لبنانيّو غزة: الإبادة من ورائهم وعصابات معبر رفح من أمامهم


2024-02-27    |   

لبنانيّو غزة: الإبادة من ورائهم وعصابات معبر رفح من أمامهم
لقطة شاشة من تقرير لـ "الجزيرة" حول تكدّس شاحنات المساعدات على معبر رفح

“نحن نذلّينا، أنا عايشة بخيمة بتحمّم بالفلا، صرت إتمنّى الموت بس كرمال إخلص من المذلّة”، بهذه العبارة تصف فاطمة حيدر، اللبنانية المقيمة وابنتها في قطاع غزة حالتها المأساوية، وتسأل “ماذا تنتظر دولتنا حتى تطالب بإجلائنا كما فعلت معظم الدول. شو ناطرينا لنموت؟ أكتر من أربعة أشهر وما لقيوا حل”.

وبخلاف معظم الدول، العربية والأجنبية، التي تمكّنت من إخراج رعاياها من غزة فور بدء العدوان، لم تتمكن الدولة اللبنانية إلى اليوم من حلّ ملف اللبنانيين واللبنانيات واولادهن العالقين في القطاع، والذين يتجاوز عددهم 168 شخصًا، بحسب ما قاله سفير لبنان في مصر علي الحلبي لـ “المفكرة”. وهذا الرقم هو فقط للذين تقدّموا بطلبات ترحيل لدى السفارة اللبنانية في مصر، ما يعني أنّ الرقم أعلى كون هناك العديد من حاملي الجنسية اللبنانية في غزة لم يتقدّموا بطلبات للخروج منها.

وكانت الخارجية المصرية قد تمكّنت من تسهيل إجلاء أكثر من 7000 مواطن أجنبي يحملون أكثر من 60 جنسية في شهر تشرين الثاني العام 2023، كذلك تمكّنت دول مثل الأردن وتونس والمغرب من إجلاء رعاياها، فيما اللبنانيون متروكون لمصيرهم.

وقد أكد السفير الحلبي، أنّه تم رفع الملفات إلى وزارة الخارجية في مصر، وهي الجهة المخوّلة التنسيق مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي عند معبر رفح، لضمان خروج الرعايا اللبنانيين، إلّا أنّ المسألة، بحسب الحلبي الذي نقل عن وزارة  الخارجية المصرية، ما زالت عالقة عند الجانب الإسرائيلي ولم تأت الموافقة على خروج حاملي الجوازات اللبنانية وأولادهم بعد.

وعن تمكّن بعض الدول من سحب رعاياها، رجّح الحلبي أن تكون هذه الدول قد أجرت مباحثاتها وتنسيقها اللازم مع الجانب الإسرائيلي وحصلت على الموافقة، وهذا ما تكفّل به الجانب المصري بالنسبة للبنانيين، مشيرًا إلى أنّ العدو الإسرائيلي يصعّب عمليات إجلاء رعايا عدد من الدول ومنها العراق واليمن ولبنان ودول أفريقية معادية لإسرائيل.

ولكن كلام السفير الحلبي والخارجية المصرية بعدم قدرتهما على إخراج الرعايا اللبنانيين، يدحضه الواقع الحالي في معبر رفح حيث تنشط شبكات منظمة تؤمّن إجلاء المتواجدين في غزة بعد دفع بدلات مالية تتراوح بين 5 آلاف دولار للكبار و2500 دولار للصغار. ومن هذه الشركات شركة هلا  للاستشارات والخدمات السياحية التي باتت من أقوى الشركات المنظّمة لهذه العملية، ولديها مكاتبها في القاهرة ولديها موظفين عند الجانب المصري  لمعبر رفح. وليس على الراغب في الخروج من غزة إلّا أن يحضر الأموال اللازمة ويقدّم طلبًا سواء عبر موقعها الإلكتروني، أو حضور أحد أقاربه إلى مكاتب الشركة في القاهرة. وتستغرق مدة الرد على الطلب من أسبوع إلى عشرة أيام. وكان موقع مدى مصر قد  ذكر أنّ عملية عبور الأشخاص والبضائع تخضع لسيطرة شركات عدة يمتلكها إبراهيم العرجاني، وهو قائد قبيلة من قبائل بدو سيناء، بعد أن كان مطلوبًا للسلطات المصرية بسبب الاحتجاجات التي قادها ضد الحكومة، وأنّ الخروج من قطاع غزة محصور بإجلاء الرعايا الأجانب ومزدوجي الجنسية وممنوع على الفلسطينيين. وقد ذكر عدد من اللبنانيين ومزدوجي الجنسية المتواجدين في قطاع غزة لـ “المفكرة ” أنّ أحد أقارب الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، هو شريك لـ “العرجاني”.   

في هذا التحقيق نلقي الضوء على واقع حاملي الجنسية اللبنانية في غزة وأولادهم، ودور السلطات المعنية في إخراجهم.

تتراوح بدلات إجلاء اللبنانيين عبر رفح بين 5 آلاف دولار للكبار و2500 دولار للصغار

20 ألف دولار ثمن نجاته

تمكّن أكرم (اسم مستعار) وهو فلسطيني مولود من أم لبنانية، من الخروج من غزة عبر معبر رفح  بعد أن دفع  حوالي 20 ألف دولار لشركة “هلا”، كبدل عنه وعن أفراد عائلته الخمسة، “دفعنا 10 آلاف عنّي وعن مرتي و10 آلاف دولار عن أولادي الأربعة لأنهم صغار”. ويتابع: “كنّا كأنّ عم نضهر من النار عالجنة، لحظة العبور ما بتنوَصف، بتكوني مش مصدّقة، خايفة الشرطي يقلّك ارجعي اسمك مش عاللائحة، بنفس الوقت بتتمنّي حدا يعيّطلك يقلّك ارجعي خلصت الحرب وخلص كل شي”.

يضيف أنّه حاول بشتى الطرق الخروج من غزة، فحاولت والدته المقيمة في لبنان إخراجه عبر سفارة لبنان في مصر، إلّا أنها لم تتمكن من ذلك لغاية اليوم، فلم يبقَ أمامه سوى الخروج عبر شركة “هلا”، فقامت شقيقة زوجته بتجميع المبلغ المطلوب وتقديم الطلب في مكاتب الشركة في القاهرة. وبعد حوالي ثمانية أيام تمكن اكرم وعائلته من الخروج من بوابة المعبر. يقول أكرم إنّ نقطة العبور الأولى تابعة لشرطة الحكومة الوطنية الفلسطينية، ومن بعدها تأتي نقطة تفتيش تابعة للحرس المصري، وعلى طول الطريق تحلّق مسيّرات تابعة للعدو الإسرائيلي تراقب السيارات والخارجين. ويضيف أكرم أنّ مندوبي شركة “هلا” يتواجدون في الجانب المصري حيث يستقبلون زبائنهم بمظاهر من الرفاهية، وبعد استراحة قليلة في الصالونات المخصّصة لزبائن الشركة، يتمّ نقلهم في باصات فاخرة ومريحة إلى القاهرة.

يعود أكرم بالذاكرة إلى بدء العدوان، ويروي أنّه فور رمي العدو الإسرائيلي المناشير محذرًا السكان من ضرورة إخلاء منطقة شمال غزة حيث يقطن، حمل أغراضه ونزح جنوبًا إلى دير البلح. يقول إنّ الوضع المعيشي في غزة صعب جدًا “كل شي بدك تضرب سعره بخمسة”، مؤكدًا أنّ مساعدات الأونروا توزّع على بعض التجار الذين يقومون ببيعها بأسعار باهظة. ويضيف أكرم بغصّة أنّ شقيقته وشقيقه ما زالا في غزة ولم يتمكّنا من الخروج.

كذلك يؤكد أكرم أنّ احد أصدقائه من حاملي الجنسية اللبنانية تمكّن من الخروج من غزة بعد حوالي شهر على بدء العدوان، حيث قام أحد أقاربه من حاملي الجنسية الاميركية بالتوسط لإخراجه، ويؤكّد أكرم نقلًا عن صديقه الذي رفض الحديث لـ “المفكرة” أنّه خرج من غزة من دون أن يدفع أي بدل مادي، بل فقط لأنّ قريبه الأميركي طالب بإخراجه.

“سيأتي الموت ولن ينقذنا أحد”

تحط فاطمة حيدر، لبنانية متزوجة من فلسطيني رحالها في خيمة في مدينة رفح دفعت ثمنها (2500 شيكل حوالي 700 دولار). تعيش منتظرة أمرين إمّا الموت أو تجميع مبلغ 8 آلاف دولار بدل إجلائها وابنتها عبر شركة “هلا”. تقول في اتصالٍ مع “المفكرة” إنّها لم تتخيّل أن تعيش يومًا كمّ العذاب الذي تعيشه منذ أربعة أشهر، وهي منذ اللحظة الأولى للعدوان تحاول الخروج من  غزة ولكن بلا جدوى. وعلى الرغم من إرسال بياناتها إلى السفارة اللبنانية في مصر لم تتلقّ أي جواب، حتى وصلت بها الحال إلى التوجّه من تلقاء نفسها إلى معبر رفح وإبراز جواز سفرها اللبناني على أمل الخروج، إلاّ أنّ الحرس الفلسطيني منعها وابنتها، فعادت أدراجها خائبة، ولم يبق لديها أمل سوى بالخروج عبر شركة “هلا” فتواصلت معهم وطلبوا منها تأمين المبلغ اللازم لإجلائها.

مع بدء العدوان كانت فاطمة حيدر تقيم في منزلها في وسط غزة، وهي منذ اللحظة الأولى تريد النزوح إلى رفح إلّا أنّها لم تتمكّن في البداية من شراء خيمة، ولكن مع اشتداد حدّة العدوان ورمي العدو مناشير تطالب السكان بالإخلاء، اضطرت للنزوح بعدما اشترت خيمة مع قطعة من الخشب لإسنادها عليها “الخشبة لحالها حقها 5 دولارات وانفخي عليها بتوقع” ثم بدأت رحلة صعوبة العيش وإيجاد المواد الغذائي.

تقول فاطمة إنّها من يوم بدأت الحرب لم تتلقّ أيّ مساعدة من الأونروا، مشيرة إلى أنّ هذه المساعدات يستولي عليها عدد من التجّار ويوزّعوها على المقرّبين منهم، وهؤلاء يبيعونها بدورهم للمواطنين بأسعار خيالية. وتجزم أنّ “كلّ البضائع الموجودة في السوق هي مساعدات بتنباع للناس”. 

“والله الناس عم تاكل تبن الحمير”، تضيف فاطمة وتؤكد أنّها منذ حوالي الشهر لم تتمكّن من الحصول على حفنة طحين أو سكر، وأنّ غذاءها اليوم يقتصر على علب الفول، أو الحمص مع الأرز والتي تصل أسعارها إلى مستويات خيالية. “نحن فعليًا مش عم ناكل، إذا قدرنا نجيب شي مناكل إذا لا منّام جوعانين”. وتضيف أنّها لا تستطيع شراء مياه للشرب فتضطر إلى شرب مياه “البلدية” وهي مياه ملوّثة على حد قولها، وأنّها في البداية تسبّبت لها بتوعّك فبقيت حوالي 25 يومًا تعاني من آلام في المعدة وارتفاع في الحرارة. اليوم تقوم فاطمة تضع المياه على النار حدّ الغليان، ومن ثم تبرّدها لشربها. 

هذا عدا عن الخوف والرعب من العدو الإسرائيلي “انت بتنامي ما بتعرفي إذا بيطلع عليك الصبح”، من هنا تتمنى فاطمة لو أنّ باستطاعتها تجميع المبلغ المطلوب لشركة “هلا” والخروج من رفح، وتضيف أنّ أولاد عمّتها في مصر قصدوا السفارة اللبنانية وكان الجواب أنّ “الموافقة بعد ما اجت من اليهود”، وتقارن بين دولة لبنان وبقية الدول، “كل الدول أجلت رعاياها”، وتضيف أنّها في الشهر الأول من العدوان قرع باب منزلها عائلتان تحملان الجنسية التونسية، ونزلوا في ضيافتها لمدة شهر حتى أرسلت لهم سفارتهم سيارات خاصة لإجلائهم.

وأطلقت حيدر حملة تبرعات عبر منصة ….لجمع مبلغ 7500 دولار بدل “تذاكر هروب” لها وابنتها عبر لشركة هلا، علها تتمكن من النجاة.

الأهالي في لبنان يعيشون الحرقة

أهالي اللبنانيات واللبنانيين العالقين وأولادهم في غزة، يعيشون في لبنان حالًا من القلق والغضب، قلق وخوف على أولادهم وأحفادهم الذين يواجهون الجوع والموت، وغضب من دولة لم تتمكن إلى اليوم من إنقاذهم. “متروكين لحالهم ولا في دول وراهم”، تقول آمال والدة لأربعة أولاد عالقين مع عائلاتهم في غزة لـ “المفكرة”. وتضيف أنّها أرسلت بيانات وأوراق أولادها إلى سفارة لبنان في مصر منذ حوالي شهرين إلّا أنّها لم تصل إلى نتيجة “الخوف على الأولاد “هدّ حيلي”، ومع صعوبة الاتصال بهم بسبب ضعف الشبكة العنكبوتية يصبح القلق مضاعفًا. وتتحسّر آمال على وضعها المادي “كل شي بالمصاري، لو معي مصاري كنت طلّعتهم من زمان”.

“ناطرينهم ليموتوا، ما حدا من المسؤولين عم يتحرّك”، هذا ما قالته مهى مرقباوي الخائفة على شقيقتها منال (لبنانية متزوجة من فلسطيني) والعالقة في غزة  مع ابنها (8 سنوات) وابنتها (6 سنوات). تضيف مهى في اتصالٍ مع “المفكرة، أنّها عبثًا حاولت إجلاءهم وكونهم لا يملكون الأموال لإخراجهم عبر شركة “هلا”، جرّبوا الطرق المتاحة: “قدّمنا أوراقنا للسفارة بمصر، اتصلنا بوزارة الخارجية بلبنان قال ما خصّنا، حاولنا نوصّل صوتنا للرئيس ميقاتي ما مشي الحال وناطرين”. تروي مهى قصة شقيقتها التي التقت بزوجها بينما كانا طالبين في جامعة الجنان في بيروت، وربطتهما علاقة حب قوية، تزوّجا وسافرت معه للعيش في غزة.

وتضيف أنّ شقيقتها وعائلتها الذين يعيشون في منطقة خان يونس نجت أكثر من مرة من الموت خلال هذا العدوان، “أختي بقيت محاصرة 7 أيام بغرفة واحدة مع 20 شخص، ما بيقدروا يتحرّكوا، الإسرائيليي محاصرين البيت ويقوّصوا على الحيطان والشبابيك”. وتوضح أنّ جيش العدو اقتحم المنطقة التي يعيشون فيها، وكانت شقيقتها مع عائلتها وعائلات أخوات زوجها وهم حوالي 20 شخصًا، جلسوا جميعهم في الغرفة التي تتوسّط المنزل “الرصاص عم يجي عالغرف المطرّفة فقعدوا بالنص”. بعدها اقتحم جيش العدو المنزل واعتقل الرجال فيما تشرّدت النساء والأطفال في الشارع. بقيت شقيقتها وعائلتها في الشارع، وبعد 10 ساعات أفرجوا عن رجال العائلة، وحين التمّ شملهم نزحوا إلى رفح، حيث استقرّوا مع حوالي 40 شخصًا في غرفتين. “قالوا أحسن ما نعيش بالخيم”، تضيف. ولكن العدوان اشتدّ على المنطقة التي يعيشون فيها، فانتقلت شقيقتها إلى خيمة في منطقة “المواصي”. وتشير آمال إلى أنّها في آخر اتصال لها مع شقيقتها أخبرتها أنّ القصف قريب منهم، “بين الاتصال والاتصال ما منعرف شو مصيرهم، منّام برعب ومنفيق برعب”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني