لاجئون في رتبة سياح: الليبيون في تونس حفاوة تخفي إهمالاً


2015-04-17    |   

لاجئون في رتبة سياح: الليبيون في تونس حفاوة تخفي إهمالاً

رغم قصر المسافة الحدودية بين المدن الليبية والمدن التونسية، إلا أن ذلك لا يعكس كفاية العلاقة المميزة بين الشعبين وعمق العلاقة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية المتشابكة بينهما. وقد تطورت علاقة الليبيين بتونس مع الزمن وأحياناً بنتيجة انعكاسات السياسة. ومنذ بداية الألفية الثالثة، صارت تونس محطة علاجية وسياحية وخدماتية هامة لليبيين. وكانت أحداث ثورة 17 فبراير وما صاحبها من تداعيات أمنية وعسكرية بين كتائب نظام القذافي وقوى الثوار الليبيين قد دفعت عدداً كبيراً من الأسر الليبية للجوء مؤقتاً للبلاد التونسية هرباً من حدة المواجهات وسعياً لحياة مستقرّة. وبدت تلك الهجرة المؤقتة في حينها مناسبة لإبراز حفاوة التونسيين بالمهاجرين الليبيين والذين استضافتهم أغلب مدن الجنوب التونسي في تعاطف واضح مع القضية الليبية ودعم كامل للثورة.

ومع نهاية النزاع المسلح في ليبيا وسقوط نظام القذافي، اختار من شكلوا موجة المهاجرين الأول العودة الى ديارهم بعد شعورهم بهامش من الأمن والاستقرار في وطنهم الأم  لينتهي بذلك الفصل الأول من حركة سكانية بين أرض ثورتين. ولكن، في الوقت ذاته، أدى انتصار ثورة فبراير في نهاية 2011 إلى موجة جديدة من اللاجئين الجدد للبلاد التونسية، ممن يُحسبون على النظام السابق. وكان منذ البداية الفرق جلياً بين أوضاع هؤلاء وأوضاع الذين سبقوهم والذي تمثل في طول أمد الإقامة.

ويمكن تصنيف الليبيين المقيمين الى تونس ضمن ثلاث مجموعات اختلفت أسباب هجرتها الاضطرارية وتمايز توقيت مغادرتها لوطنها.
الفئة الأولى تكوّنت من المهجّرين الذين توجهوا الى تونس خلال الفترة الأولى التي أعقبت سقوط “نظام العقيد” خشية التعرّض لمضايقات أو عمليات انتقامية بنتيج مشاركة أفراد من أسرهم أو من قبائلهم أو من المناطق التي ينتمون لها في دعم النظام السابق ضد الثوار الليبيين، أو خشية التعرض للمحاسبة الشعبية والقانونية على خلفية أعمال النظام السابق. وقد اصطلح على تسمية هؤلاء الفارين نحو ملاذ آمن في الوسط المحلي بالأزلام.

الفئة الثانية تكوّنت تبعاً لموجات نزوح متعددة ومتفرقة ومتباينة في الفترة الزمنية، استمرت طيلة أمد حكم السلطات الليبية المتعاقبة خلال سنوات 2012-2015 والتي عجزت عن فرض سيطرتها على الأرض. وقد ارتبط قرار هذه المجموعة في الهجرة بتطور الوضع الأمني بمناطقها. وتتكوّن هذه المجموعة من عائلات ليبية ليس لها عموماً علاقة بالصراع السياسي، إلا أنها اختارت مغادرة وطنها بعدما عاينت عجز النظام الجديد عن توفير الأمن لها، خاصة في حالة وقوع اعتداء أو انتهاكات في المناطق التي يقطنونها أو رغبة منهم في البحث عن استقرار معيشي وأمني.

الفئة الثالثة تكوّنت هي في مفارقة ذات دلالة من أسر من كانوا يعدّون ثواراً أو مناصرين للثورة. فقد دفع انفلات الوضع الأمني بليبيا وتطور نشاط الجماعات المسلحة فيها بمن كانوا شركاء في انتصار الثورة الليبية إلى الهجرة، تبعاً لمحاولة اغتيال أو تهديد به أو خوف من حصوله. وهذا ما دفع عدداً كبيراً من النشطاء والحقوقيين والإعلاميين وغيرهم لاختيار تونس كملاذ آمن باستطاعتهم العيش فيه والاستمرار في ممارسة أعمالهم بأمان، وهم على مقربة من الداخل الليبي.

ورغم تنوع حالات الهجرة وتوقيتها، فإن حس الانتماء الليبيي غالباً ما دفعهم لاختيار السكن في الأحياء ذاتها التي يسكنها مواطنوهم في تجاوز تام لخلافاتهم السابقة التي دفعت بعضهم ليكون سبباً في تهجير بعضهم الآخر. فتحولت بذلك أرض الهجرة الاضطرارية الى مساحة لمصالحة صامتة بين أبناء الوطن الواحد دون وساطات أو تدخلات خارجية، فيما سمحت معرفة الليبيين لتونس بتسهيل اندماجهم فيها. إلا أن هذا الاندماج الهادئ لم يمنع من تطور خطاب “معاد للمهجرين” من جهة ومن تسجيل غياب تصور رسمي يحمي حقوق الليبيين المهجرين من جهة أخرى.

الخطاب حول الليبيين
كان الخطاب حول الليبيين بتونس في بداية الأمر يركز على أهمية العلاقة بين الشعبين التونسي والليبي وقيم الضيافة. إلا أنه مع حلول سنة 2014، تطور الخطاب الرسمي التونسي حول الليبيين سلبياً، فسعت الحكومة التونسية الى تضخيم أعداد الليبيين في خطابها مقدرة إياهم بمليون وتسعمئة ألف شخص، والى تضخيم الأعباء الناجمة عن هذا اللجوء من خلال الإيحاء بأنه يرهق الاقتصاد التونسي الذي يعتمد على دعم المواد الاستهلاكية[1].

وتناغم خطاب الإعلام المحلي التونسي حول الليبيين في تونس في الجانب الأكبر منه مع الخطاب السياسي. فتم تحميل توافد اللاجئين الليبيين[2] الى تونس مسؤولية غلاء الأسعار وانهيار القدرة  الشرائية للمواطنين التونسيين[3]. وقد هدف هذا الخطاب على ما يبدو الى تبرير طلب دعم مالي من الحكومة الليبية للاقتصاد التونسي الذي يعاني من مشاكل سيولة مالية[4]. إلا أن هذا الخطاب أدى فعلياً لتكريس فكرة مفادها أن أزمات الاقتصاد التونسي خلال المرحلة الانتقالية معْزوة إلى تحمل تونس لعبء اللجوء الليبي ولكون الجوار الليبي لتونس مصدر خطر على أمن تونس واستقرارها[5]. فكان تطور الخطاب في اتجاه الحديث عن عبء اللجوء الليبي بتونس المؤشر على نشأة خطاب معاد للمهجّرين الليبيين بتونس يختزل الوجود الليبي بتونس في العبء الاقتصادي الذي يتسببون به. وقد تعزز ذلك من خلال تركيز الإعلام على جنسية من يُتّهمون من الجالية الليبية بتونس بارتكاب جرائم، خصوصاً إذا تعلق الأمر بجرائم إرهابية أو جرائم أخلاقية.

ولم تؤثر خطورة تطور الخطاب فعلياً على أمن الليبيين الموجودين بتونس. فلم تسجّل ممارسات ذات طابع ممنهج وعام معادية لوجود الليبيين بتونس. ويستثنى من ذلك المناوشات التي يتعرضون لها من وقت لآخر في المناطق الحدودية بمناسبة أزمات المعابر الحدودية أو حدوث بعض الاعتداءات الفردية انعكاساً لبعض الأحداث المرتبطة بالبلدين مثل الاعتداء على بعض الليبيين بالعاصمة على خلفية الأنباء التي انتشرت عن اغتيال الصحافيين التونسيين المختطفين في ليبيا سفيان الشورابي ونذير القطاري. وهي حوادث استهجنها المجتمع التونسي وهو ما دفع مجموعة من النشطاء والحقوقيين الليبيين بتونس لإصدار بيان يؤكدون فيه تضامنهم مع أسر الضحايا ويناشدون الإعلام بتبني خطاب إعلامي يؤدي للتهدئة وتعزيز العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتشابكة.

ويمكن القول إن محدودية التأثير السلبي للخطاب المعادي حول الليبيين بتونس على خطورته يعود بالأساس لخصوصية المهاجرين الليبيين، هذه الخصوصية التي تتمثل أساساً في أمرين: أولهما أن الليبيين بتونس لم ينافسوا التونسيين في سوق العمل المحلي وبالتالي انتفت فرص المواجهة في أماكن العمل أو بسببه. وثانيهما أن الرفاه النسبي لهذه الجالية مكّن سكان المناطق التي يقيمون بها من تبين إيجابيات اقتصادية لنزوحهم أغفلها الخطاب الرسمي وتمثلت أساساً في  كون الليبيين بتونس باتوا عامل إنعاش للاقتصاد بفعل كونهم قوة استهلاكية هامة تساهم في تطوير الدورة الاقتصادية.

ويؤدي القول بأن الرفاهية النسبية للجالية الليبية بتونس ضمن عدم تطور المشاعر المعادية لها إلى التصريح ضمناً بهشاشة الأمن الاجتماعي الذي تحظى به هذه الجالية. فتدهور وضعهم المالي بسبب طول أمد هجرتهم وتواصل الأزمة الأمنية بليبيا وانقطاع مصادر دخلهم وتجارتهم بليبيا، خاصة مع تنامي التقارير التي تشير لقرب هبوط قيمة العملة الليبية نتيجة انهيار الاقتصاد الليبي المعتمد على النفط المتعثر إنتاجه. وعليه، يرجح مع مرور الوقت، أن يجد أغلب المهجرين أنفسهم مضطرّين لطلب العمل بتونس بما قد يعزز احتكاكهم بالتونسيين بما قد يؤدي لتغييرات في الممارسات تجاههم قد تكون سلبية بحكم ترسخ فكرة تحملهم مسؤولية تردي الوضع المعيشي في تونس.

وما يزيد هذا الأمر خطورة، هو إعراض الدولة التونسية عن ضمان حق الليبيين في الإقامة بتونس لفترة لجوئهم الإنساني. ولم يحاول الجانب التونسي الرسمي إيجاد أي آلية قانونية ميسرة لليبيين في تونس تراعي خصوصية أوضاعهم وحساسيتها، وفي الوقت ذاته تضمن حق تونس كدولة حاضنة من الناحية الأمنية والاقتصادية بالتوازي مع حفظ حقوق الليبيين كمقيمين وحمايتهم.

هشاشة الوضع القانوني لليبيين بتونس
يلزم  الفصل 9 من القانون المنظم لحالة الأجانب بالبلاد التونسية[6] الأجنبي الذي يقيم بتونس مدة تتجاوز الثلاثة أشهر مستمرة  أو مدة ستة أشهر متقطعة خلال سنة واحدة “أن يتحصل على تأشيرة وبطاقة إقامة مؤقتة”. فيما ينص الفصل 23 من القانون ذاتهعلى عقوبة قد تصل الى سنة حبس للأجنبي الذي لا يطلب تأشيرة إقامة ضمن الأجل القانوني. كما يلزم التشريع التونسي من يستعمل سيارة أجنبية بتونس لمدة تفوق الثلاثة أشهر بإخضاع سيارته لنظام التوريد الوقتي.

ويلاحظ أن الليبيين المقيمين بتونس لم يُمنحوا إقامات قانونية رغم تقديمهم طلبات رسمية وفقاً للإجراءات المتبعة ورغم أن مدد إقاماتهم تجاوزت التحديد القانوني “للزيارات السياحية”. وظلوا يستعملون سيارات تحمل لوحات مرقمة ليبية في مخالفة يمكن ملاحظتها بسهولة للقوانين التونسية.
ويبدو للوهلة الأولى تجاهل السلطات التونسية لإنفاذ قوانين الإقامة وتوريد العربات في حق الليبيين تسامحاً منها تجاههم يندرج في إطار توفير حسن الضيافة لليبيين. إلا أن تجاوز ظاهر الأمر والبحث في آثاره يبين أن إهمال تسوية الوضعية القانونية لليبيين بتونس يجعل منهم في وضعيات هشة قانونياً تمنعهم من المطالبة بأي حق وقد تدفعهم للخضوع لكل عمليات الابتزاز التي قد يتعرضون لها. وقد يكون أقل هذه العمليات طلبات الارتشاء ممن يراقبون قوانين الجولان والإقامة والذي أصبح عادة يومية يعاني منها الليبيون المقيمون بتونس. فما إن تسير بسيارة ليبية في شوارع تونس حتى تتعرض للإيقاف المتكرر من قبل رجال الأمن. وتبدو هشاشة الوضعية القانونية للمهجرين الليبيين بتونس أكثر حدة في حالة من يصنفون في خانة أنصار نظام العقيد معمر القذافي. فالتصريحات الإعلامية لديبلوماسيين ليبيين تؤكد أن هذه الفئة تتحاشى الاتصال بالمصالح الديبلوماسية الليبية بتونس خوفاً من حجز وثائقها[7]، الأمر الذي قد يؤدي إلى حرمانهم من تجديد وثائقهم الإدارية.

وهذا الأمر المرجح حصوله بالنسبة الى العديد من الأشخاص سيؤدي مع طول إقامة الجانب الأكبر منهم إلى حرمانهم من حقهم الأصلي والطبيعي في التنقل، بما يحوّلهم إلى رهائن بالبلاد التونسية ليس بوسعهم مغادرتها.

كما لم يتمتع الليبيون النازحون لتونس بمعاملة إدارية تمكنهم من إقامة قانونية وتضمن تلاؤم وضعهم مع القوانين السارية. كما قصرت الحكومات التونسية المتعاقبة في إرساء نظام تشريعي ينظم الحق في اللجوء السياسي والإنساني، بل عجزت السلطات الرسمية في إصدار تشريع ينظم وضعية الإقامة القانونية تُراعى فيه خصوصية هذه الفئة وطبيعة المرحلة الانتقالية التي تعاني منها ليبيا.

وأدى هذا التقصير الى حرمان من كانوا في وضعيات لجوء سياسي فعلي من التمتع بحقوق اللاجئين ليستمر وصفهم في الخطاب الرسمي بالإخوة والضيوف. وبالواقع، تحولت هذه الضيافة إلى قيد على “الحق في اللجوء” وباتت غطاءً لتوجّه سياسي بترك الملف الليبي في تونس من دون معالجة قانونية، ليتسنى توجيهه بما يتلاءم مع تطورات الوضع الليبي مستقبلاً.

وما يزيد الأمر تعقيداً هو ضعف مؤسسات الدولة الرسمية في ليبيا وعدم قدرتها على متابعة جاليتها المقيمة في تونس والضغط على الجانب التونسي لاقتراح معالجات وحلول وتفعيل الاتفاقية الثنائية للإقامة بين البلدين الموقعة في طرابلس سنة 1961 والتي تحتج تونس دائماً بمبدأ المعاملة بالمثل فيها وإهمال ليبيا لها لعدم تنفيذها. ويضاف الى ذلك عدم قدرة السفارة الليبية بتونس على حلّ مثل هذه الأزمات.

وبالخلاصة، تجد اليوم الحكومة التونسية نفسها أمام استحقاق أساسي: معالجة ملف إقامة الليبيين معالجةً قانونية ورسمية تُراعى فيه خصوصية العلاقة بين البلدين والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتشابكة بينهما، بما يوفر حماية قانونية لهم تحول دون استغلالهم والتمييز السلبي في معاملتهم في الدوائر الرسمية. وهذا استحقاق يجب أن يكون من ضمن أولويات الحكومة التونسية الجديدة حتى لا تتفاجأ يوماً ما بانفجار مشكلة قد تصعب معالجتها.

* قاض، رئيس المنظمة الليبية للقضاة
* قاضٍ تونسي

نشر في العدد واحد من مجلة المفكرة القانونية في تونس

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط


[1]تصريح وزير الخارجية التونسي السابق السيد منجي الحامدي لموقع بوابة أفريقيا الاقتصادية بتاريخ 22/11/2014.
http://www.afrigatenews.net/content
[2]حرص الخطاب الرسمي التونسي على الخلط بين الوافدين الليبيين لتونس سنويا والليبيين الذين يستقرون بها اضطراريا. فذكر المسؤولون الحكوميون ان مليوني ليبي تقريبا يستقرون بتونس فيما يؤكد الناشطون الحقوقيون الليبيون بتونس ان تعداد الليبيين الذين يستقرون دائما بتونس لا يتجاوز في أقصى الحالات ثلاثمئة ألف شخص وأن رقم مليوني شخص يتعلق بالوافدين الليبيين سنويا على تونس.
[3]يراجع في هذا الإطار كنموذج تحقيق صحافي “الأزمة في ليبيا والمعاناة في تونس .. الأسعار تكوي .. الكراء يلتهب .. التضخم يتضخم والطلبة الضحية ..”- إعداد السيد محمد صالح الربعاوي – صحيفة الصباح التونسية- 11 أوست 2014.
[4]يراجع تصريح وزير الخارجية التونسي منجي الحامدي السابق ذكره.
[5]يراجع مقال” تونس على عتبات الجحيم الليبي” –نور الدين بن الطيب- الاخبار اللبنانية –  ٢ أوست ٢٠١٤.
[6]القانون عدد 7 لسنة 1968 المؤرخ في 8 مارس 1968 المتعلق بحالة الأجانب بالبلاد التونسية.
[7]تصريح الملحق الثقافي بالسفارة الليبية لجريدة المغرب التونسية بتاريخ 15/12/2014، نشر في مقال بعنوان: “النازحون الليبيون في تونس التعليم …صعوبات اللجوء …وحلم العودة”.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة تونس ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني