مشروع قانون العقوبات البديلة عن الاحتجاز: خطوة للأمام؟


2019-12-23    |   

مشروع قانون العقوبات البديلة عن الاحتجاز: خطوة للأمام؟

مع بداية عام الحالي (يناير 2019)، تقدم نائب البرلمان المصري ورئيس لجنة حقوق الانسان علاء عابد بمشروع قانون تحت مُسمى "قانون العقوبات البديلة" للحبس والتدابير البديلة للحبس الاحتياطي كمحاولة لطرح الأمر للنقاش أمام البرلمان[1]. جاء مشروع القانون يميز ويفرق بين العقوبة البديلة التي يجوز للمحكمة أن تقضي أو تأمر بها بدلاً من العقوبة الأصلية السالبة للحرية، والتدابير البديلة التي يجوز للنيابة العامة أو قاضي التحقيق أو القاضي المختص بتجديد الحبس بحسب الأحوال أن يأمر بتوقيعها بدلاً عن الحبس الاحتياطي، وفى الأحوال المبينة في القانون[2]. وتضمّن مشروع القانون بعض العقوبات البديلة عن الحبس مثل العمل في مشروعات قومية تخدم المجتمع من دون مقابل لمدة مساوية لمدة العقوبة، والالتزام بجبر الضرر والتعويض الناتج عن الجريمة، ويكون بإصلاح الضرر الناشيء عن الجريمة عن طريق إلزام المحكوم عليه برد الشيء إلى أصله أو جبره أو التعويض عنه. وأخيراً، الإقامة الجبرية بإلزام المحكوم عليه بعدم مغادرة محل إقامة محدد أو نطاق مكاني معين[3]. جاء مقترح القانون يسمح للسجناء الحاليين بتقديم طلب إلى محكمة جنح مستأنف باستبدال العقوبة الأصلية المحكوم عليهم بها بإحدى العقوبات البديلة المنصوص عليها في مشروع القانون[4]. بالإضافة إلى ذلك، ينص مشروع القانون على إنشاء "صندوق إعانة أصحاب العقوبات البديلة" برئاسة رئيس الوزراء، لدفع التعويضات نيابة عن غير القادرين من المحكوم عليهم. على أن تكون موارد الصندوق من التبرعات والهبات التي ترد إلى الصندوق، بالإضافة إلى نسبة من الضرائب التي تجمعها الدولة وتؤول إلى الصندوق. أثار المشروع المٌقدم جدلا واسعا بين الأوساط القانونية والبرلمانية والمهتمين بأوضاع حقوق الإنسان في مصر حول ماهية تلك النصوص القانونية والهدف منها، وما إذا كانت تقدم بديلاً عمليًا للعقوبات السالبة للحرية والمضي نحو فلسفة عقابية حديثة تتفق مع المعايير الدولية لتحقيق إصلاح منظومة العدالة الجنائية في مصر. ونحاول من خلال هذا المقال إلقاء الضوء على أهم مواد القانون ومناقشة مدى إمكانية تطوير نظام العقوبات الحالي في مصر من خلاله.

 

التوسع في استخدام العقوبات السالبة للحرية

في البداية، تجدر الإشارة إلى أن السنوات الأخيرة شهدت توسعا بشكل كبير في فرض واستخدام العقوبات السالبة للحرية كأداة في يد السلطة الحالية لقمع المعارضة وتحقيق قدر من الاستقرار السياسي. فعلى سبيل المثال، جاء قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 يتضمن عقوبات قاسية تصل إلى عقوبة الإعدام والسجن المؤبد[5]، وكذلك التعديلات التي تمت على قانون الإجراءات الجنائية بتمديد فترات الحبس الاحتياطي لفترات غير محددة، وغيرها من القوانين الأخرى[6]. وفى الحقيقة تعكس هذه القوانين بشكل كبير فلسفة الدولة العقابية. فمنذ وصول الرئيس الحالي إلى الحكم وهناك اتجاه عام نحو تغليظ العقوبات في كافة القوانين المُعدلة أو المُستحدثة. أدى ذلك التوسع إلي زيادة عدد السجناء في مصر إلى ما يقارب 115 ألف سجين، من بينهم على الأقل 65 ألف معتقل سياسي[7]. كما شرعت الدولة في بناء ما يقارب 22 سجنا جديدا[8]، بمساحات شاسعة كمحاولة للقضاء على مشكلة التكدس داخل أماكن الاحتجاز التي أدت قبل ذلك إلى وفاة بعض المحبوسين خاصة خلال فصول الصيف بسبب سوء التهوية[9]. هذا بالإضافة إلى التعسف في استخدام الحبس الاحتياطي ضد المتهمين لفترات تمتد إلى ثلاث سنوات وأكثر دون تقديمهم للمحاكمة أو إخلاء سبيلهم أو تطبيق أحد التدابير البديلة للحبس الاحتياطي.

 

الحرمان من الحرية كوسيلة للعقاب في النظام القانوني والقضائي المصري

أن السلطتين التشريعية والقضائية تتعاملان مع السجن باعتباره مكانا للإصلاح والتأهيل، حيث يقدم النظام القانون المصري السجن على أنه الوسيلة الأكثر فاعلية للقضاء على معدلات الجريمة، وتأهيل الجناة لإعادة إدماجهم في المجتمع، ومن الجدير ذكره أن هناك قبولا مجتمعيا لهذه العقيدة بسبب تراكم وفرط استخدام السلطة لفكرة عقوبة الاحتجاز مما جعل المواطنين ينظرون إلى السجن باعتباره الطريقة الوحيدة لحمايتهم من المجرمين. فنلاحظ أن الدستور المصري يشير إلى السجن باعتباره دارا للإصلاح والتأهيل[10]. كما نلاحظ أن الفلسفة العقابية القائمة على سلب الحرية لا تنطبق فقط على القضايا السياسية أو القضايا شديدة الخطورة مثل الإرهاب؛ بل هي متأصلة في النظام القضائي بدرجة كبيرة؛ حيث يميل القضاة إلى اللجوء إليها في عدد كبير من القضايا حتى في حال نص القانون على عقوبة بديلة؛ مثل قضايا تعاطي المخدرات التي ينص القانون فيها على إيداع المدمن أحد المصحات العلاجية كإجراء بديل لحبسه[11].

ينظم القانون المصري حالات بسيطة للعقوبات البديلة للاحتجاز، فعلى سبيل المثال جاء قانون الإجراءات الجنائية لينظم فكرة "التشغيل من الخارج في الحبس البسيط" في المادة 479 منه؛ حيث تنص على حق المحكوم عليه بالحبس البسيط لمدة لا تجاوز ستة أشهر أن يقدم طلبا إلى النيابة العامة[12] لتشغيله خارج السجن بدلاً من تنفيذ عقوبة الحبس. لم يشترط القانون استبدال العقوبة في جرائم محددة إنما جاء يعطي الحق لجميع المحكوم عليهم بالحبس البسيط باستبدال العقوبة ولكن بشرط ألا يتضمن الحكم الصادر من هيئة المحكمة حرمانه من خيار التشغيل من الخارج[13]، في حال الموافقة على الطلب، يقوم المحكوم عليه بالعمل في إحدى جهات الحكومة أو البلديات بلا مقابل مادي لفترة مساوية لمدة العقوبة[14].

على الجانب الآخر، نظم القانون بعض التدابير البديلة التي يمكن اللجوء إليها بطلب من الجناة، بعد الحكم عليهم بعقوبة سالبة للحرية والبدء في تنفيذها بالفعل. فعلى سبيل المثال؛ أجاز قانون الإجراءات الجنائية إمكانية تأجيل تنفيذ العقوبة في حالات الحمل أو حالة الأمراض الخطيرة التي تهدد حياة المتهمين، أو أمراض الاضطراب العقلي، كما نظم شروط تأجيل تنفيذ العقوبة على المتهم لحين الشفاء[15]. ونص قانون تنظيم السجون على حالات الإفراج المشروط[16]، بحيث يجوز الإفراج عن المتهم إذا قضى في السجن ثلاثة أرباع العقوبة وكان سلوكه يدعو إلى الثقة، ولكن بشرط ألا يمثل خطورة على الأمن القومي، وأن يكون قد سدد كافة التزاماته المالية المحكوم عليه بها. ويكون مرفقا بقرار الإفراج التعليمات التي يستلزم على المتهم إتباعها حتى نهاية المدة المقررة. أما في حالة مخالفة تلك الشروط يلغى الإفراج عنه ويعاد إلى السجن ليستوفي المدة الباقية من العقوبة المحكوم عليه به[17]  .

في الواقع، أن التطبيقات القانونية لحالات العقوبات البديلة تكاد تكون منعدمة من السوابق القضائية المصرية، خاصة في حالة مدمني المخدرات وتحويلهم إلى مراكز العلاج بدلاً من حبسهم. بالإضافة إلى أن الحبس الاحتياطي على سبيل المثال هو الإجراء الروتيني والأكثر شيوعًا عند اتهام مواطن بارتكاب جريمة، حيث تحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة بدلاً من كونه إجراء احترازي لضمان حسن سير القضية وعدم هروب المتهم[18]. من المؤكد أن السلطة القضائية في مصر لم تأخذ بالاتجاهات الفكرية الحديثة في مجال التدابير الغير احتجازيه- التي سنوضحها في الفقرة اللاحقة-، وما زالت تعمل وفق الاتجاهات الفكرية والبحثية القديمة في هذا المجال. فالعقوبة السالبة للحرية ما زالت هي المًفضلة لدى المحاكم المصرية والمُشرع المصري.

 

مشروع القانون: هل يساهم في تغيير الفلسفة العقابية؟

يأتي مقترح القانون الذي أشرنا إليه في ظل هذا المناخ. ونعتقد أنه يفتقر إلى العديد من الأمور التي قد تجعل منه خطوة في طريق طويل لإصلاح نظام العقوبات في مصر. فلم يتضمن المقترح أيا من المعايير الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة[19] لفكرة العقوبات الصديقة للحرية والتي تهدف بشكل مباشر إلى إشراك المجتمع بشكل إيجابي في إعادة تأهيل المتهمين ودمجهم مرة أخرى في بيئتهم من خلال إجراءات غير احتجازبة وعلى نحو يقلل من احتمال العودة إلى الجريمة. بل على العكس يتضمن المقترح بعض النصوص التي تتعارض كلياً مع فلسفة العقوبات البديلة ككل وقد تؤدي إلى نتائج عكسية في ظل منظومة العدالة الجنائية القائمة حالياً. فنجد أن القانون جاء على سبيل المثال يرسخ لمنهج العمل بالسخرة وبدون مقابل مادي في أحد مشروعات الدولة القومية باعتبارها عقوبة بديلة للسجن، بدلاً من السماح بتأدية خدمات للمجتمع بمقابل مادي يضمن توفير مصدر دخل للمتهم.

أيضا جاء مقترح القانون ينص على أن تكون مدة تنفيذ العقوبات البديلة المنصوص عليها في المقترح مساوية لمدة العقوبة الأصلية المنصوص عليها في قانون العقوبات المصري، أو أي قانون آخر يتضمن نصوصا عقابية. وهو ما يعني على سبيل المثال أنه إذا حُكم على متهم بالحبس لمدة ثلاث سنوات في جنحة ضرب أفضى إلى موت تطبيقاً لنص المادة 236 من قانون العقوبات المصري[20]، فهذا يعني أن في حالة تطبيق العقوبة البديلة المقترحة، فإن المتهم سوف يعمل من دون مقابل لمدة ثلاث سنوات في أحد مشروعات الدولة. هو الأمر الذي قد يتحول فيه القانون من خطوة نحو إصلاح نظام العقوبات والعدالة الجنائية في مصر إلى آلية لتوفير عمالة بدون أجر للعمل في مشروعات الدولة. فالتدخل الحالي من السلطة التنفيذية في أعمال السلطتين القضائية والتشريعية وعدم إعمال مبدأ الفصل بين السلطات قد يؤدي إلى توجيه السلطة القضائية نحو تطبيق المزيد من العقوبات البديلة لتشغيل المتهمين في مشروعات قومية، وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة التشريعية التي تعمل على سن القوانين والتشريعات التي تزيد من القيود على حياة المواطنين الاجتماعية والسياسية. من جانب آخر، لا يمكن تجاهل أن محاولة تطوير منظومة العقوبات في مصر وتبني نظام عدالة جنائية حديث يتطلب أكثر من مجرد قانون جديد ينظم فكرة العقوبات البديلة، حيث ينبغي التخلص تدريجياً من الإرث المجتمعي والتاريخي لمفهوم العقاب والفلسفة العقابية التي تقوم بشكل أساسي على العقوبات السالبة للحرية. من جانب آخر، أثرت ممارسات القمع والتدخل من جانب السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن في قرارات النيابة العامة وأعمال القضاة في إفراز قضاة ووكلاء نيابة ينظرون إلى العقوبة كإجراء ثأري من الجاني حتى في القضايا غير السياسية، وليس كتدبير لإعادة تأهيله. فالقضاة في الوقت الحالي يلجؤون إلى العقوبات السالبة للحرية لكونها أسهل في التطبيق، ولا يترتب عليها مسؤولية في حالة هرب المتهمين. نستخلص من ذلك أن العمل على إصلاح منظومة العقوبات المصرية يتطلب إعادة تأهيل القضاة ووكلاء النيابة، وتنقيح المنظومة القانونية من العقوبات الغليظة بدلاً من سن المزيد من القوانين التي قد تستخدم لممارسة المزيد من الانتهاكات.

 

 


[1] أحمد عثمان، بدء جلسات لجنة الجهات المعنية بمشروع قانون العقوبات البديلة " الغارمين والغارمات"، 4-07-2019، جريدة الوفد

[2] صفاء عصام الدين "الشروق" تنشر مشروع قانون العقوبات والتدابير البديلة لسلب الحرية والحبس الاحتياطي، موقع جريدة الشروق، 14/01/2019.  

[3] انظر المرجع السابق، صفاء عصام الدين، جريدة الشروق.

[4]انظر المرجع السابق، صفاء عصام الدين، جريدة الشروق.

[5] راجع نصوص قانون مكافحة الإرهاب من المادة 12 إلى المادة 32 الفصل الثاني/العقوبات، القانون متاح على موقع منشورات قانونية https://manshurat.org/node/14679

[7] أحمد عابدين، مرضي الجرب في سجون مصر.. زنازين مكدسة تلهب جلود المعتقلين العربي الجديد، 23-04-2017

[8] حمدي قاسم، أزهى عصور بناء السجون، 19-02-2016، موقع المصري اليوم & السيسي يبني السجن رقم 22.. ماذا عن المدارس والمستشفيات؟، 5-02-2019، موقع أخبار الجزيرة.

[9] حالات اختناق وإغماء في السجون المصرية بسبب موجات الحر ورداءه التهوية، المنظمة العربية لحقوق الأنسان في بريطانيا، 29/06/2016.

[10] مادة 56 من الدستور.

[11] حسب المادة 37 من قانون مكافحة المخدرات رقم 182 لسنة 1960، ونصت على شروط لتطبيق ذلك هي:  أ) ألا تزيد المدة على ثلاث سنوات أو مدة العقوبة المحكوم بها. ب) حال تبين عدم جدوى العلاج، وارتكاب المتهم أيا من الجرائم المنصوص عليها بالقانون مرة أخري، يرفع وقف تنفيذ العقوبة ويقدم المتهم للسجن لاستكمال مدة الباقية.

[12] راجع المادة 520 من قانون الإجراءات الجنائية.

[13] راجع نص المادة 479 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950

[14] راجع المادة 521 من قانون الإجراءات الجنائية

[15] راجع نصوص المواد من 485 إلى 490 من قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950

[16] راجع المواد 52 إلى 64 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956.

[17] راجع نصوص المواد من 52 إلى 64 من قانون تنظيم السجون المصرية رقم

[18] راجع على سبيل المثال: حسن مسعد، "الحبس الاحتياطي كعقوبة في مقترح تعديل قانون الإجراءات الجنائية المصري"، المفكرة القانونية، 5-4-2018.

[19] قواعد طوكيو النموذجية للتدابير الغير احتجازيه التي أقرتها الأمم المتحدة في 14-12-1990 بموجب قرار الجمعية العامة رقم 45/110

[20] راجع نص المادة 236 من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني