من اغتصب سلطة “القضاء” في قضية تفجير المرفأ؟ أو حين عطّلت المادة 751 الدستور


2023-10-18    |   

من اغتصب سلطة “القضاء” في قضية تفجير المرفأ؟ أو حين عطّلت المادة 751 الدستور
رسم رائد شرف

مرة أخرى، حلّت ذكرى تفجير المرفأ ولما يزال التّحقيق عالقًا. فبعدما توقّف التحقيق في الذكرى الأولى في انتظار النظر في طلبات رفع الحصانات من قبل المراجع السياسية المعنيّة (وقد امتنعت كلّها عن القيام بذلك)، توقّف التحقيق في السنة الثانية بفعل عشرات دعاوى الردّ والمخاصمة التي قدّمتها القوى المُناوئة له، وهي دعاوى تؤدّي إلى تعليق التحقيق بمعزل عن جدّيتها. وقد بلغت خطورة دعاوى المخاصمة أقصاها بعدما أجهضتْ القوى السياسية الحاكمة التشكيلات القضائية لملء المراكز الشاغرة في رئاسات غرف محكمة التمييز، ممّا أفقد هيئتها العامّة المختصّة للنظر فيها إمكانية بتّها وأبقى تاليًا مفعولها المعلّق لدعاوى الردّ والتحقيق قائمًا إلى أجل غير مسمّى، كلّ سندًا للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية.

ومن البيّن تاليًا أنّ المحقق العدلي وجد نفسه في وضع عبثيّ بحيث تمّ تجريده من سلطته بمجرّد تشكيك عدد من المدّعى عليهم في شخصه من دون أن يكون هنالك أيّ مرجع قضائي قادر على النظر في صحّة هذا الطلب. وإذ سعى إذ ذاك إلى الاجتهاد لتجاوز هذه العقبات بواسطة ما اعتبره ائتلاف استقلال القضاء “اجتهاد الضرورة”، جُوبه خلال ساعات قليلة بأقسى انقلاب من قبل أحد المدعى عليهم في القضية وهو النائب العامّ التمييزي غسان عويدات بدعم وتغطية من قبل أغلب القوى السياسية الحاكمة. وقد تمثّل الانقلاب في إجراءات عدّة قام بها هذا الأخير، أهمّها وأكثرها تأثيرًا على مسار القضية، الادّعاء على المحقّق العدليّ بجرم الاستيلاء على السلطة مع إصدار قرار بمنعه من السفر بحجّة أنّه عاد ليمارس دوره كمحقّق في حين أنّ يده مكفوفة عن الملف عملًا بالمادة 751. إذ بفعل هذا الإجراء، انقلبت الأدوار بين النائب العام التمييزي والمحقّق العدلي، بحيث حوّل الأوّل نفسه من مدّعى عليه إلى مدّعٍ ليسارع إلى تحويل المحقق العدلي الذي كان ادّعى عليه إلى مدّعى عليه. وما يزيد من قابلية تصرف عويدات للنقد هو أن استعادة زمام النيابة العامة حصل خلافا لقرار سابق من محكمة التمييز بقبول تنحيه عن النظر في القضية تبعا للادعاء على زوج شقيقته الوزير غازي زعيتر (2020).  

وبنتيجة هذه الإجراءات التي عرّضت المحقّق العدلي للتوقيف بإشارة من النيابة العامّة، عاد بيطار ليقرّر تعليق جلسات الاستماع إلى المدّعى عليهم في انتظار إسقاط الشكوى المقامة ضده (5 شباط 2023). وفيما يبدو قراره بتعليق التحقيق بديهيًا على ضوء خطر توقيفه، فإنّ استمرار التعليق رغم زوال هذا الخطر بعد إحالة الملف من النيابة العامّة إلى قاضي التحقيق المعيّن خصيصًا في هذه القضية، يحتاج إلى تفسيرات إضافية. فالفائدة من إسقاط الشكوى لا تقتصر على إبراء ذمّة بيطار أو إسقاط مخاطر التّوقيف عنه بل تكمن قبل كلّ شيء في تظهير عبثية تعطيل التحقيق لأجل غير مسمّى وتاليًا في تحويل وجهة الاتّهام منه إلى الجهات التي تُعطّل قيامه بمهمة التحقيق. فكأنّما القاضي بيطار يأمل من إسقاط الشكوى ضدّه قبل مباشرة عمله، ليس فقط إبراء نفسه، إنّما قبل كلّ شيء، الحصول على غطاءٍ يُضفي مشروعيّة على قراره باستعادة السّير بالتحقيق ضمانًا لمشروعية القرار الظنّي الذي قد يصدره وتحصينه في مواجهة حملات التّشكيك القائمة على قدمٍ وساق ضدّه.     

إلّا أنّه ورغم انقضاء أكثر من ثمانية أشهر من تقديم هذه الشكوى، يبقى قاضي التحقيق المعيّن خصّيصًا للنظر فيها عملًا بأصول محاكمة القضاة، وهو القاضي حبيب رزق الله، متكتّما (ومعه مجلس القضاء الأعلى المسؤول عن ضمان حسن سير العدالة) بشأن أسباب تريّثه عن التحقيق فيها. وفيما تبقى الحساسيّات السياسيّة المُفرطة حاضرة في أي إجراء يتّصل بهذه القضية، يعزو البعض في أروقة العدلية، تريّث رزق الله إلى أنّه ليس لقاضي التحقيق الخاص مباشرة عمله ما لمْ يعيّن أعضاء الهيئة الاتهاميّة الخاصّة وهي مرجع استئنافي له فيها. بمعنى أنّه لا يجوز وفق أصحاب هذه الحجّة أن يباشر قاضي التحقيق الابتدائي عمله من دون أن يكون المرجع الاستئنافي مشكّلا ومهيّئا للنظر في قراراته، احتراما لحقوق الدفاع. أما لماذا عُيّن قاضي التحقيق الخاص ولم تعيّن الهيئة الاتهامية؟ فمردّ ذلك هو أنّ تعيين الأوّل يحصل بقرار من رئيس مجلس القضاء الأعلى منفردًا، فيما أنّ تعيين أعضاء الهيئة يحصل بقرار من مجلس القضاء الأعلى، وهو المجلس الذي يضمّ النائب العام التمييزي، ويحتمل أن يشهد تجاذبات بين الولاءات السياسية المختلفة داخله. 

وعليه، وإذ كان يؤمل أن يعمد قاضي التحقيق الخاصّ إلى إسقاط الشكوى ضدّ بيطار ومعها مفاعيل المادة 751 والانقلاب، تمكينًا له من استعادة مسار التحقيق، يبدو أنّ هذا المسار بات بدوره معطّلا وغير نافذ. ورغم رداءة هذا المشهد، فإنّه يشكل برهانًا إضافيًا على أنّ المشكلة الأساسية تتعدّى شخص بيطار ومدى صحّة القرارات التي اتّخذها أو لم يتّخذها، لتتّصل في الدّرجة الأولى بالنظام القضائيّ المعمول به والذي بات يتضمّن بذور تعطيل القضاء ومعه حق التقاضي بالكامل، مع ما يستتبع ذلك من نتائج عبثية.

انطلاقًا من ذلك، يهدف هذا المقال إلى إعادة طرح سؤالين مركزيين: “من اغتصب السلطة ممّن؟” و”أي إجراءات بإمكان المحقق العدلي اتخاذها لاستعادة سلطته التي أفقده إيّاها واقعيًا الانقلاب تمامًا كما استعادها من قبل بفعل قراره الصادر في 23 كانون الثاني 2023؟” 

من اغتصب السلطة ممّن؟

يُظهر تتبّع الأحداث بوضوح أنّ الجهات المناوئة لتحقيق المرفأ إنّما سخّرت ما لديها من وسائل من أجل عرقلته وتعطيله، الأمر الذي جرّد المحقق العدلي من سلطته بمجرّد تشكيك عدد من المدّعى عليهم بشخصه من دون أن يكون هنالك أيّ مرجع قضائي قادر على النظر في مشروعية هذا التشكيك. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أنّ الآلية المُستخدمة من أجل تعطيل التحقيق في قضية المرفأ تحوّلت إلى آلية تخوّل أيّ مدعى عليه تعطيل أيّ قضية مقامة ضدّه أيًا تكن أهمّيتها الاجتماعية لأجل غير مسمّى، بمجرّد إعلان ارتيابه في المرجع القضاء الذي ينظر فيها.

وليس أدلّ على ذلك من نجاح الحاكم السّابق رياض سلامة بتعليق التحقيق في قضية الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع المقامة ضدّه ورفاقه لأجل غير مسمى، بمجرّد تقدّمه أمام الهيئة العامّة لمحكمة التمييز بدعوى مخاصمة الدولة على خلفية القرارات الصادرة فيها عن الهيئة الاتهامية في بيروت (29 آب 2023).

ولا يحتاج اثنان لتوصيف هذا الواقع على أنّه عبثي، طالما أنّه بات بإمكان استخدام مادة في قانون أصول المحاكمات تشريع نظام الإفلات من العقاب ونسف كلّ ما جاء في الدستور والمواثيق الدولية لجهة مكانة السلطة القضائية أو الحقّ في التقاضي أو حقوق الضحايا في الإنصاف والعدالة. إلّا أنّه ورغم عبثية هذا الواقع، بدت السلطات المعنيّة وكأنّها في معرض التكيّف معه بل الاستفادة منه لمضاعفة حالات تعطيل القضاء. هذا مثلًا ما نستشفّه من البيان الصادر عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في تاريخ 22/2/2023 بالإيعاز لوزارة الداخلية والضابطة العدلية الامتناع عن تنفيذ المذكّرات الصادرة عن المرجع القضائي الناظر في قضية “قروض المليارات التسعة” عملًا بالمادة 751، على نحو حوّل النظام التعطيليّ لهذه المادة (أو نظام الإفلات من العقاب) إلى سياسة حكوميّة. وهذا أيضًا ما نستشفّه من امتناع مكتب مجلس النواب عن اتّخاذ أيّ إجراء لتسريع النظر في اقتراحيْ قانون بتعديل هذه المادة قُدّما منذ آذار 2023، وكأنّ لا ضرورة تستدعي ذلك. هذا فضلًا عن لزوم المراجع المعنيّة بحسن سير العدالة وبالأخصّ وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى الصمت التامّ في هذا الشأن. فكأنّما يحظى تعطيل القضاء وتاليًا اغتصاب سلطته بتوافق واسع من المرجعيات السياسية والقضائية، على نحو يترك القضاة وحدهم في الدفاع عن مرجعيتهم المسلوبة وعمّا بقي من معاني العدالة.     

أيّ حظوظ لتجاوز الممارسات التعطيليّة في قضيّة المرفأ؟

بعدما تيقّن المحقّق العدليّ في بداية 2023 من عجز السّلطات العامّة كافّة عن إيجاد حلولٍ لتعطيل التحقيق في قضية المرفأ، اتخذ قرارًا بتحرير نفسه منه بالاستناد إلى قراءة خاصّة لوضعيّته للتحقيق وفق أصول استثنائية، وهو القرار الذي وصفناه باجتهاد الضرورة. وإذ توقّف بعد ذلك بنتيجة ادّعاء النائب العام التمييزي ضدّه على خلفية قراره الجريء بانتظار تثبيت أحقيّته ومشروعيته في مواصلة عمله، ها هو يتيقّن مجددًا من عجز السلطات العامّة كافة بما فيها المحقّق الخاصّ المعيّن في قضيّته عن معالجة ما تسبب به انقلاب عويدات رغم انقضاء ما يزيد على 8 أشهر عليه، فما هي الوسائل التي يملكها لتجاوز هذا التعطيل المستجدّ؟ هل يلجأ إلى اجتهاد الضرورة مجددًا؟ هل يعمد إلى إصدار قراره الظنّي تبعًا لاتخاذ بعض الإجراءات الشكلية متجاوزًا ما يستحيل مراعاته بفعل استيلاء عويدات على النيابة العامّة والضابطة العدلية خلافًا لقرار صريح من محكمة التمييز بقبول تنحّيه عن القضية؟ وفي حال قيامه بذلك، كيف له أن يحصّن قراره الظنّي في ظلّ حملات التشكيك فيه وفي مشروعية أيّ قرار قد يصدره؟ فهل يستمرّ في انتظار قرار قد لا يأتي في تحديد الجهة التي اغتصبت القضاء أم يستمدّ من عجز القضاء من النظر في الشكوى ضدّه  دليلًا آخر على الاغتصاب ومشروعية للمضي إلى المحطة الأخيرة؟ كلّها أسئلة يصعب على سواه الإجابة عليها في ظلّ تعقيدات الوضع وتراكم التحدّيات التي تعصف بلبنان. فنراقب.   

نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني