ملاحظات حول مشروعيْ موازنة 2023 و2024: التلهّي في معالجة تداعيات سعر الصرف بدل معالجة الأزمة


2023-10-18    |   

ملاحظات حول مشروعيْ موازنة 2023 و2024: التلهّي في معالجة تداعيات سعر الصرف بدل معالجة الأزمة
رسم رائد شرف

بعد تأخّر قارب السّنة، حصلتْ حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي على جرعة منشّط غير معلومة المصدر، بحيث أقرّت مشروعيْ موازنة 2023 و2024 خلال فترة 27 يومًا فقط. ولئن تأخّرت الحكومة في إرسال موازنة 2023 بالنسبة إلى المواعيد الدستورية حوالي السنة، فإنّها فاخرت في مراعاة هذه المواعيد بما يتصل بموازنة 2024.

قد يختال البعض أنّ هذه الحماسة الفُجائية ترافقت مع إصلاحات لوضع الخزينة وأوضاع الموظفين العامّين وإصلاح ضريبي، إلّا أنّ التدقيق في أحكام المشروعيْن يُفيد بأنّ جلّ ما تضمّناه هو استمرار في سياسة الترقيع ومعالجة غير متناسقة لتداعيات انهيار العملة الوطنية. فأغلب الرسوم والضّرائب تمّ تعديلها لجعلها متناسبةً مع تحوّلات سعر الصّرف، في حين أنّ مضاعفة المبالغ المدفوعة لموظّفي القطاع العامّ تستمر على سبيل المساعدة الاجتماعية مع إبقاء رواتبهم الأساسية التي فقدت قيمتها الشرائية، على حالها.

وعليه، من المهمّ تسجيل الملاحظات الآتية:

1- تأخّر الحكومة في مشروع 2023 يسبّب الإرباك

أرسلتْ حكومة ميقاتي مشروع الموازنة لسنة 2023 بعد نحو عام من الموعد الدستوري وقبل 4 أشهر فقط من نهاية العام. وهو ما درجت عليه العادة منذ العودة إلى إقرار الموازنات في العام 2017. إلّا أنّ لجنة المال والموازنة رفضت هذا الأمر للمرّة الأولى انطلاقًا من أنّه تشريع لصرف الجباية في سنة شارفت على الانتهاء. وقد طالبت اللجنة الحكومة بإحالة مشروع موازنة 2024 إلى مجلس النوّاب، متضمّنًا الرؤية الإنقاذية والإصلاحية المطلوبة، وأيّ بند أو مادة تعتبرها الحكومة أساسية من ضمن مشروع موازنة 2023 أو من خارجه، علمًا أنّ مجلس الوزراء قد أقرّ مشروع موازنة 2024 قبل هذا الطلب.

الاستجابة لهذا الطلب كانت تفرض أن تعود وزارة المالية لتقديم مسوّدة جديدة لموازنة 2024 وأن يعود مجلس الوزراء لإقرارها مجددًا في صيغتها الجديدة. إلّا أنّ المخالفة الكبرى في هذا الصدد تكمن في كون مشروع القانون الذي أُحيل من الحكومة إلى المجلس النيابي ليس هو نفسه المشروع الذي وافق عليها مجلس الوزراء، بحيث انحصرت مهمّة إدخال التعديلات بوزارة المالية. كما يقتضي التذكير بأنّ المشروعيْن يأتيان من دون قطع حساب في مخالفة أصبحت اعتيادية للدستور، بخاصّة عقب تطبيع المجلس الدستوري معها بحجّة الضرورة وتخفيف الأضرار.

2- استمرار الهشاشة في أوضاع الموظفين العامين

على عكس ما جرتْ عليه العادة في مشاريع موازنات السنوات الماضية، خلا المشروعان من أيّ مادّة تتعلّق مباشرة بأوضاع الموظفين العموميّين، سواء فيما يتعلّق برواتبهم أو أوضاعهم الوظيفية والتقاعد وغيرها. ويعكس هذا الأمر تماديًا في إهمال أوضاع الموظفين العامّين، الأمر الذي سينعكس على أداء المرافق العامّة وتاليًا حقوق المواطنين كافة. والفكرة الوحيدة التي تضمّنتها مسوّدة مشروع موازنة 2024 لتحسين أوضاع الموظفين العموميّين المالية تمثلت في تنظيم ما أسماه بدل خدمات سريعة، وهو عمليًا آلية بديلة عن الرشوة لإلزام المواطنين الأكثر قدرة بتسديد مبالغ إضافية للحصول على الخدمة العامّة.

يأتي هذا الحلّ على حساب العديد من المبادئ حيث يُخشى أن تتحوّل هذه الآلية من آلية تمنح امتيازًا للمواطن الذي يدفع، إلى آلية تحجب الحق في الحصول على الخدمة عن المواطن الذي لا يدفع، في مخالفة واضحة لمبدأ المساواة بين المواطنين المكرّس في الفقرة “ج” من مقدّمة الدستور. ولا ينحصر الاعتداء على المبادئ بمبدأ المساواة بين المواطنين، بل يتعدّاه إلى المبادئ التي تقوم عليها الوظيفة العامّة حيث ستوزّع المبالغ بين الموظفين بطرق غير متساوية ما ينقض مبدأ وحدة المعايير في تحديد رواتب هؤلاء (سلسلة الرتب والرواتب). هذا فضلًا عن تعزيز علاقات الزبونية والمحسوبية داخل الإدارات العامّة، حيث ترتبط آلية تنفيذ هذه المادة بقرار من وزير المالية والوزير المختص. وطبعًا يحصل كلّ ذلك من دون أيّ ذكرٍ للمتقاعدين أو محاولة لتحسين أوضاعهم.[1]

3- أملاك الدولة لأصحاب النفوذ

تضمّن مشروع موازنة 2023 في المادة 34 منه، وهي مادة انتقلت إلى مشروع موازنة 2024 (م. 82) وسبق أن شطبتها الهيئة العامّة لمجلس النوّاب من مشروع موازنة 2022، تتعلّق بالسماح بتأجير أملاك الدولة الخصوصية لفترات قد تصل إلى 18 عامًا (حاليًا لا يمكن أن تتجاوز مدة تأجير هذه الأملاك أربع سنوات). اللافت في هذه المادة أنّها تُحدّد الإيجار بما لا يقلّ عن 2% من القيمة التخمينية للعقار، بينما هي 4% في التعاملات بين الأفراد. كما أنّها لا تضع حسابًا للتضخّم الذي قد يحصل وبخاصّة في ظلّ تواصل انهيار العملة اللبنانية، حيث لا تُزاد بدلات الإيجار بنسبة معيّنة سنويًا وفق ما هو معمول به في الإيجارات طويلة الأمد. عدا عن ذلك، فالمادة المقترحة تُعدّ من فرسان الموازنة ويفترض مناقشتها على حدة.

نموذج ثانٍ عن تسخير أملاك الدولة لمصلحة أصحاب النفوذ يتمثّل في قضية الأملاك البحرية. فقد بقيت هذه الأملاك مستباحة من قبل أصحاب النفوذ بشكل شبه مجّاني، إذ لم تزدْ إيرادات هذه الأملاك عن 26 مليون دولار (2550 مليار ليرة) على ما يظهر في جداول الإيرادات في مشروع موازنة 2024، بزيادة مضاعفة بالنسبة إلى إيرادات السنة الماضية من دون معرفة مصدر هذه الزيادة. علمًا أنّ هذه الإيرادات وردتْ تحت بند: “إيرادات ناتجة عن تسوية الأملاك البحرية”، يفهم من ذلك أنّ الإيرادات المذكورة لا تشمل رسوم إشغال الأملاك البحرية، من دون أن يُعرف ما إذا لُحظِت فعليًّا ضمن إيرادات الموازنة أم لا.[2] هذا فضلًا عن أنّه بخلاف الرسوم الكثيرة التي تمّت مضاعفتُها في مشروع الموازنة، لم يتمّ لحظ أيّ زيادة على الرسوم على إشغال الأملاك البحرية.

4- لا عدالة ضريبية مجددًا

لم يشهد المشروعان أيّ توجّه لإصلاح ضريبي نحو توزيع أكثر عدلًا للأعباء الضريبية. لا بل أكثر من ذلك، فقد تضمّن مشروع 2023 المادة 26 التي تعفي الأغنياء من الضريبة على الأرباح في الخارج وبمفعول رجعي قبل أن يتمّ التراجع عنها تحت ضغط الاعتراضات عليها. وفي حين تمّ توسعة الشطور في مشروع 2023 وهو ما يفترض أن يمتدّ إلى مشروع 2024، فإنّ هذا التوسيع في الشطور لا يضربها بأكثر من 9 مرّات عمّا كانت عليه قبل انهيار العملة. ففي حين كانت تُفرض ضريبة بنسبة 4% عن الشطر ما دون 9 ملايين ليرة (6 آلاف دولار) قبل الأزمة، أصبحت الآن ضريبة الـ 4% تُفرض على الشطر ما دون 100 مليون ليرة (ألف ومئة دولار)، وهكذا دواليك ليخضع أي دخل يزيد عن هذه المبالغ لنسب أعلى تتراوح بين 7% و25%. وبذلك، فإنّ الضريبة ستقسو على أصحاب المداخيل الأدنى عمّا كانت عليه من قبل. مُقابل ذلك، كان يُلزم المكلّف بضريبة الأملاك المبنيّة، بالدفع عند التصريح، إلّا أنّ المادة 71 من مشروع موازنة 2024 أسقطتْ هذا الإلزام من دون توضيح أسباب ذلك، علمًا أنّ المادة كانت مخصّصة لتعديل الحدّ الأدنى الذي يُكلّف الشخص بضريبة الأملاك المبنية إذا كانت إيراداته أعلى من 100 مليون ليرة. يبقى أن نشير إلى مادة أخرى (21) وردت في مشروع موازنة 2024 من دون أن يرافقها أي تعليل أو دراسة وبمعزل عن أي قانون يتناول قيمة الودائع. وقد نصّت هذه المادة على تشريع “هيركات” ضمنًا على أموال المودعين المودعة قبل 17 تشرين 2019 يصل إلى 50%، بحيث يتمكّن هؤلاء من دفع بعض الرسوم من حساباتهم المحتجزة في المصارف لكن على أساس 50% من سعر الدولار على منصة “صيرفة”. من البيّن أنّ هذه المادة في حال إقرارها ستشكّل إحدى الأدوات غير العادلة وغير المدروسة في إطفاء الودائع.

5- مضاعفة الرسوم والغرامات في ظلّ الضياع بتحديد سعر الصرف

ضوعفت الرسوم والغرامات بشكل كبير في المشروعيْن تبعًا لتدهور سعر الصرف، من دون أن يكون هناك آلية واضحة أو موحّدة لهذه المضاعفات أو لطريقة احتساب سعر الصرف. فقد ضوعفت مثلًا الرسوم القضائية لتسجيل التجّار الأفراد والشركات أكثر من 50 ألف مرّة (من 1000 أو 2000 ليرة إلى ما بين 100 مليون و500 مليون ليرة)، بمقاربة متناقضة مع الموازنات السابقة التي أعفت الشركات الجديدة من عدد كبير من الرسوم والضرائب. في الوقت نفسه، أضيفت الرسوم على إنتاج الإسمنت 40 مرّة فقط (أقل من انهيار سعر الليرة اللبنانية)، بينما ضُرب رسم الترشح للانتخابات النيابية بـ 16 مرّة والبلدية بـ 10 مرّات، مقابل ضرب رسوم السير والرسوم القضائية بـ 10 مرّات.

ويتّضح ذلك أيضًا في ظلّ عدم توحيد سعر الصرف في الموازنة، حيث يبرز اتّجاه أوّل بزيادة استيفاء الرسوم بالدولار النقدي بدل الليرة بحسب المشروع الأوّلي لوزارة المال، كرسوم الكهرباء والجمارك (وهو أمر عادت الحكومة عنه). في المقابل، برز سعر جديد في عدد من المواد بخاصّة الضريبية منها (احتساب الشطور)، قوامه 40% من سعر “صيرفة”، وهي المنصة التي أُلغيت ويُفترض أن تُعدّل على أساسه هذه المواد، علمًا أنّ هذا السعر (50 ألف ليرة تقريبًا) يظهر للمرّة الأولى في مسوّدة وزارة المالية قبل أن تعود عنه الحكومة.

نشر هذا المقال في العدد 70 من مجلة المفكرة القانونية- لبنان


[1] للمزيد: فادي إبراهيم، كيف قاربت موازنة 2024 أوضاع الموظفين العامّين؟ الخدمات السريعة كمدخل لوضع اليد على الإدارة، 15/9/2023، المفكرة القانونية.

[2] للمزيد: إيلي الفرزلي، موازنتا 2023 و2024: الطبقات الفقيرة والمتوسطة وحدها تدفع ثمن الانهيار، 19/9/2023، المفكرة القانونية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، سياسات عامة ، تشريعات وقوانين ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني