كيف قاربت موازنة 2024 أوضاع الموظفين العامّين؟ الخدمات السريعة كمدخل لوضع اليد على الإدارة


2023-09-15    |   

كيف قاربت موازنة 2024 أوضاع الموظفين العامّين؟ الخدمات السريعة كمدخل لوضع اليد على الإدارة

على عكس ما جرتْ عليه العادة في مشاريع موازنات السنوات الماضية، خلتْ مسودة مشروع قانون موازنة العام 2024 (والتي أعدتها وزارة المالية) من أي مادّة تتعلّق مباشرة بأوضاع الموظفين العموميين، سواء فيما يتعلّق برواتبهم أو أوضاعهم الوظيفية والتقاعد وغيرها. ويعكس هذا الأمر تماديا في إهمال أوضاع الوظيفة العامة التي وعلى الرغم من أنّ رواتب موظّفيها أصبحت بخسة، إلّا أنّ هؤلاء لا يزالون يرزحون شهريا تحت خطر عدم الحصول على رواتبهم. وفي حين أنّ إصلاح وضع الوظيفة العامة لا يُفترض أن يكون عبر قانون الموازنة، فإنّ عدم مقاربة الموضوع لا في هذا القانون ولا خارجه، إنما يعكس النيّة في إبقاء الأوضاع المزرية في الوظيفة العامّة وللمُتقاعدين كما هي. وليس أدلّ على ذلك من أن رواتب الموظفين ما تزال على حالها قبل الأزمة وأن أي زيادة تسدد للموظفين (بما فيها 6 رواتب إضافية) يتم توصيفها على أنها “زيادة” ليس لهم عليها أي حق مكتسب ولا تدخل قط في احتساب رواتبهم أو تعويضات نهاية الخدمة. 

وما يزيد من قابلية الأمر للانتقاد هو أن مسودة المشروع تضمنت فعليا مقاربة هجينة لتحسين أوضاع الموظفين. هذه المقاربة نصّت على استحداث رسم بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة. وعليه، وفي حال إقرار هذه المادة، سيُستوفى رسم خاص أعلى من الرسم العادي من قبل الإدارة على أن يتمّ إنجاز المعاملة ضمن مهلة أقصاها 3 أيّام. وما يزيد من خطورة هذا الاقتراح هو أنه ترك للوزير المختص ووزير المالية أمر تحديد المعاملات التي من الممكن إنجازها بصورة سريعة والرسوم المترتّبة عليها. وفي حين حددت المسودة كيفية توزيع عائدات هذا الرسم مخصصا 50% منها للإدارة أو المديرية التي قدمت الخدمات على أن تتوزع ال 50% الأخرى للخزينة العامة وصندوق تعاضد موظفي الإدارات العامة والهيئات الرقابية وسائر الإدارات التي لا تقدم خدمات، إلا أنه خلا من أي آلية لتحديد كيفية توزيع هذه العائدات داخل الإدارة أو المديرية الواحدة. 

إنّ هذا المقترح يثير بما يتضمنه وبما يعكسه من منطق لدى السلطة الحاكمة، مخاوف كبيرة حاولنا سيرها ضمن الملاحظات التالية:

خصخصة الخدمة العامة

أول المخاطر التي يجدر لفت النظر إليها هو خطر تحويل الإدارات العامة إلى مؤسسات تدرّ مداخيل خاصّة بالعاملين فيها، علما أنه يرجّح أن تتجاوز قيمة المبالغ التي قد يحصّلها هؤلاء من هذه العائدات قيمة الرواتب التي يتقاضونها كموظفين عامين، أقله في بعض الإدارات العامة. ومن شأن ذلك أن يحث موظفي الإدارات العامة إلى توسيع الخدمات التي يشملها رسم الخدمات السريعة وإلى تخصيص جهودهم لأداء هذه الخدمات، كل ذلك على حساب العمل الإداري الاعتيادي والمواطنين غير القادرين على تسديد الرسوم المرتفعة. كما يحتمل أن يشجع نمو نشاطات مماثلة مطالبات بخصخصة تامة لخدمات ما تزال محصورة اليوم في الإدارات العامة. وما يزيد من هذا الخطر هو السلطة الاستنسابية الواسعة المعطاة للوزراء في تنظيم الخدمات السريعة وتوزيع الرسوم المحصلة بنتيجتها، فضلا عما جاء في الأسباب الموجبة التي وضعت في هامش المادة والتي تحدثت عن إمكانية إنشاء فريق خاص في الدائرة المعنية لإنجاز هذه الخدمات.       

لا عدالة بين المواطنين

الأمر الثاني الذي يجدر التنبيه إليه هو أثر اعتماد الخدمات السريعة على أداء الإدارات العامة وبخاصة لجهة الخدمات الاعتيادية، وبخاصة في سياق وضعها الحالي تبعا للأزمة الاقتصادية والمالية والتي تركت وما تزال تترك آثارا سلبية جدا على القطاع العام. ومن أهم هذه الآثار حالة الركود والاإنتاجية والإضرابات شبه المتواصلة، فضلا عن توسع ظاهرة الرشوة الصغيرة للحصول على الخدمات. ولا نبالغ إذا قلنا أن تسديد مبالغ إضافية للموظفين أضحى بمثابة شرط في الكثير من الإدارات العامة لإنجاز المعاملة ضمن وقت معقول.

أكثر ما يخشى من إقرار هذه المادة هو أن تشكل مبرراً وغطاء لتأخير معاملات المواطنين الذين لا يريدون أو يعجزون عن الدفع لتركها في جوارير الإدارة بحجة أن الأولوية هي للذين يدفعون هذه الرسوم. وبذلك، قد تتحول هذه الآلية من آلية تمنح امتيازا للمواطن الذي يدفع، إلى آلية تحجب الحق بالحصول على الخدمة عن المواطن الذي لا يدفع، في مخالفة واضحة لمبدأ المساواة بين المواطنين المكرّس في الفقرة ج من مقدّمة الدستور.

وما يزيد من خطورة ذلك هو الاستنسابية المتروكة للوزراء المعنيين ووزير المالية في تحديد شروط أداء هذه الخدمة وإطارها وفق ما سبقت الإشارة إليه.

لا عدالة بين الموظفين

الأمر الثالث الذي يجدر التنبيه إليه هو التفريق الحاصل بموجب هذه الآلية بين الموظفين العاملين في الإدارات المختلفة، وحتى ضمن الإدارات نفسها. فبفعل هذه الآلية، سيتمكن موظفو الإدارات التي تقدم خدمات مباشرة للمواطنين من الحصول على مداخيل إضافية قد تتعدّى قيمة رواتبهم، كما هي حال موظفي وزارة المالية وإداراتها. وهذا الأمر يتحصل من حصولهم على 50% من قيمة الرسوم الخاصة بالخدمات السريعة والتي تقدمها إداراتهم. بالمقابل، فإن موظفي سائر الإدارات لا يستفيدون إلا من زيادات جد محدودة على رواتبهم (هي بمثابة فتات) طالما أنه ليس بإمكان إداراتهم جني هذه العائدات الإضافية، إنما تنحصر مداخيلها ب 10% من مجموع الرسوم المسددة لقاء الخدمات السريعة. الأمر نفسه بشأن موظفي هيئات الرقابة الذين سينحصر حقهم بالحصول على 5% من عائدات هذه الخدمات السريعة، الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد إضعاف لهذه الهيئات. من شأن هذا التفاوت بين موظفي الإدارات أن ينقض أساس فكرة وجود سلسلة للرتب والرواتب، حيث يُفترض أن يتقاضى الموظّف نفس ما يتقاضاه زميله من نفس الفئة ودرجة الأقدميّة، لا أن يحظى موظف بامتياز على حساب أقرانه من نفس الفئة والدرجة لمجرّد وجوده في إدارة ما.

التمييز لا يسري بين موظفي الإدارات المختلفة وحسب، إنما ينطبق في العلاقة بين موظفي الإدارة الواحدة. وما يعزز ذلك هو إبهام المادة المقترحة بشأن هوية موظفي الإدارة الذين سيستفيدون من عائدات الخدمات السريعة التي قد تؤديها الإدارة التي ينتمون إليها أو كيفية توزيعها فيما بينهم، بل ترك هامش واسع للوزير المعني ووزير المالية في وضع شروط الاستفادة وقواعد التوزيع، علما أن الأسباب الموجبة لهذه المادة تلمّح إلى إمكانية تعيين فريق خاص للقيام بهذه الخدمات، وهو فريق يخشى أن يضمّ الأشخاص المحسوبين على الوزير المعني أو المقربين منهم تمهيدا لتوزيع عائدات الخدمات فيما بينهم حصرا.  

بقي أن نذكر ببعض الأنظمة المشابهة، ومنها بشكل خاص نظام “رسوم الخدمات” المُعتمد في إدارة الجمارك أو نظام تحقيق الغرامات في وزارة المالية، حيث توزّع الأموال المحصّلة على الموظفين على أساس حصص، ترتفع كلّما ارتفعت رُتبة أو فئة العنصر أو الموظف. هذا مع العلم أن قواعد توزيع الغرامات المحصلة على موظفي المالية حددت بموجب قانون 173/200 (قانون الموازنة العامة 2000) في حين أن قواعد توزيع الغرامات المحصلة على موظفي الجمارك حددت بموجب قرار رقم 6/2020 من قبل المجلس الأعلى للجمارك. 

خلاصة

تتهرّب السلطات العامة من إجراء تصحيح ولو تدريجيّ لسلسلة رتب ورواتب موظفي القطاع العام، كما ولمتقاعديه، في موازاة سعيها إلى زيادة موارد الخزينة العامة. بالمقابل، وفيما ترافق الانهيار مع نشوء ممارسات مؤداها توسيع هامش الاستنسابية والمحسوبية والزبونية والتمييز داخل الإدارات العامة وفي مجمل خدمات الدولة، فإن جديد هذا المقترح هو استخدام الإدارات العامة لجني موارد قد تخصص حصرا لتعزيز هذه الممارسات… كل ذلك في اتجاه تقويض ما تبقى من المواطنة والوظيفة العامة و… الدولة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني