وذلك لتزامنها مع رزنامته حسب نصّ البلاغ الصادر عنها بتاريخ 3 جوان 2022. فقد قرّرت هذه الأخيرة تعليق جميع الانتخابات البلدية الجزئية سواء كانت مبرمجة أو قيد التنظيم بما فيها الانتخابات البلدية التي كان من المفروض تنظيمها في يوميْ 04 و05 جوان على أن يُستأنف تنظيمها حال انقضاء موجبات التعليق، بحسب تعبيرها. إذًا، فضّلت الهيئة بذلك حرمان المواطنين في عدّة بلديات من انتخاب مجلس بلديّ لإدارة وحلّ مشاكلهم اليومية لمدّة لم يتمّ تحديدها وقد تستغرق أشهراً، (فقد تمت برمجة التصريح بالنتائج النهائية للاستفتاء في شهر أوت) من أجل تنفيذ الاستفتاء في مدة غير معقولة.
لا تتوقف المراوغة والتلاعب بالإجراءات عند هذا الحدّ، بل تمتدّ أيضا لتشمل الرزنامة المقترحة لتنظيم الاستفتاء. فعلى سبيل المثال، تنتهي مدة تقديم طلبات المشاركة بحملة الاستفتاء يوم 27 جوان أي ثلاثة أيام قبل آخر أجل لنشر نصّ الدستور موضوع الاستفتاء (30 جوان). أي أنّه، في مرحلة أولى، على الأحزاب أو ربّما الجمعيات والمواطنين أخذ قرار المشاركة في حملة الاستفتاء من عدمه قبل رؤية النصّ الذي سيُسْتفتون فيه أي قبل تحديد فحوى الحملة وموقفها منه أصلا. من جهة أخرى، قرّرت الهيئة ضبط يوم واحد فقط للمشاركين في الحملة لتحديد موقفهم من نصّ الدستور وبالتالي تحديد توجّه حملاتهم إن كانت داعمة أو رافضة للنصّ. أي أنه على المشاركين أخذ قرار إمّا بالدعوة لدعم النصّ أو رفضه خلال يوم واحد غداة نشر نصّ الدستور. إذن، وبحسب هيئة الانتخابات الحالية، تعدّ 24 ساعة المحدّدة من قبلها كافية لدراسة الدستور المقترح وتحديد الموقف من النصّ الذي يتعلّق بمستقبل البلاد وأهلها لعقود قادمة. ووجب التذكير بأنه تمّ تحديد تاريخ بداية حملة الاستفتاء ثلاثة أيام بعد صدور نصّ الدستور ممّا لا يترك أيّ مجال زمنيّ لدراسة المشروع ووضع خطّة واضحة للحملة. إضافة إلى ما تمّ ذكره، أقرّ قرار الهيئة المؤرّخ في 03 جوان 2022 في فصله الثاني بداية فترة الاستفتاء بأثر رجعيّ وتحديده بتاريخ 03 ماي 2022، أي شهرا قبل صدور الأمر.
لا يتوقّف انبطاح الهيئة أمام تعليمات سعيّد وهواه عند هذا الحدّ فقط. فأعضاء الهيئة يقفون صامتين حتّى أمام تدخّله السّافر في صلاحياتهم. فخلافا للمعمول به سابقا، لم يكتفِ سعيّد بتحديد موعد الاستفتاء فقط، بل قام أيضا بتحديد ساعات التوجّه للصناديق عبر الأمر الرئاسي المتعلّق بدعوة الناخبين[2] من دون أن تقدّم الهيئة توضيحات حول إن كان تمّ استشارتها قبل توقيع ذلك المرسوم. وهكذا، فرض الحاكم المطلق فترة الاقتراع من الساعة السادسة صباحا حتى العاشرة ليلا في سابقة لم تختبرها الهيئة من قبل. فتحديد مدّة الاقتراع هو من جوهر صلاحيات الهيئة التي تحدّد معاييره وفق ما يحفظ مبدأيْ نزاهة عملية الاقتراع وضمان حقّ الناخبين في تأدية هذا الاستحقاق. ففي مخالفة واضحة لما جرتْ عليه العادة في مختلف المحطات الانتخابية السابقة، استجابتْ الهيئة للتوقيت المفروض من رئيس الجمهورية. وقد ضربتْ بذلك عرض الحائط قضيتيّ التوقيت والمدّة اللازمة لإتمام التحضيرات في مراكز الاقتراع قبل فتحها أمام العموم، وتأمين صناديق الاقتراع بعدم نقلها في ساعات متأخرة من الليل.
مآلات عبث التنظيم: خروقات واستنكار
كان من الطبيعي أن يؤدّي عبث التنظيم إلى خروقات عدّة زادت من الشكّ في نزاهة الهيئة ونجاعتها. فقبيل صدور نصّ الدستور، ارتفع عدد الأصوات المنادية بمقاطعة الاستفتاء، وهو ما أربك الهيئة المطيعة التي تسعى لإنجاح الاستفتاء بأي ثمن. فتضاربتْ تصريحات الأعضاء الذين لم يتمكنوا من توحيد الموقف. فقد جاء إعلان العضو سامي بن سلامة على صفحته بفايسبوك أنّ على مقاطعي حملة الاستفتاء أن يصرّحوا أيضًا بمقاطعتهم بعد أن وافق مجلس الهيئة على مقترحه في اجتماع 13 جوان 2022، رغم عدم تضمين ذلك بمحضر الجلسة. حَمْلُ المقاطعين على التصريح والزجّ بهم في إجراءات الحملة المحمولة على المساندين أو المعارضين، كان مقترحا حسب بن سلامة بهدف مراقبة حملة المقاطعين إعلاميا وماليا خصوصا. من جهته أعلن العضو محمد التليلي المنصري في تصريح لإذاعة موزاييك يوم الثلاثاء 14 جوان 2022 “أن الأحزاب السياسية والمنظمات التي دعت لمقاطعة الاستفتاء والتي لم تقم بالتصريح بالمشاركة سيقع منعها من الحديث عن الاستفتاء في وسائل الإعلام بجميع أنواعها وفي التظاهرات والاجتماعات العامة”. بينما أعلن نائب رئيس الهيئة ماهر الجديدي بذات اليوم “أن من يدعون الى عدم المشاركة في الاستفتاء ليسوا معنيين بالمشاركة في الحملة و يصبحون معرضين الى تتبعات قانونية مشيرا إلى أن دعوات المقاطعة تصنف كجرائم حق عام و هي ليست جرائم انتخابية”. تصريح أثار الجدل لما يطرحه من تمشي سلطوي تواجه به الهيئة من يرفض المشاركة في الاستفتاء ويطعن في كفاءتها ومصداقيتها لإنجازه. سقط المقترح بعد ما أثاره من جدل ومخاوف من العودة لسياسة تكميم الأفواه. محاولة محاصرة الداعين لمقاطعة الاستفتاء وإخماد أصواتهم كان يرمي جليّا لحصر حملتهم التي قد تؤثّر على نسبة المشاركة بالاستفتاء.
أداء الهيئة السيء تأرجح بين الممارسة الهجومية ضدّ الرافضين والأداء السلبي إزاء خروقات سعيّد وأتباعه. فلم تحرّك الهيئة ساكنا إزاء تأخّر صدور المذكّرة التفسيرية التي كان على سعيّد نشرها للعموم. ولم تتخذ أي إجراء إزاء مخالفة نصّ سعيّد لطبيعتها التفسيرية وحثّه صراحة للتصويت بنعم. كما لم تتحرّك عندما قام بتغيير نصّ الدستور المطروح خلال الحملة الانتخابية معبّرة من جهة بأنها تغييرات شكلية لا تمسّ من جوهر النصّ بينما تفتح الباب للمشاركين في الحملة لإمكانية تغيير موقفهم من النصّ المعروض بعد تنقيحه (الدعم أو الرفض) بكل تناقض وانتهازية. ولم تنطق الهيئة بأي تعليق ولم تقم بأي إجراء عند خرق سعيّد للصمت الانتخابي يوم الاستفتاء وتجديد دعوته للتصويت لدستوره. بل اكتفت بالاحالة على هذا الخرق الجسيم بمحضر الجلسة المؤرخ بـ26 جويلية من دون الإشارة حتى لهوية مرتكبه رغم أهميته ولا إلى الإجراء المتخذ. في المقابل، نشرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري قرار مجلسها الصادر في 27 جويلية والقاضي بتسليط خطية مالية على مؤسسة التلفزة التونسية قدرها عشرون ألف دينار، لخرقها الصمت الانتخابي عبر بثّها تصريح رئيس الجمهورية وانخراطها في الدعاية لمشروع الدستور في تقاريرها الإخباريّة. كما لم تعاقب المساندين له والقائمين على الحملة عندما قاموا بتشريك الأطفال بالحملة واستغلّوا موارد الدولة ووظّفوا المعلّقات الإشهارية في الأماكن العمومية والخاصّة واستعمال الراية الوطنيّة في تجاوز تامّ للقانون واكتفت بإجراءات بسيطة كتوجيه التنبيه والإنذارات. وفي حين ندّدت الجمعيات المراقبة لتنظيم الاستفتاء في تراخي الهيئة في وضع حدّ للتجاوز[3]، أصرّت الهيئة على توصيف أدائها بالناجح. “نجاح” رغم ضعف نسبة المشاركين وارتفاع عدد المقاطعين الذين بلغت نسبتهم 21% من المسجّلين حسب نتائج سبر الآراء (مقابل 23% فقط شاركوا بالتصويت ب”نعم”)، ورغم التجاذبات والأزمة السياسية التي تمّ خلالها الاستفتاء. فقد تمّ قمع المظاهرة الرافضة للدستور ثلاثة أيام قبل موعد الاستفتاء والاعتداء بالعنف على عدة ناشطين ونقيب الصحفيين من قبل البوليس وإيقاف تسعة أشخاص. كما ازداد الوضع تأزّما خصوصا بعد إعلان العضو سامي بن سلامة عن قرار استبعاده من مجلس الهيئة ومنعه من المشاركة بالندوة الصحفية المخصصة لمتابعة يوم الاستفتاء. لكنّ النقطة التي أفاضتْ الكأس تمثلت في نشر النتائج المغلوطة من قبل الهيئة. فقد نشرت الهيئة، خلال ندوة الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات في 26 جويلية 2022، جدول النتائج حسب الجهات، الذي تضمّن أخطاءً فيما يخص 25 دائرة انتخابية وهو ما أثار جدلا واسعا وجدّد التشكيك بنزاهة الهيئة وما مدى مصداقية الاستفتاء الذي أشرفت عليه. من جهتها أكّدت الهيئة على صحة نتائجها وعلى سلامة العملية الانتخابية معترفة، في “بلاغ توضيحي” صادر في 27 جويلية، بأنه “تسرّب خطأ مادي بإلحاق جدول غير محيّن ضمن ملحقات قرار النتائج“. بينما دعت المنظمات للنشر الفوري لنتائج كافة مراكز الاقتراع مع نشر كافة محاضر التجميع والفرز، وهو ما لا تزال الهيئة تمتنع عنه[4].
في ظلّ كلّ هذا العبث، يواصل سعيّد طريقه لتحقيق مشروعه من دون أن يأبه لأحد. في المقابل لا تتجرّأ المؤسسات المخوّلة حسب نطاقها على مقاومته وعلى رأسها هيئة الانتخابات. مؤسسات مستقلة تمّ تأسيسها قصد تحقيق الفصل بين السلط والتوازن فيما بينها ولكن من يترأّسونها اختاروا الخضوع لقرار المنفرد بالسلطة. لقد فضّل أعضاء هيئة الانتخابات أن تتحوّل مؤسّستهم إلى أداة تقنية في شكل هيئة تسهر على تطبيق أوامر سعيّد مهما كانت عبثية. هيئة مطيعة خرساء تدّعي الاستقلالية بينما لا تملك سلطة اتخاذ قرارها ولا تأبه بشأن تمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم السياسية وتقرير مصيرهم. في ظلّ هذا الأداء السيّئ من قبل الهيئة بهذه التركيبة، يبقى التساؤل حول مدى قدرتها على إدارة الانتخابات العامة التي قرّرها سعيّد في شهر ديسمبر القادم وهل لديه النية لتغيير التركيبة خصوصا بعد استقالة العضو المكلّف عن سلك القضاة واستبعاد العضو سامي بن سلامة من قبل زملائه.
تأرجح أداء الهيئة بين مهاجمة الرافضين للمسار والتعامل السلبي إزاء خروقات سعيّد وأتباعه
نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة
[1] مرسوم عدد 34 لسنة 2022 مؤرّخ في 1 جوان 2022 يتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء وإتمامه.
[2] أمر رئاسي عدد 506 لسنة 2022 مؤرخ في 25 ماي 2022 يتعلق بدعوة الناخبين إلى الاستفتاء في مشروع دستور جديد للجمهورية التونسية يوم الاثنين 25 جويلية 2022.
[3] أنظر مثلا، بيان شبكة مراقبون بتاريخ 26 جويلية 2022.
[4] أنظر بيان منظمة “عتيد”، بتاريخ 27 جويلية 2022، وبيان شبكة مراقبون بتاريخ 27 جويلية 2022.