الاستشارة الوطنية: المخادعة التي لم تنطلِ إلاّ على صاحبها


2022-04-04    |   

الاستشارة الوطنية: المخادعة التي لم تنطلِ إلاّ على صاحبها

في ساعة متأخّرة من ليلة الأول من أفريل، أسدل قيس سعيّد الستار على آخر مراحل مسرحيّة الاستشارة الوطنية، بإعلان نتائجها للعموم. وبعد أن دامت الاستشارة 65 يوما، انتهت يوم 20 مارس، واستنفرت خلالها مختلف أجهزة الدولة مجهوداتها لإنجاحها، لم يتجاوز عدد المشاركين 535 ألف شخص، أي بالكاد 6% من الجسم الانتخابي. رقم كان كافيا للرئيس كي يعلن نجاحها، مع اتهام معارضيه بالتآمر من أجل منع الشعب من التعبير عن إرادته، والاعتماد على “نتائجها” لإعادة هندسة قواعد اللعبة الديمقراطيّة وفق رغباته. فلا “حوار” إلا “بناء على مخرجات الاستشارة”. وكما كان متوقعا، جاءتْ الإجابات كما أريد لها أن تكون منذ صياغة الأسئلة: شرعنة لمشروع الرئيس، “البناء القاعدي”.

البناء القاعدي، قلبا وقالبا

جاء عرض نتائج الاستشارة، في اجتماع ثلاثي جمع الرئيس مع وزير تكنولوجيات الاتصال ورئيسة الحكومة، بعد يوم من حلّ البرلمان والشروع في ملاحقة النواب المشاركين في جلسة عامّة افتراضية أمام فرق مكافحة الإرهاب. قصَد الرئيس بذلك، كما يظهر من خلال الدقائق العشر الأولى للاجتماع، الردّ على المطالب التي عبّرت عنها بعض القوى السياسيّة بإجراء انتخابات سابقة لأوانها في الآجال الدستورية، أي بين 45 و90 يوما بعد حلّ البرلمان. فأجاب بأنّه ماضٍ في مشروعه وفي خارطة الطريق التي رسمها، وهي تغيير النظام السياسي والانتخابي أوّلا عبر استفتاء في 25 جويلية، وترحيل الانتخابات التشريعيّة (إن حصلت) إلى 17 ديسمبر.

اختيار تاريخ 17 ديسمبر للانتخابات التشريعيّة لا يعبّر فقط عن هوس الرئيس بالتواريخ الرمزيّة، وإنّما أيضا عن نظرته للثورة، التي يختزلها في لحظة انطلاقها من الجهات الداخليّة في 17 ديسمبر، في حين يرمز تاريخ 14 جانفي إلى “سرقتها” و”الانحراف بها” من طرف نُخَبِ المركز. هي نفس النظرة التي ينبني عليها، في الظاهر، مشروع البناء القاعدي الذي يحمله سعيّد وأنصاره، والذي تشكّل منذ السنوات الأولى بعد الثورة، كنقيض لخيارات الانتقال الديمقراطي. 

في الظاهر، يقوم البناء القاعدي على انتخابات على الأفراد في أصغر دوائر إداريّة، وهي العمادات، ليشكّل المنتخبون مجالس محلّية في كل معتمديّة (المستوى الترابي الأكبر من العمادة) يصعد منها ممثل عن طريق القرعة إلى البرلمان الوطني. لذلك لا حاجة لبرامج أو وسائط وطنية، وإنما يكفي أن تصعد المقترحات تلقائيا من المستوى المحلي ليقع “تأليفها” وطنيا. كما يخضع المنتخبون إلى آلية سحب الوكالة، التي تتيح للناخبين أن يبادروا بعزل ممثليهم خلال المدّة النيابيّة، لكن من دون توضيح شروطها وإجراءاتها. أمّا السلطة التنفيذيّة، فهي بين يديْ رئيس جمهورية منتخب مباشرة. يؤدي ذلك إلى اختلال تامّ للتوازن بين السلط، إذ يُنتج برلمانا ضعيفا، يتركّب في نسبة كبيرة من بارونات محلّيين، خاضعين لسيف دموقليس الذي يمثّله سحب الوكالة، مع مركزة كلّ السلطة في قصر قرطاج.

وكما كان منتظرا منها، جاءت نتائج الاستشارة الوطنية لتقود مباشرة إلى الأضلع الثلاثة للبناء القاعدي، وهي الاقتراع على الأفراد (71%)، والنظام الرئاسي (86%)، وسحْب الوكالة من النواب (92%). طريقة طرح الأسئلة لم تكن لتؤدّي سوى إلى هذه الإجابات: 

على سبيل المثال، اقتصرت الخيارات في السؤال حول نظام الاقتراع، على إجابتين فقط ممكنتين، وهما الاقتراع على الأفراد أو “نظام الاقتراع على القائمات”. بذلك يكون البديل الوحيد على نظام الاقتراع الحالي هو الاقتراع على الأفراد. وفي حين اعتبر سعيّد، في تعليقه على نتائج هذا السؤال بالذات، أنّ التونسيين قادرون على التمييز بين النسبية مع أفضل البقايا والنسبية مع أفضل المتوسطات، رغم أنّها مسألة تقنيّة، وعلى مناقشة إيجابيات وسلبيات كلّ منهما، فإنّه لم يرَ فائدة في وضع هذه الأنظمة كخيارات في سؤال الاستشارة. فالهدف لم يكن استطلاع آراء التونسيين أو تشريكهم، وإنما الحصول على فتوى في اتجاه مشروع جاهز. 

كذلك الأمر في سحب الوكالة، إذ لم يرَ الرئيس موجبا لسؤال التونسيين إن كانوا يريدون سحب الوكالة من جميع المنتخبين، ولا لسؤالهم مباشرة إن كانوا يريدون أيضا إمكانية سحب الوكالة من رئيس الجمهورية، فأتى السؤال مقتصرا على سحب الوكالة من النواب، محتملا إجابة بنعم أو لا. 

أمّا اختيار النظام الرئاسي، فهي نتيجة طبيعية لموجة معاداة البرلمانيّة، وهو لن يكون، في الواقع، إلا رئاسوياً، طالما غابتْ شروط التّوازن السياسي كما في النظام الأمريكي، وليس أقلّها ثنائية حزبية قويّة ومستقرّة. هكذا، يتشكّل النظام القاعدي عبر أضلعه الثلاثة، النظام الرئاسي والاقتراع على الأفراد وسحب الوكالة، التي تكفي، بغضّ النظر عن بقيّة التفاصيل، لإنتاج أخطر ما فيه، وهو انخرام التوازن بين السلط والمركزية المفرطة المتخفّية بشعار “القاعديّة”. 

وكي تكتمل شروط الفتوى، طلب من المشاركين الإجابة عن سؤال أهمّ الإصلاحات التي يجب القيام بها لتطوير الحياة السياسية، عبر انتقاء ثلاثة خيارات على حدّ أقصى، من بين قائمة جاهزة.  فجاء تعديل القانون الانتخابي أولا (61%)، ثمّ تعديل قانون الأحزاب (44%)، وتعديل الدستور (38%) ووضع دستور جديد (36%)، وأخيرا تعديل قانون الجمعيات (26%). وضع خيارين مختلفين بخصوص الدستور كان يهدف إلى دفع المشاركين إلى اختيار أحدهما، أي افتراض أنّ المشكل في الدستور والتساؤل إن كان الحلّ في تعديله أو تغييره برمّته. لكنّ وزير تكنولوجيا الاتصالات حرص عند قراءة النسبتين، على جمعهما مع بعضهما، لكي يظهر أنّ التونسيين يريدون إصلاحا دستوريّا، وكي يخفي أنّ المطالبين بدستور جديد، حتّى داخل جسم المشاركين في الاستشارة الذي لا يمكن اختزال إرادة الشعب فيه، أقلّية.

لم يقتصر التمهيد للبناء القاعدي على أسئلة المحور السياسي والانتخابي، وإنّما شمل كذلك المحور الاقتصادي. إذ وُجّه أول أسئلته نحو التصور “المحلّي” للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. هكذا، وافق 75% من المشاركين على أنّ الحلّ للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية “يمكن أن يكون محلّيا”، وهو ما يبرّر، حسب الرئيس، مشروع الشركات الأهلية الذي أصدر مرسومه في 20 مارس. فهل كانت الإجابة ستكون مماثلة، لو كان السؤال حول المستوى الترابي الذي تكون فيه الحلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية أنجع، مع خيارات تذهب من الوطني إلى المحلي مرورا بالجهوي؟  وبما أنّ الإجابة كانت مفترضة منذ صياغة السؤال، جاءت بقيّة الأسئلة في المحور الاقتصادي وحتى المحاور الأخرى، في أغلبها، ذات بعد محلّي/جهوي. هنا أيضا، لم يردْ الرئيس سوى إسباغ مشروعه الجاهز رداءً شعبيا ديمقراطيا، لكنّ الشعب خذله.

نتائج الاستشارة تقود مباشرة إلى الأضلع الثلاثة للبناء القاعدي

الشعب لا يريد ما يريده الرئيس

منذ إعلان خارطة الطريق في ديسمبر الماضي، لم يفوّت سعيّد فرصةً للترويج للاستشارة والتسويق لها كفرصة غير مسبوقة لكي يعبّر الشعب عن إرادته. بُذلت كلّ المجهودات في سبيل إنجاحها، واستُنفرت أجهزة الدولة، سواء الوزارات، وعلى الأخصّ وزارتي الشباب والرياضة وتكنولوجيات الاتصال، أو الولايات والمعتمديّات، أو وسائل الإعلام العموميّة. أمّا السؤال عن الموارد المخصّصة لها، فلم يجد أي إجابة، إذ لم تبرمج الاستشارة ضمن ميزانيات هذه الهياكل العموميّة لسنة 2022.

منذ الأيام الأولى لإطلاقها، ظهر عزوف التونسيين والتونسيات عن المشاركة في الاستشارة. لكنّ الرئيس اختبأ كعادته وراء نظريّة المؤامرة. وبدل أن يراجع خياره، شدّد الضغط على أجهزة الدولة لمضاعفة المجهود لحثّ الناس على المشاركة، وصولا إلى تغيير شروط المشاركة نفسها. فوقع النزول بالسنّ الدنيا للمشاركة من 18 إلى 16 سنة، اعتقادا بأنّ هذه الفئة العمرية من الأكثر نفاذاً إلى شبكة الإنترنت. إلاّ أنّ الأرقام النهائية أثبتت مشاركة 6400 تلميذ فقط. للمفارقة، تزامن ذلك مع تسريب نسخة من مشروع تنقيح مرسوم الجمعيات، الذي يقترح الترفيع من السنّ المشترطة لتأسيس جمعيّة، من 16 إلى 18 سنة. أي أنّ تشجيع اليافعين على المشاركة في الاستشارة لم يأتِ عن قناعة في أهمية تشْريكهم في قضايا الشأن العامّ، وإنما فقط عن رغبة في استعمالهم لغاية إنجاح المشاريع الرئاسيّة.

وبعد أن كان النفاذ إلى الاستشارة مشروطا بأن يكون رقم الهاتف الجوال مسجّلا باسم صاحبه، لضمان الطابع الشخصي للمشاركة، وقع التخلي عن هذا الشرط في بداية شهر فيفري. فأصبحت المشاركة ممكنة من أي هاتف جوال، بمجرد الإدلاء برقم بطاقة التعريف الوطنية وتاريخ الميلاد، وهي معطيات متاحة بشكل واسع في ظلّ ضعف احترام المعطيات الشخصيّة في تونس. حتّى أنّ عدداً كبيراً من المؤسسات الجامعيّة تنشر هذه المعطيات للعموم على وسائل التواصل الاجتماعي عند الإعلان عن نتائج الطلبة. أي أنه لا شيء يضمن أنّ عدد المشاركين في الاستشارة، على ضعفه، حقيقي، وأنه لم تقع المشاركة باسم أشخاص آخرين من دون رغبتهم. إذ لم توضع أي طريقة لتمكين الناس من التثبت من استعمال أرقام بطاقة التعريف الوطنية الخاصّة بهم، كما حصل في سنتي 2014 و2019 في الانتخابات الرئاسيّة، بخصوص تزكية المرشحين.

بالتوازي مع ذلك، تلقى معظم التونسيين والتونسيات على هواتفهم رسائل، أحيانا بشكل أسبوعي، تحثّهم على المشاركة. كما لم تتوقف الومضات الإشهارية على وسائل الإعلام العمومي. بل خصّصت التلفزة الوطنية برنامجا خاصّا بالاستشارة، يحضر فيه أعضاء “الحملة التفسيريّة” لرئيس الجمهوريّة، بصفتهم شباب محايدين أو خبراء. بل وصل توظيف الإعلام العمومي إلى غاية تخصيص حلقة من برنامج ديني لموضوع “مشاركة الشباب في الحياة العامّة”، لحثّ المشاهدين على المشاركة في الاستشارة، باستعمال حجج دينية. حتى أنّ الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهايكا) وجّهت لفت نظر للتلفزة الوطنية كي لا يتكرّر “توظيف الدين لأغراض سياسيّة”. 

على الرّغم من كلّ هذه المجهودات، ومن استعمال سعيّد أكثر من مرّة منبر الرئاسة للترويج للاستشارة، لم يتجاوز العدد النهائي 535 ألفا. هذا العدد، وبغضّ النظر عن الشكوك في مصداقيّته، لا يعادل سوى 18% من عدد المشاركين في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة في 2019، و12% من عدد المشاركين في الانتخابات التأسيسية في 2011، و6% من الجسم الانتخابي. بل هو أقلّ من عدد ناخبي سعيّد في الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسيّة في 2019. ربّما يكون من التعسّف استنتاج ضعف شعبيّة سعيّد من أرقام المشاركة في الاستشارة، لكنّ هذه الأخيرة تعني على الأقلّ أن مشروع البناء القاعدي ليس نابعاً من إرادة شعبيّة، وإنما من إرادة الرئيس وحملته التفسيريّة. فعلى الرّغم من محاولة “تعويم السمكة”، عبر وضع محاور الشأن الاقتصادي والاجتماعي والتنمية المستدامة وجودة الحياة والشّأن التعليمي والثقافي، كان واضحاً للجميع أنّ رهان الاستشارة هو في محورها الأوّل، السياسي والانتخابي. ضعف المشاركة في الاستشارة هو دليل على أنّ “الشعب” لا يريد تأسيساً جديداً، وإنّما حلولاً عاجلة للأزمة الاقتصادية والاجتماعيّة. فإذا كانت أبرز عوامل هشاشة الانتقال الديمقراطي تكمن في عجزه عن مقارعة التحدّيات المتصلة بعيش الناس، وطغيان النقاش الدستوري والقانوني عليه، فإنّ سعيّد وبناءه القاعدي ليسا سوى كاريكاتور لهذا العجز. الفرق، هو أنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي لا يتحمّل مزيدا من الانتظار، وسعيّد، في المقابل، غيرَ واعٍ لا بخطورة الوضع ولا بعجزه عن مقارعته، يمضي في “فانتازماته” الشخصية لكتابة حقبة جديدة في التاريخ، هادما في طريقه منجزات الثورة الواحد تلو الآخر، باسم الانتصار لها.

حملت أسئلة المحاور الاقتصادية والاجتماعية طابعا محلّيا، تماشيا مع فلسفة البناء القاعدي

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، البرلمان ، سلطات إدارية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني