“مشروعي الاقتصادي والاجتماعي هو كيفية تمكين الشعب من الأدوات. لا أريد ان أكون صاحب التصوّر. أريد أن تنبع التصوّرات من الشعب. هذا هو الفرق بيني وبين الآخرين. لن أبيع الأوهام”. هكذا أجاب الرئيس قيس سعيد على سؤال متعلق بطبيعة مشروعه الاقتصادي والاجتماعي قبل أشهر قليلة من صعوده إلى سدّة الحكم في أكتوبر 2019. أصبحت فكرة تسليم المبادرة والاقتراح للشعب مكوّنا رئيسيّا في الخطاب الرئاسي. ولكن على المستوى العملي يتّجه الرئيس نحو فرض تصوّر أحاديّ للسياسة والمجتمع، مسنودا في ذلك بـ”دستة الأذكياء” التي فهمت كُنه “التأسيس الجديد”. أمّا الاقتصاد فقد تم تسليمه إلى طبقة التقنيين، التي تلوح مشدودة إلى المنوال النيوليبرالي، وهو ما جسدّه برنامج الإصلاحات المقترحة من حكومة نجلاء بودن على المؤسسات الدولية المانحة.
يتحرّك التصوّر الجديد من داخل سرديّة “العودة إلى القاعدة”. هذه القاعدة المُمثَّلة جغرافيّا بسكان المحليّات (القرى والمعتمديات) تُشكل –نظريا-عماد النظام السياسي المُبشّر به. وهي منطلق التخاصم والاشتباك مع “المركز”، بما يُمثّله هذا المركز من تعبير مكثّف عن ظواهر وأشياء متعددة: الثروة والنخب والمؤسسات والأفكار والأحزاب والجمعيات وحتى التواريخ (14 جانفي) والأماكن (شارع بورقيبة وسط العاصمة). كل ما يقع خارج منطق التصوّر القاعدي للرئيس هو بالضرورة مركزيّ أو مُمركَز.
يبقى السؤال المُربك الذي لا يجيب عنه بدقّة قيس سعيد وأنصاره -أو تكون صيغة الإجابة عنه موغلة في الغموض-هو كيف ستعبّر هذه القاعدة سياسيّا واجتماعيّا عن ذاتها في المستقبل؟ ويُحيل هذا السؤال بدوره على أسئلة متعلّقة بتمثلاّت الرئيس للروابط الاجتماعية المحليّة ورؤيته لظاهرة التنظّم السياسي والمدني. إضافة إلى نظرته للدولة كأداة لتنظيم المجتمع وكانعكاس لعلاقاته الاجتماعيّة في الوقت نفسه.
نهاية الحزبية.. ولادة الفراغ
“انتهى عهد الأحزاب. الشعب صار يتنظّم بطريقة جديدة انظروا ماذا يحدث في فرنسا بالسترات الصفراء وفي الجزائر والسودان…الأحزاب مآلها الاندثار. مرحلة وانتهتْ في التاريخ”.
هكذا قرّر الرئيس سعيد نهاية الأحزاب بوصفها حتميّة تاريخية. وبغضّ النظر عن عدم تعبير النماذج التي استشهد بها الرئيس عن وجود حالة موت حقيقية للأحزاب (خاصة فرنسا) والخلط الكبير بين الحملات والظاهرة الحزبية، فإنه يبدو أيضا أن الرئيس سعيد لم يكن يعطي اهتماما كبيرا للسياق المحلي.
طيلة أكثر من نصف قرن ظل الاجتماع السياسي التونسي (1956-2011) محكوما بوحدانية الحزب-الدولة. وحتى الفترات المعروفة بـ”الانفتاح السياسي” التي شهدتها بعض المراحل الانتقالية على غرار سنتي 1980 و1987 كانت مؤقتة وجاءت لتلطيف الأزمات من أجل إعادة إنتاج منظومة الحزب الواحد. من الناحية السياسية، كانت التعدديّة الحزبية التي دشّنتها ثورة 2011 نقيضا موضوعيا لظاهرة الاحتكار السياسي التي مارسها حزب الدستور بنسخه التاريخية المتعدّدة. بمعنى آخر تناسبت التعدّدية الحزبية مع واقع تونسي سيّجته ثقافة المصادرة والمنع، ونشأت ضمن سياق ثوري سمح بازدهارها وتضخّمها.
رغم التعددية الحزبية التي تعتبر مكسبا ديمقراطيا -قد يؤذن التراجع عنها بخراب سياسي- فإن الظاهرة الحزبية التونسية لم تنشأ بمعزل عن إرثها السياسي التقليدي. ولعلّها تأثرت بأسوأ ما فيه (سلطوية، هيمنة على القيادة، انعدام الديمقراطية الداخلية، انشقاقات مستمرة، زيونية…) ولم تتشكّل الظاهرة الحزبية بمعزل عن المجتمع. بل كانت في بعض الأحيان صدى للكثير من ميكانيزماته العلائقية (العائلة، العروشية، المناطقية…). وقد استثمرت الأحزاب هذه الروابط المحلية في المحطات الانتخابية. بمعنى ما تشكلت الظاهرة الحزبية في تفاعلها مع الاجتماعي (سواء في المركز أو الهوامش) ولم تكن بمعزل عنه.
ربّما يجري الاتفاق بأن الأحزاب لم تنجح نسبيّا في القطع مع الإرث السياسي والثقافي القديم، ولكن الظاهرة الحزبية حرّرت الفضاء العام من الوحدانية وأدخلت دينامية جديدة على حياة سياسية جابهت الموت طيلة أكثر من نصف قرن. ويلوح المأزق الكبير في أن الأحزاب -خاصة المهيمنة- لم تتحوّل إلى إطار سياسي يمثل المصالح الاجتماعية المتناقضة داخل المجتمع، وإنما سعتْ إلى لعب دور الوسيط بين مراكز النفوذ الاجتماعي وبين الدولة، مدفوعة بأفق سياسي “هاجِسي” وهو الحفاظ على السلطة.
ضعف التمثيلية الاجتماعية للأحزاب لا يعني بالضرورة عدم صلاحيتها التاريخية، ولا يعني أيضا وجود ثقافة سياسية محليّة بصدد التطوّر التاريخي بمعزل عن الظاهرة الحزبية المحلية. وربما تكمن العطالة التاريخية للظاهرة الحزبية في عدم قدرتها على إعادة هيكلة الثقافة السياسية المحلية وتحريرها من الرواسب الانتمائية القديمة التي تتكثّف بالأساس في ظاهرة “الولاء”. فعندما تُلغَى الأحزاب من المشهدية السياسية بفعل المنع وليس بمنطق الحتمية التاريخية كما يبشّر بذلك الرئيس، ستظلّ تلك الثقافة المحليّة بما تحمله من رواسب تقليدية مصدرا وحيدا لإنتاج المعاني والروابط. وستكون طيعة أمام مشاريع هيمنة وسيطرة اجتماعية من نوع آخر، ولكن هذه المرة باسم القاعدية و”التدبير الذّاتي”.
روابط أهليّة من أجل مصلحة مركزية عليا
لا تتساوق المعاداة المطلقة للظاهرة الحزبية في فكر الرئيس سعيّد مع برنامج جديد للتنظّم السياسي والمدني. وإنما تستعرض نفسها بوصفها جوهرا وروحا مُعبرة عن “ضمير الشعب”. وحتى الحديث عن تجارب التنظّم العالمية الجديدة لا يعكس وعيا تاريخيا ومعرفيّا بتلك التجارب، علاوة على انعدام أفكار تربط بينها وبين السياق التونسي. والحملة الانتخابية “التفسيريّة” لم يعتبرْها الرئيس مدخلا لمشروع تنظيميّ جديد، وإنما ظلّ يتعامل معها بمنطق أخلاقي تُجسّده قيم “التضحية” و”التطوّع” و”الصدق”.
بالتوازي مع ذلك، يتضمن مصطلح “الأهلي” الذي أطلقه الرئيس على الشركات التعاونية (شركات أهلية) احتجاجا ضمنيا على مفهوم “المدني” بما يعنيه من روابط ووسائط سياسية وجمعياتية مُتجاوزة للروابط المحلية الأوليّة. ورغم أن الأهلانية غير مُعبّر عنها بشكل نسقي واضح في خطاب الرئيس، إلا أنه من اليسير إدماجها ضمن خطاب سياسي-سلطوي يسعى إلى تحطيم الفضاء السياسي برمته باسم “البناء القاعدي”. وتبدو الروابط الأهلية بما تحمله من قرابة جغرافية وعائلية أكثر اتصالا بمشروع البناء القاعدي من تلك الروابط المدنية والسياسية.
أبانت الاستشارة الوطنية التي أطلقها الرئيس منذ 15 جانفي الفارط عن ماهية القاعدة المحلية ودورها في المشروع المستقبلي للرئيس. هي بالأساس “كتلة من المطالب” وليست “كتلة مواطنين”. وتنخرط في الشأن العام بوجهها المطلبي المحلي الخصوصي، وليس بوصفها تعبيرا عن ذوات حرّة مستعدّة للانخراط في الشأن العام من خلال المشاركة السياسية بجميع مظاهرها المختلفة (التنظّم، الانتخاب، التداول، الإضراب…). وبعد عودة القاعدة إلى نقائها “الأهلي” وتجريدها من روابطها المدنية والسياسية، يُختزل دورها السياسي في إعطاء المركز -ممثلا في سلطة الرئيس-شرعية “التأليف” بين جميع المطالب القاعدية وترجمتها في شكل مشاريع سياسية واقتصادية. القاعدة ومُخرجاتها المطلبيّة في حالة انشداد دائم إلى المركز الواحد-الحاكم، الذي يشرف ويوجّه ويحتكر صلاحية الحديث باسمها. ولعل هذا مكمن التناقض الكبير الذي يُهيكل مشروع الرئيس سعيد: مشروع بناء قاعدي في خدمة نظام سياسي هَرمي (النظام الرئاسي).
أي دور للدولة؟
إلى حدّ الآن لا يُرجَع التهميش المحلّي في خطاب الرئيس إلى الدور التاريخي الذي أدّته دولة الاستقلال في إنتاج هوامشها ومقصيّيها. وإنما يُنظر إلى التهميش في معظم الأحيان من خلال معجمية “الفساد” و”الجوع” و”الفقر”. والدولة في نظريّة الرئيس لا تعدو أن تكون مجموعة المرافق العامة، من دون النظر إلى مضامينها الاجتماعية والاقتصادية، ودون الالتفات إلى دورها الثقافي-الأيديولوجي الهيمني الذي يوفّر أساس التسليم الاجتماعي بها ويضفي على وجودها شرعية ما. في زمن الستينات، ابتدعتْ البورقيبية سرديّتيْن من أجل الإقناع بوجودها وشرعيّتها: “الوحدة القومية” و”جهاد التنمية”. الأولى ذات حافز هويّاتي جمعي والثانية ذات حافز اقتصادي-اجتماعي. وقد حاول الرئيس بن علي سنة 1987 الدفع بسردية “التحوّل المبارك” للإيهام بوجود حقبة جديدة في التاريخ تقطع مع الإرث البورقيبي. ولكنّه في نهاية المطاف اضطرّ إلى فرض سرديّته قسرا على المجتمع، عبر وسائل الدعاية والقمع.
سردية “العودة إلى القاعدة”، لا تبدو إلى حد الآن أنها تمتلك مشروع دولة. وبشكل أولي يمكن القول أنّها لا تمتلك رؤية نقدية للدولة القائمة. لأن التهميش المحلي لم يكن نتاج “العشرية السوداء” مثلما يروق لأنصار الرئيس تسميتها، وإنما ظاهرة هيكلية ارتبطت بالتكوين التاريخي لدولة الاستقلال، التي رتّبت مراكز القوى والنفوذ داخلها وفقا لمصالح الحكم. وقد أفلحت في ربط المجتمع المحلي بالدولة المركزية عبر منظومتين مختلفتين؛ المنظومة التعليمية والمنظومة الأمنية. وباستثناء الخدمات الصحية والتعليمية القليلة التي وفّرتها دولة الاستقلال لم تُراكم منوالا تنمويا يقلّص من حدة التفاوتات الجهوية والاجتماعية.وتاليا، هناك استقالة سلبية للدولة على المستوى التنموي المحلي، مقابل حضور إيجابي على مستوى العقاب والرقابة الأمنية. وهكذا يمكن القول أنّ الرئيس سعيد استلم الدولة في مرحلة تاريخية تميّزت فيها هذه الدولة بخاصيّتين أساسيّتين: انهيار منظوماتها الاجتماعية الأساسية (الصحة، التعليم، النقل…) مقابل الاحتفاظ بقوة منظومتها الأمنية القمعية. ويلوح أن الرئيس يُدرك إلى حدّ الآن قوّة الوجه العقابي للدولة، لذلك يراهن على فعاليته في المستقبل، تحت شعار “الحفاظ على استمرارية الدولة”.