مؤتمر روما للهجرة: ساحة الحلول الخطأ؟


2023-08-01    |   

مؤتمر روما للهجرة: ساحة الحلول الخطأ؟

أيّاما قليلة بعد الإعلان عن مذكرة التفاهم المثيرة للجدل بين تونس والاتحاد الأوروبي، انتظم في العاصمة الإيطالية روما مؤتمر دولي حول الهجرة و”التنمية” يوم 23 جويلية المُنقضي. كانت المبادرة وراء هذا المؤتمر محلّ جدل “إثبات نسب” حول الطرف المبادر لانعقاده، مع تكرار تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ أشهر وخلال اتصالاته مع عديد الشخصيّات عن نيّته لعقد قمّة حول الهجرة تتناول معالجة العوامل وراء الهجرة غير النظاميّة، ومنها تصريحه خلال لقائه رئيس الحكومة المالطية “روبرت ابيلا” في 10 جويلية حول ضرورة الحلّ الجماعي لمشكلة الهجرة عبر “معالجة الأسباب الحقيقية عوضا عن معالجة النتائج”. إلا أنّه بعيدا عن هذه الادّعاءات، لم يكن هذا المؤتمر لينعقد لولا التحرّكات الإيطالية الواسعة، سواء داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو مع الدول المشاركة في المؤتمر سواء من البلدان المعنيّة مباشرة بقضيّة الهجرة أو بعض الدول الأخرى التي يراد أن تقوم بدور الداعم المالي لعدد من المشاريع الشكليّة على غرار الإمارات العربية المتحدة. وبغضّ النظر عن الأطروحة التي دافع عنها سعيّد حول هذا المؤتمر، لم يكن الحدث أولا وأخيرا إلا ترجمة لمشروعماتيالاستراتيجي الإيطالي ولم تكن مخرجاته لتتجاوز الإطار العامّ للسياسة الإيطالية حول ملف الهجرة عبر استنساخ مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي لكي تكون النموذج الإطاري المعتمد للاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي والدول التي تنطلق منها مسالك الهجرة غير النظامية، و منها مشاريع مستقبلية مفترضة مع المغرب ومصر وليبيا.

الموقف الأوروبي الحذر

لم تخرج تمثيليّة الدول الأوروبية في هذا المؤتمر عن دائرة التواجد الخجول. فعدا عن بعض المسؤولين المشاركين عن مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لم يتعدّ تمثيل معظم الدول الأوروبيّة المؤثرة مرتبة السفراء المتواجدين في إيطاليا. يعكسُ هذا التصرّف بشكل واضح حجم الفجوة التي تطال المواقف الأوروبية من قضيّة الهجرة ولعوامل مختلفة. فالموقف الفرنسيّ على سبيل المثال في تخوّف مستمرّ من “تغوّل” إيطالي محسوس على القرار الأوروبي في هذا الملف، وهو تغوّل يتجه إلى حماية الأهداف الاستراتيجيّة الإيطاليّة بالدرجة الأولى. وقد ترى فرنسا في آليات التنسيق الجماعيّ لمواجهة عمليات الهجرة غير الشرعيّة وسيلة لهذه الغاية، حيث يصبّ تصريح ميلوني خلال القمّة حول ضرورة تعزيز التعاون الأمني مع السلطات القضائيّة وإنشاء آليّات دوليّة مشتركة للتعاون والتنسيق الدولي حول الهجرة، وسيلة إيطاليّة مقنّعة لممارسة قدر هامّ من النفوذ السياسي داخل الاتحاد الأوروبي في هذا الملف بالتحديد.

في جانب آخر، يُعزّر رفض عدد من الدول الأوروبيّة لاستقبال عدد من المهاجرين على أراضيها اختلاف المواقف داخل الاتحاد الأوروبي. فقد شهدت القمّة الأوروبية الأخيرة حول الهجرة في جوان المنقضي مُعارضة قويّة من رئيسيْ الحكومة المجريّ والبولونيّ للمقترح الذي ينصّ على استقبال الدول الأعضاء عددا معيّنا من طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى إحدى دول الاتحاد المعرّضة لضغوط الهجرة، أو في حال رفض ذلك، تقديم مساعدة مالية تعادل 20 ألف يورو عن كلّ لاجئ يتمّ رفض استقباله لصالح دول الاستقبال. وقد يؤدي تواصل المُعارضة البولونية والمجرية للاتفاق إلى مصاعب أثناء مناقشته في البرلمان الأوروبي.

ولا تقف صعوبات تبني الموقف الأوروبي المشترك عند هذا الحدّ. فالوصول إلى مقاربة مشتركة في ملفّ الهجرة قد تُعيقه الاتفاقيات الثنائية المتواصلة التي قد لا ينسجم بعضها مع أطر التنسيق الموحّدة، وهو ما سيؤدي حتما إلى تهديد مسار روما النابع عن هذه القمّة، ويعزز ذلك التغيّرات السياسيّة الداخليّة التي تمرّ بها بعض الدول الأوروبية المساندة للتمشّي الإيطالي الحالي في ملف الهجرة، ومن بينها هولندا التي شهدت استقالة رئيس حكومتها “مارك روته” بعد عدم توصّل الأحزاب المشكّلة للحكومة لاتفاق حول التدابير المتعلّقة بتقليص تدفّق طالبي اللجوء. مجمل هذه العوامل قد يهدّد تماسك المبادرة المطروحة ضمن مسار روما، بالتوازي مع عدد آخر من الأسباب التي لا تقلّ عن ذلك أهميّة.

رحلة البحث عن الغطاء الدوليّ الواسع

مباشرة إثر انتهاء أعمال المؤتمر، توجّهت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني إلى الولايات المتّحدة للتداول حول بعض الملفّات مثل الأزمة الأوكرانية والدور الإيطالي في عدد من المبادرات الدوليّة. لكن حظي ملفّ الاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط والعلاقات الإيطالية الإفريقية بقدر هامّ من النقاش بين ميلوني وبايدن، إضافة إلى مخرجات مؤتمر روما حول الهجرة. سعتْ ميلوني عبر هذه الخطوة إلى نوع من “المباركة” الأمريكية للمشروع الإيطالي عبر الاستفادة من بعض الأوراق السياسية. فعلى إثر فوز التحالف اليميني في إيطاليا بالانتخابات التشريعيّة في العام الماضي، حذّر الرئيس بايدن من صعود أقصى اليمين في إيطاليا مُستحضرا مواقفه في ملفّ الهجرة وقضايا الحريّات. إلا أنّ هذه الانتقادات سرعان ما تحوّلت إلى تعاون استراتيجي كبير، على مستوى الدور الإيطالي في حلف شمال الأطلسي والأزمة الأوكرانيّة وإمكانيّة انسحاب إيطاليا من مبادرة الحزام والطريق الصينيّة في مارس 2024 والتعاون الأمريكي مع إيطاليا في مرحلة تولّيها رئاسة مجموعة الدول الصناعيّة السبع خلال السنة القادمة.

ومع ذلك، لم تظهر بوادر تأييد أمريكي واضح لمسار روما من خلال التصريحات التي تلت اللقاء، في حين أشارت ميلوني إلى انفتاح أمريكي غير مسبوق في الملف التونسي. وهو انفتاح لا يقف عليه أيّ مؤشر بيّن، خصوصا مع تصويت لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشيوخ الأمريكيّ خلال الشهر الماضي على “قانون لحماية الديمقراطيّة في تونس”، وقد يُؤدي هذا القانون في حال اعتماده إلى وقف أو تخفيض نسبة هامّة من التمويلات الأمريكيّة تجاه تونس.

وبالإضافة إلى غموض الموقف الأمريكي من مسار روما وعدم التوجّه إلى مساندته بشكل واضح، يبدو أن دعوة رئيسة الحكومة الإيطاليّة للتخلّي عن السياسات المتعالية للدول الأوروبية في ملف الهجرة غير النظامية والانفتاح على تعزيز نسق الهجرة القانونية، لم تكن لتأخذ أبعادا جديّة. فقد اقترنت مع شكرها إدارة سعيّد لملفّ الهجرة ومحوريّة الدور التونسي، وهو ما يتناقض تماما مع الانتقادات الدوليّة والحقوقيّة المتواصلة التي تطال السلطة التونسيّة في مسألة ترحيل المهاجرين غير النظاميين وسوء المعاملة التي تطال عددا كبيرا منهم خصوصا على مستوى التعامل الأمنيّ.

كما لا يمكن غضّ النظر عن بعض العقبات الأخرى التي تواجهُ تنفيذ برنامج مسار روما وبالتحديد مؤتمر المانحين الذي تمّ الإعلان عنه لتمويل مشاريع استثماريّة في عدد من بلدان شمال إفريقيا وجنوب الصحراء. إذ أنّ عدم توفّر أطراف ممولة واضحة لمثل هذه المشاريع، والاقتصار على تمويل إماراتي مرحليّ محتشم جدّا، يُقدر بـ 100 مليون يورو ستوزّع على مجموعة من الدول يلوح كدليل على عدم نجاح الجهود الإيطالية في تحقيق البعد التنمويّ للمبادرة وفشل البناء على خطّة متكاملة لمعالجة الأسباب الحقيقية لمسألة الهجرة كما تم توضيحه في أهداف هذا المؤتمر.

مؤتمر لتحقيق المصالح الآنيّة

لم يمرّ هذا المؤتمر من دون انتقادات واسعة ووجيهة من عدد من المنظّمات الحقوقية الوطنية والإقليمية والدولية حول الانتهاكات الواسعة التي تُمارس ضد المهاجرين غير النظاميّين. ففي حين أشار قيس سعيّد في كلمته ضمن المؤتمر-الذي شارك فيه كضيف شرف- إلى أنّ “معالجة الهجرة غير النظاميّة لا تتمّ بصفة منفردة ولا بواسطة اتفاقات ثنائيّة”، و بأنّ تونس لن تقبل “بالتوطين المبطن للمهاجرين غير النظاميين”، تتصاعد حدّة التقارير الحقوقيّة حول وضع المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، الذين وجدوا أنفسهم في المناطق الصحراوية على الحدود التونسية الليبية في ظروف مناخيّة قاسية جدّا وفي أطر معيشيّة صعبة، وسط تلاعب بالمسؤوليات تدفع ثمنه قوافل المهاجرين التي ما لبثت أن أصبحت ضحيّة للمساومات السياسيّة وابتزاز عصابات الإتجار بالبشر. كما تتحمّل الدولة التونسية حسب عديد الجهات الحقوقية قسطا هامّا من المسؤولية المباشرة حيال ذلك، عبر لجوئها إلى الترحيل المفاجئ والقسري في اتجاه المناطق الصحراوية المتاخمة للحدود الليبية حسب شهادات حيّة، مما أدى إلى وفاة عدد من المهاجرين.

يعكسُ الموقف التونسي الحالي أبعاد مذكرة التفاهم التي تمّ توقيعها سابقا مع الاتحاد الأوروبي عبر تشديد الرقابة على الحدود. إلا أن الملاحظ من المشاركة التونسيّة في المؤتمر اقتصارها على الجانب الخطابي من دون تحقيق مكاسب دبلوماسيّة أو اقتصاديّة ذات قدر من الأهميّة أو حتى إحداث تواصل مع شركائها من بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط للتنسيق حول ملفّ الهجرة. إذ لم تؤدي المباحثات الليبية- التونسية في ملف الهجرة إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع، في حين لا توجد مؤشرات واضحة على تواصل أو تنسيق تونسي- جزائري في ملف الهجرة رغم وفود أعداد هامّة من المهاجرين غير النظاميين إلى تونس عبر الحدود الجزائريّة.

في المجمل، لم يكن مؤتمر روما أكثر من مناسبة لتسويق السيّاسة الإيطالية في ملف الهجرة، حيث سُجلت المقاربات الجديدة لمعالجة الأسباب العميقة للهجرة كعناصر تزويقيّة لا أكثر للمقاربة الأمنية التي يُراد تعزيزها بشكل ممنهج، كما أكدت على ذلك ميلوني في حديثها حول ضرورة تعزيز التعاون الأمني بين دول البحر المتوسط وتشديد التشريعات الرامية لردع المهرّبين. في حين حاولت بعض الدول المشاركة استغلال المناسبة للنقاش في مباحثات ثنائيّة أخرى على هامش ملفّ الهجرة. وفي المحصّلة، وجدت عديد الملفات طريقها إلى مؤتمر روما بعيدا عن مآسي المهاجرين ومساعيهم لحياة آمنة وكريمة، ليُسجل هذا المؤتمر كصفحة جديدة في مسار الالتفاف على الحلول الحقيقية لمعضلة الهجرة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، أوروبا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني