شهر واحد يكفي لبناء جمهورية جديدة


2022-05-29    |   

شهر واحد يكفي لبناء جمهورية جديدة

أثار أستاذ القانون الصادق بلعيد إعجاب صحفية القناة الوطنية الأولى عندما قال لها: “لقد قُمت سابقا بإعداد مسودة دستور في ثلاثة أيام”. ويبدو أن تباهي الرجل بقدرته تلك كان الدافع لتعيينه على رأس “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” التي تم إحداثها وفقا للمرسوم عدد 30 الصادر في 19 ماي 2022.

هذه الهيئة التي تَعود بالنظر إلى رئيس الجمهورية ستكون مهمتها الأساسية “تقديم اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة”. وستُنهي أعمالها في 20 جوان 2022، أي بعد شهر واحد من إحداثها. وطيلة هذه المدة ستقوم الهيئة بتكوين ثلاث لجان استشارية: اللجنة القانونية ولجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ولجنة الحوار الوطني. ومن المنتظر أن تعقد هذه اللجان -حسب نصّ المرسوم-اجتماعات للنظر في المقترحات، وتبادل وجهات النظر حولها، والاستئناس بآراء مختصين من خارجها، وصياغة تقارير نهائية حول أعمالها. وقد قَيّدها المرسوم بمدة زمنية تَقلّ عن الشهر من أجل رفع تقاريرها للجنة الحوار الوطني، التي ألزمها المرسوم أيضا بتاريخ 20 جوان كأجل أقصى لرفع تقريرها النهائي لرئيس الجمهورية.

ضخامة الأهداف والمهام مقابل قصر المدة الزمنية كانت كافية لإثارة الشكوك حول جدية الحوار، حتى داخل الجبهة الحزبية والجمعياتية المساندة لإجراءات 25 جويلية. ويبدو أن الهيئة الاستشارية قد شرعت في أعمالها إلى حدّ الآن منقوصة من عناصر بارزة في تركيبتها التي نصّ عليها المرسوم، يُمثّلها أساسا الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد والبحري وجزء لا بأس به من عمداء وأساتذة كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية.

هذا المسار الاستشاري المُقيّد بزمن قصير وشروط مسبقة وتركيبة ضيّقة يُشكل ملمحا عن الاستراتيجيات التي يعتمدها رئيس الجمهورية من أجل فرض مشروع سياسي أُحَاديّ. ومن خلال نص المرسوم 30 وعبر السلوك السياسي للرئيس سعيّد يمكن بناء صورة أوليّة عن الإدارة السياسية للجمهورية الجديدة.       

دستور الرئيس أم دستور اللجان؟

طيلة الفترة السابقة لم يُخفِ الرئيس سعيد تصوّره لأهداف الحوار الوطني وهي بالأساس تغيير النظاميْن الانتخابي والسياسي وتثبيت نتائج الاستشارة الوطنية. وهذه الأهداف سيجري التعبير عنها داخل نص دستوري جديد. ومرسوم “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” لم يخرج عن هذا المنطق رغم محاولات التعويم. إذ أن الهيئة مُلزمة في نهاية المطاف باقتراح مشروع دستور مُتطابق مع التصوّرات السياسية للرئيس سعيد، وهو ما تنصّ عليه بوضوح الفقرة الثانية من الفصل 2 من المرسوم: “تحترم الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة عند إعداد المشروع المذكور المبادئ والأهداف المنصوص عليها بالفصل22  من الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلّق بتدابير استثنائية ونتائج الاستشارة الوطنية”. ويُذكر أن الفصل 22 من الأمر 117 المُشار إليه سابقا ينصّ على أنّه “يتولّى رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات المتعلّقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتمّ تنظيمها بأمر رئاسي”.  أما نتائج الاستشارة المشَار إليها في المرسوم فقد جاءت متطابقة مع مشروع “البناء القاعدي” من خلال إقرار فكرة الطلب الشعبي على ثلاثة محاور أساسية: الاقتراع على الأفراد، وسحب الوكالة من النوّاب، تأييد النظام الرئاسي.  

هذه الشروط الجوهرية المُسبقة والمُقيِّدَة لأعمال الهيئة الاستشارية تدفع إلى التساؤل عن قيمة اللجان الاستشارية الفرعية الأخرى ودورها في صياغة دستور الجمهورية الجديدة. وباستثناء اللجنة القانونية التي يعطيها المرسوم صلاحية “إعداد مشروع دستور يستجيب لتطلّعات الشعب ويضمن مبادئ العدل والحرية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي”، فإن لجنتي الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والحوار الوطني تقعان على هامش مسار صياغة النص الدستوري ولهما دور توفيقي و”تأليفي” على غرار لجنة الحوار الوطني. ولعلّ لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية تعطي إضاءة قوية حول “صوريّة” المسار الاستشاري. فرغم أن هذه اللجنة متكونة من منظّمات ذات ثقل اجتماعي واقتصادي على غرار اتحاد الشغل واتحاد الأعراف واتحاد الفلاحين إلا أن رئاستها أسنِدت إلى عميد المحامين. وقد حَصَر المرسوم دورها في تقديم مقترحات مقيّدة بشكل عام بتجسيد إرادة الشعب “التي عبر عنها في 17 ديسمبر 2010 وأكدها في الاستشارة الوطنية” حسب ما نصّ عليه الفصل الثامن من المرسوم.   

أما تركيبة اللجان، التي تضمّ ممثلين عن 6 منظّمات مضاف إليهم عمداء وعميدات كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية المُعَيّنين بأمر رئاسي، فإنّ توسيعها بأعضاء جدد يخضع إلى موافقة مسبقة من رئيس الهيئة الاستشارية الذي يعود في كل أعماله إلى رئيس الجمهورية.

استراتيجيا تجزئة المنظمات من الداخل

تُشير تصريحات ممثلي المنظمات الوطنية إلى أن الرئيس سعيد لم يتشاور معهم بخصوص المرسوم 30 ولم يستمع إلى تصوّراتهم حول إدارة الحوار الوطني. في هذا السياق قال خالد العرّاك نائب رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري “لم تبلغنا دعوة رسمية للحوار”. كما أشار بيان الهيئة الإدارية الأخيرة للاتحاد العام التونسي للشغل إلى أنّ مرسوم الهيئة الاستشارية “لم ينبثق عن تشاور أو اتّفاق مسبق”. بعض المنظمات الأخرى اضطرت إلى حسم مواقفها من المشاركة في أعمال الهيئة الاستشارية بعد صدور المرسوم، على غرار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي أعلنتْ مشاركتها بعد يومين من الإعلان الرئاسي. وهو ما يعني أنها لم تكن تملك صورة كافية حول مضمون الحوار وتركيبته ومنهجيته. وقد أبدتْ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مشاركة متحفّظة ومشروطة على غرار المطالبة بتشريكها في اللجنة القانونية المُكلّفة بصياغة الدستور والمطالبة باستقلالية عمل اللجان وعدم التدخّل في سير أعمالها وتوفير كل الإمكانيات اللوجستية والتقنية للقيام بأعمالها.

في هذه الأثناء، كانت مسألة المشاركة في الحوار الرئاسي موضوع انقسام داخل المنظمات. وهو ما شهدته تقريبا جل المنظّمات المذكورة في المرسوم، على غرار الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنية للمحامين. فقد أبدى بعض أعضاء الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان تحفظهم أو رفضهم للمشاركة في أعمال الهيئة الاستشارية.[1] كذلك أعلن مجلس الهيئة الوطنية للمحامين في بيان له رفضه تهميش القوى السياسية والمنظمات الوطنية من الحوار وأنّه “لا يقبل أن يكون الحوار شكليّا وبمخرجات مُسبقة”. ويبدو هذا الموقف المحترز غير متناسب إلى حدّ ما مع موقف عميد المحامين،إبراهيم بودربالة، الذي أصبح يُشكّل وجها بارزا في الدفاع عن المسار الرئاسي. وقد انعكس هذا التقارب في تعيينه رئيسا للجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية رغم التحفّظات التي أبداها البعض إزاء قدرته على إدارة مثل هذه القضايا.

في مواقع أخرى، أظهر هذا الانقسام وجود استراتيجيا رئاسية لإضعاف المواقف الرافضة للحوار داخل المنظمات نفسها من خلال استمالة بعض العناصر القيادية على حساب أخرى، وهو ما عبّر عنه بشكل واضح نورالدين بن عيّاد، عضو المجلس المركزي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري عندما صرّح قائلا أن “رئيس الجمهورية قيس سعيد قال له حرفيا: طهّروا المنظمة الفلاحية في شخص رئيسها”. ويَلوح أن رئاسة الجمهورية دفعت نحو إزاحة رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، عبد المجيد الزّار، المحسوب على حركة النهضة الإسلامية بحكم انتمائه السابق إلى مجلس شوراها قبل توليه رئاسة اتحاد الفلاحين. وبخصوص علاقته مع الرئيس صرح عبد المجيد الزّار مؤخرا: “هناك قطيعة مع الرئيس ولم يقم بدعوتي رغم أنه استقبل أعضاء آخرين من المكتب التنفيذي”.   

يُشير أيضا المرسوم 30 إلى أن هناك تمثيليّة جزئية للمنظمات الوطنية الفاعلة، إذ تم إقصاء بعض المنظمات الأخرى التي سبق للرئيس استقبالها بعيد 25 جويلية 2021، على غرار النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجمعية النساء الديمقراطيات. وقد جاء هذا الإقصاء نتيجة لمواقفها الناقدة لسياسات الرئيس قيس سعيد.

أغلب المنظمات الهامة شهدت انقسامات داخلية بشأن المشاركة في اللجان الاستشارية 

الجبهة الحزبية الداعمة للرئيس ومأزق “المشاركة الشرفية”  

من الملاحظ أن المرسوم 30 أقصى الأحزاب السياسية من تركيبة اللجان الاستشارية. وهو موقف متوقع ويتناسب مع رؤية الرئيس قيس سعيد للظاهرة الحزبية برمّتها. كما أنه يُشكّل مدخلا سياسيا لإلغاء كل ممكنات الحوار مع المعارضات الحزبية الرافضة لمسار 25 جويلية. ولكن هذا الإقصاء والتجاهل أضعف موقف الجبهة الحزبية[2] المساندة لسلطة التدابير الاستثنائية، مما اضطرها إلى إبداء تحفظاتها بخصوص المرسوم 30. في هذا السياق أشار زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب، إلى أنّه طلب من الرئيس توضيح موقفه من الأحزاب السياسية وتشريكها في الحوار، ولكن يبدو أن الرئاسة لم تتفاعل إلى حدّ الآن مع المطالبة بتوضيحات إضافيّة. من جهته قال عبيد البريكي، أمين عام حركة تونس إلى الأمام، “عن أيّ حوار نتحدّث دون أن تشارك فيه المنظّمات الوطنية كاتحاد الشغل ومنظّمة الأعراف والأحزاب السياسية. وعن أيّ حصيلة لهذا حوار بالشكل المقترح. وكيف سيدور.”

إن الجبهة الحزبية المساندة للرئيس لا تدعو إلى مشاركة حزبية واسعة في الحوار وإنما تنادي فقط بمشاركة من تطلق عليهم “مساندي مسار 25 جويلية”. وهي بذلك تدفع نحو بناء حزام حزبيّ مرتبط بالرئيس ومستفيد سياسيا من المسار. هذا الحزام وصفه عبيد البريكي بـ”جبهة تحصّن 25 جويلية من حيث المنطلقات والأهداف”. ولكن المرسوم 30 والسلوك السياسي للرئيس وضعاها في مأزق، خاصة وأنّ رئيس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية صرّح بأنه سيتم الاستعانة بآراء الكفاءات حتّى وإن كانوا منتمين لأحزاب سياسية، ولكن بصفاتهم الشخصية وليست الحزبية. بمعنى أن هناك حظرا لمعاني التحزّب والحزبية داخل اللجان الاستشارية. وهذا الموقف سيدفع مساندي الرئيس نحو مواقع أكثر معارضة، خاصة وأن الرئيس سعيد صرّح في لقاءاته معهم بأنه يتعامل مع الأحزاب “غير الفاسدة” بحكم الضرورة. ولكنه يعتقد عموما أن “فكرة الأحزاب ستنتهي بعد سنوات” على غرار ما أشار إليه زهير المغزاوي الأمين العام لحركة الشعب.

هناك حظرٌ لمعاني التحزّب والحزبية داخل اللجان الاستشارية

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1] أبدى ثلاث أعضاء من الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان رفضهم للمشاركة وأبدى عضو آخر تحفظه. وأصدرت بعض الفروع الجهوية للرابطة بيانا أشارت فيه إلى رفضها المشاركة في حوار “صوري”.

[2]  تضم هذه الجبهة أساسا أحزاب التيار الشعبي وحركة الشعب وحركة تونس إلى الأمام وحركة البعث والوطد الاشتراكي والجبهة الشعبية الوحدوية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، مرسوم ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني