“مانيفستو” اليسار التونسي


2023-05-15    |   

“مانيفستو” اليسار التونسي

نحن اليوم تجاوَزنَا قرنا كاملا من وجود “اليسار” في بلدٍ سَلّمَ بسخاءٍ مقاليده لليمين، وأعطَى لليسار مكانًا ملحميّا يليق بانتصاراته الصغيرة وخسَارَاته. ما الذي كان اليسار بصدد فعله طيلة قرن من الزمان؟ هل تطلّبَ البحث عن الذات كل تلك المدة؟ لماذا لا نكاد نعثر اليوم على بقايا هويّة متماسكة لليَسَار، رغم أنه انزرَع -مثل زيتونة بريّة- في ذاكرة هذه الأرض، وليس بمقدور إنسان إخراجه منها؟ 

يكاد يتّفق جلّ الباحثين اليوم في أوضاع اليسار، على أنّه ليسَ مُدرجًا على جدول الأعمال الوطني، لأنه فَقدَ بالتدريج وزنه السياسي والانتخابي منذ عام 2019. ولكن هذا الحكم -على صحته النسبية- قد يتطوّر نحو عدميّة سياسية متطابقة مع الإيديولوجيا المُبشّرة بـ”نهاية اليسار”. لذلك يبدو السؤال الناظم لهذا العمل الجماعي: كيف نُعيد البحث عن اليَسار وسط رُكامٍ من الجماعات والأحداث والأفكار والشّخوص ومشاهد الحنين إلى الوراء؟ كيف نُعيد قراءة هذا الكيان الذي التبسَ فيه الواقعي بالهُلاَمي، دون التورّط في خُدعَتي التبجيل والتقزيم، لأنهما يُنتجان دائما وعيًا انفعاليا بالظواهر والأشياء؟

تتّسِعُ معاني اليسار أمامك كلّمَا حاولت الإمساك بها، لأنّ مياهًا كثيرة جرت في النّهر كما يُقال. فقد عَاشَ اليسار صراعات داخلية طويلة حول إنتاج معنى واحد لليَسار، ولم تُفلح أكثر الجماعات “راديكالية” في فرض معنَاها على الآخرين رغم التماسك الأرثوذكسي الذي تبدُو عليه لُغتها وسلوكها، إذ لم تَسْلَم هي نفسها من المنشقّين عنها باسم أرثوذكسية أكثر نقاءً. وفي بعض الأحيان، ركَنت الجَماعات اليسارية الصغيرة إلى تسويات مؤقّتة واعترافات مُتبادلة، سَارت بمحاذاة لائحة عريضة من الشتائم والاتهامات. رغم الاتّساع الدّلالي الذي تُوفّره قيمَتا الحرية والعدالة لمعنى اليسار، فإنّ صدور “الرّفاق” عموما كانت ضيّقة، ولم يُنجِهم حُلمهم الصادق في الوقوف حُفاةً أمام آلة الهيمنة من التّحول إلى “فرق دُعاة” من طراز عصري. لقد دَفعَت مساحَات القمع النظامي الطويلة وهشاشة الجدل الفكري الداخلي وسنوات العيش تحت الأرض نحو مسار الانغلاق الذي دام لعقود، والذي لا يقلّ عمره كثيرًا عن عقود القمع والاحتكار التي راكمتها منظومة الدولة الاستقلالية، على امتداد نصف قرن تقريبًا.    

شكّلت ثورة 2011 استفاقة الفجر الجديدة على أوجاع القمع والتآكل الداخلي وضعف الخيال، لأن خيال الحراك الثوري كان في الحقيقة أوسع من خيال “الرفاق”. عبّرَت شعارات الثورة “الشغل، الحرية، الكرامة” بشكل أو بآخر عن معاني اليسار الواسعة، ولكن الجماعات الصغيرة الخارجة من معارك الجامعة والنقابات وحصارات البوليس اليومية، ستجدُ نفسها أمام فضاء عام انسيابي وحاضن لها، ولكنه لا يتكلم لغتها القديمة ولا يُقيم وزنا لحساباتها الصغيرة. داخل هذا المنعرج الثوري -الذي لا يجُود به التاريخ دائما- لم يبحث اليسار بجدية عن توازن جديد، ولم يفكّر في الوقوف في قلب طَرفَي هذا التوازن الممكن: إعادة قراءة الذات من ناحية، والتأمل في الواقع بعقل وخيال جديدين من ناحية أخرى. لقد وقفَت الجماعات اليسارية الصغيرة في أمكنة أخرى، تشابَكَ فيها إرث الماضي بسياقات الحاضر على نحوٍ مأساوي. وستسحَبُها الأحداث شيئا فشيئا نحو معارك البلاد الجديدة، التي كانت في الحقيقة أكبر من حجم اليسار ومن قُدرَته على وضع مضامينها وأشكالها. وهنا نَعني بالأساس معركة الهوية، التي خرجَ منها اليسار بذاكرة أخرى مجروحة وبخسارات غادرة لا تُعوّض وبوحدة داخلية هشّة ستَعصف بها أول ريح عاتية. وحتى النجاح الانتخابي النسبي لسنة 2014 بالإمكان وضعه ضمن لائحة الخسارات، لأنه سيفتح عيوننا على حقيقة أن الإرث القديم ما زال مقيما في الوعي والممارسة.  

بالإمكان دائما في لحظات الهشاشة تقمّص لغة “الضحية المقهورة” الباحثة عن الثأر لنفسها وذاكِرَتها وشهدائها، من أعدائها غير الرّحيمين. ولكن هذا المنطق في حدّ ذاته أدخلَ اليسار في حالة من العطالة السياسية والتاريخية. بأي لغة صارَع اليسار خصومه؟ وأي أفق مستقبلي وضَعه لمسارات الصّراع؟ في السنوات القليلة التي تلت الثورة، كان لليسار خصمان كبيران، الإسلاميون ومعسكر “البورقيبيون الجدد”، وهمَا بلا شكّ خصمان تقليديان. في مرحلة المدّ الإسلاموي بعد انتخابات أكتوبر 2011 أفلَح اليسار -لفترة قصيرة من الزمن- في البروز ككيان سياسي جديد. وكان الإعلان عن الجبهة الشعبية اليسارية في أكتوبر 2012 مبشّرًا بهوية جديدة مُتخفّفة من ثقلها الأرثوذكسي وأكثر انفتاحا على واقعها، وبإمكانِها تجاوز العقل “المواقِعِي” واستيعاب أجيال من اليساريين الحالِمِين بدور وموقع في الوطن يلِيق بمساهماتهم الصغيرة. ولكن سُرعان ما هَاجَر اليسار موقعه الجديد، وأصبحَ يبحث عن صورته في الآخر، سواء لمصارعته أو للتحالف معه. وهكذا استعَاضَ عن خطابه الديمقراطي الاجتماعي “الثوري” بخِطاب مشتق من بقايا “علمانية رثّة”، لا تملك بالفعل مشروعا لمجتمع جديد وإنما كانت إيديولوجيا صراع على السلطة. لم يفكّر اليسار في إبداع علمانية جديدة، معبّرة عن روح الثورة والديمقراطية معًا، وبإمكانها تجاوز إخفاقات “علمانية الدولة” ووضع الصراع مع الإسلاميين و”الحداثيين” على سكّة جديدة.                        

هل أجبَر ضغط السّياقات اليسار على الانحناء لهذا المصير؟ بلا شكّ لعبَت العوامل الخارجيّة دورَها في الدّفع نحو ضياع مشروع اليسار داخل زحمة العنف و”الرايات السوداء” وضغط الحلفاء الجدد الذين سَحبُوه سحبا إلى مواقعهم ولُغتهم. ولكن كانت هناك استعدادات داخلية كبيرة عجّلت بالانزلاق نحو هذا الموقع والمصير. فعلى الأرجح، لم يكنْ بالإمكان بناء واقع جديد بعقول قديمة، لأن إمكانات جديدة للفعل والفكر لم يتمّ فتحها، وغصّت كل الأصوات المنادية بإعادة قراءة اللحظة وتعزيز المشاركة الديمقراطية تحت أنقاض القديم-المتجدّد. لم يسمح “السّلام” المؤقت بين الجماعات اليسارية الصغيرة (المؤلّفة للجبهة الشعبية) بالنظر إلى الزخم الكبير الذي أتاحَته حركة الشارع، ولم يسمَح هذا السّلام بالمراجعة النقدية لخطاب الجبهة وآلياتها التنظيمية وامتدادها الاجتماعي، وإنما انصبّت الاهتمامات الكبرى حول مصالح الجماعات الصغيرة نفسها. وفي نهاية المطاف -وبعد سنوات قليلة- انهار ذلك السّلام الهش وانهارت معه الجبهة الشعبية. وعندما حاولت التنظيمات العودة إلى وضع ما قبل-الجبهة، بعد إعلان نهاية الجبهة في سنة 2019، لم تجد سوى بقايا هياكل قديمة يزداد المنشقون عنها أكثر من الوافدين إليها، فحَاول بعضها الخروج من عزلته الجديدة باستعادة خطاب سياسي راديكالي ضد الجميع من دون إطار برنامجي واضح. والتحقت مجموعات أخرى بالموجة الشعبوية، يحكمها الوهم السياسي القائل بأن: “الخاسرون دائما مستفيدون من أي استثمار”، ولكن هذه المجموعات لم تُدرك بعد أن آلة الهيمنة النظامية استوعبت الخطاب الشعبوي وانتهى الأمر، لأنها كانت الأقدر على ذلك.

يُحاول هذا العمل الجماعي -بشكل أو بآخر- البحث عن إشكالات ومآزق اليسار، ليس بمنطق رصد الإخفاقات لأنها تظل دائما نسبية، وإنما من خلال إعادة صياغة الأسئلة الكبرى لليسار: أسئلة الهوية، والذاكرة، والحرية، والعدالة، والحقوق، والممارسة السياسية، ونظام المعرفة، والمسألة التنظيمية، والديمقراطية الداخلية، وغيرها من الأسئلة التي تبدو للبعض مطروقة، ولكن في الحقيقة مازال يلفّها الكثير من الالتباس وعدم الوضوح السياسي والفكري. ورغم حالة التشظي التي يبدو عليها اليسار، ليس فقط بسبب الانقسام الحزبي وإنما لعدم تحوله إلى مشروع مجتمعي، فإنه ما زال بالإمكان إعادة مجابهته بالأسئلة الكبرى، ووضعِه دُونَ مواربة أمام مآزقه. 

 هل حان الوقت لكي يَخرج اليسار من  حالة الاكتمال العقائدي الزائفة ويصطدم بحقيقة نقصانه؟  إن العطالة اليسارية تكمن بشكل أو بآخر في الطابع “المانوي” للمعرفة الذي يسيطر على أنماط الإدراك اليساري، الذي بات يقسم العالم إلى “أخيار” و”أشرار”، فضاقت بذلك مساحَات الفعل السياسي والفكري أمام معظم الحزبيّات اليسارية. وبعض الحلقات اليسارية لم تدشّن بعد مرحلة السياسة، لأن الرؤية لديها لا تتجاوز مقررات اجتماع خلية حزبية؛ خليّة واحدة بإمكانها أن تعوّضَ مجتمعًا بأسره.

اليسار ليس حالة باتولوجية أو فلكلورية، مثلما تُشيع عنه الأخلاقويات اليمينية، بل هو تجربة وجودية فريدة في تاريخ البلد، لم تقُم بعد بجرد حساب عقلاني مع ذاتها ومع الآخر ومع مستقبلها، وما زالت عاجزة على مواجهة مصيرها وواقعها بشجاعة كافية. هذه التجربة اليسارية عالقة في أمكنة متعددة: في إرثها الثقيل، وحاضرها الملتبس، ومستقبلها الغامض. لذلك يظلّ السؤال الكامن الذي لم ينفجر بعد في وجه القديم: ما هو الخيط السّميك الذي سيسحَب اليسار نحو تاريخ آخر؟ 

لا يدّعي هذا العمل الجماعي أنه حاول صناعة هذا الخيط السميك، ولكنّه وضع نفسه ضمن الداعين إلى اكتشاف الأدوات الجماعيّة الجديدة لصناعته. لأن التاريخ اليساري الجديد لا يُصنَع بتصميم عقائدي مسبق مهما كان حجم تماسكه الداخلي، ولا يُصنَع بتلفيقات نظرية تضفي على القديم بريقا تجديديا. لذلك يبدو الانفتاح على احتمالات معرفية ووجودية جديدة مدخلا من بين المداخل الممكنة لإعادة إنتاج حالة يسارية خصبة وذات دلالات مستقبلية. 

كيف يُعيد اليسار وضع ذاته ضمن مسارات فكرية وسياسية غير راكدة؟ هل آن أوان كتابة “مانيفستو” جديد لليسار التونسي؟ هل أن الوقوف بجرأة إنسانية وعلمية أمام المآزق يشكّل مدخلا أوليا للقطع مع الجمود والعطالة؟ 

من خلال هذا العمل الجماعي، حاولت المفكرة القانونية الالتقاء مع الظاهرة اليسارية، من خلال إعادة صياغة إشكالاتها وأسئلتها الكبرى باجتهاد نقدي لا يدّعي الحسم في الظواهر، وإنما يُحاول تكوين رؤية نقدية إزاءها. ومن خلال العودة إلى اليسار التونسي. حاولنا أيضا النظر مجددا إلى القيم السياسية والاجتماعية التي بإمكانها إعادة صياغة الاجتماع السياسي التونسي على أساس ديمقراطي متين، وفي مقدّمتها قيم الحرية والعدالة والمساواة.   

لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني