لاجئون فلسطينيون في مخيّمات لبنان: 75 عامًا على خروجنا “المؤقّت”


2023-11-23    |   

لاجئون فلسطينيون في مخيّمات لبنان: 75 عامًا على خروجنا “المؤقّت”
رسم رائد شرف

شاء القدر لأبناء وأحفاد من هُجّر من فلسطين قسرًا في العام 1948، أن يروا على الهواء مباشرة وعلى أرض غزة قصصًا تشبه قصص هجرة آبائهم وأجدادهم التي لا يكفّون عن روايتها لهم كي لا ينسوا. وجمعت لهم إسرائيل في مشهد واحد، فصول قصّة قتل وتنكيل وترهيب وتهجير قسري وإبادة مستمرّة منذ عشرات السنين. هكذا يرى بعض اللاجئين الفلسطينيين من الذين هُجّروا من منازلهم قبل 75 عامًا ليستقرّوا في مخيّمات في لبنان، ما يحصل في غزّة. يتحدّث هؤلاء عن ذكرياتهم في فلسطين، عن ترهيبهم، عن التنكيل بأهلهم، عن تدمير قراهم وعن إخراجهم من أرضهم بوعدٍ بالعودة لم يتحقّق وبقي حبرًا على ورق. ولم تنفع معه لا 25 ورقة “كواشين” يحملها الحاج محمود إسماعيل (89 عامًا) لملكيّة أرض  في المغار وجبل سعد والحريقة وأبو الشبا، ولا المفتاح الذي احتفظت به والدة الحاجة أم أكرم الجمّال (87 عامًا) لبيت هُجّرت منه في قرية شعب، ولا حتّى بقايا منكوش لطالما استخدمه والد الحاج عبد المجيد العلي (87  عامًا) لزراعة بساتين الزيتون في  قرية كويكات.

ليس مشهد الانتقال من شمال غزّة إلى جنوبه وحده ما أعاد هؤلاء إلى العام 1948 حسب آمنة ضاهر (78 عامًا) هي التي حُملت طفلة قبل 75 عامًا على كتفي أخٍ سار فيها من دير القاسي إلى لبنان تمامًا كما رأينا قبل أيام في غزة أخوة يحملون أخواتهم على أكتافهم في خروج قسري بعدما لم يترك لهم العدوان الإسرائيلي أيّ متنفّس للبقاء على قيد الحياة. فهناك أمور أخرى تختصر في تفاصيلها “ديدن” الاحتلال (طبيعته) كما تقول. فكما تُقصف المدارس والمساجد والبيوت الآمنة في غزّة بحجّة تواجد مسلّحين تحتها، قُصف منزل آمنة قبل 75 عامًا بحجّة وجود مسلّحين في مدرسة قربه. وكما يُقتل آلاف الأطفال تحت منازلهم في غزة قُتلت أخت آمنة، وكما خرج أطفال من تحت الركام أحياء مع حمل ثقيل يرافقهم كلّ حياتهم خرجت آمنة، وكما حملت آلاف الأمهات أولادهنّ المصابين بحثًا عن مستشفى حملت والدة آمنة ابنتها المصابة على كتفها الأيمن بحثًا عن مستشفى يداويها، وكما يحمل آلاف الأهالي أطفالهم الشهداء في غزة وساروا بهم كمن يسير في كابوس، حملت ابنتها الثانية الشهيدة على كتفها الأيسر وسارت بها.

التغريبة الفلسطينية (صورة أرشيفية)
النزوح القسري للفلسطينيين من شمال غزة في العدوان الحالي (وكالة وفا)

25 ورقة كواشين: نعم لنا أرض في فلسطين

الحاج محمود إسماعيل (89 عامًا) مخيم شاتيلا

“كنت طفلًا لم يتجاوز الـ 14 من العمر، قالوا لنا يومًا أو يومين وتعودون، وها أنا أقترب من سنواتي التسعين، لا أنا عدّت إلى الديار ولا الديار عادت إلينا” يقول الحاج محمود إسماعيل (مواليد 1934) وهو يحمل كيسًا صغيرًا بعناية واضحة دفعتني إلى أن أسرع في سؤاله عمّا يخبّئه داخله.

“هذه 25 ورقة كواشين لأرضي في فلسطين، في المغار وجبل سعد والحريقة وأبو الشبا”، يُجيب، مضيفًا: “إذا ذهبت الآن على عكّازي هذا (مشيرًا إلى عكّازه) أستطيع أن أدلّك على الأرض، أحفظها عن ظهر قلب، كيف لا؟ وأنا من كنت أحمل منها قمحًا وشعيرًا وكرسنّة، وهي لا تزال هناك، الأرض ما بتمشي يا بنتي، إلى أين ستذهب، هي لي وهذه أوراقها”.

يُخرج الحاج محمود الأوراق من الكيس ويُشير بيده إلى عبارة  كُتب في رأس كلّ واحدة منها “حكومة فلسطين” وتحتها مباشرة عبارة “شهادة تسجيل” ومن ثمّ ينزل يده إلى أسفل الصّفحة ويقرأ التاريخ: 17 أيلول 1947 ويُضيف: “لا زلت أجيد القراءة وأنا الذي تعلّمتها في فلسطين على يد أستاذ أحمد وأستاذ أمين”.

يبتسم الحاج محمود وهو يذكر أسماء أساتذته. يعود إلى الطرقات التي كان فيها طفلًا، يُخبرني كيف كان يخرج من قريته كفرعنان (قضاء عكّا) ويمشي إلى قرية الفرّاضيّة حيث توجد مدرسة لتعليم القرآن لأنّه لا يوجد مدرسة في قريته. يصمت قليلًا ويقول: “تُريدينني أن أعود إلى اليوم الذي تركت فيه فلسطين؟ أنا لا أزال هناك طفلًا أزرع القمح أوزّعه على البيادر لأدرسه، لا زلت أرى نفسي أفلح الأرض وأمامي البقرتين، لا زلت أذكّر دارنا، كان الدار جزءًا لأبي وجزءًا لعمّي ولكنّنا كنّا نأكل معًا كدار واحدة”.

يروي كيف كان يعمل في الأرض: “لمّا كان يخلص الطحين إطلع ع صفد إطحن القمح، وعشان الزيتون نطلع على المغار”. يشرد قليلًا ثمّ يقول: “بتعرفي كانوا جيرانّا يهود وكنّا شركة معهم في الرزق، ما كان في خلاف بينّا، يوم اللي إجوا اليهود من دول العالم تخبّوا جيرانّا في بيتهم”.

الحاج محمود إسماعيل وأوراق ملكية أرضه التي هُجّر منها

يتنهّد الحاج محمود، يُعدّل جلسته، ويقول: “كنّا في العام 1948 أذكر أنّنا كنّا في الصيف، بدأ الصهاينة يطوّقون القرية، دخلوا البيوت وأخرجونا منها، وضعوا النساء في جانب والرجال في جانب والمسنين والأطفال في جانب، أذكر جيّدًا أنّه كان معهم سيّدة بلباس مدني تقف جنبي تحمل سلاحًا وتتكلّم العربيّة، سألتها إلى أين سيأخذوننا فأجابتني عند الملك عبدالله، لم أكن أعرفه، فقالت إلى الأردن ستذهبون”.

يخبر الحاج محمود أنّهم أخذوا جزءًا من الرجال إلى السجن وجزءًا قتلوه أمام أعين من كان في الساحة، ومن ثمّ طلبوا منهم أن يمشوا وهم محاطين بالمسلّحين الصهاينة من كلّ الجهات: “مشى معنا أناس من قرية ساجور القريبة، كانوا جمّعوهم أيضًا، كان ممنوعًا علينا أن ننظر يسارًا أو يمينًا حتّى أنّ من يشعر الصهاينة أنّه يحاول التحرّك خارج الصفّ يُقتل مباشرة. قتلوا شابًا أمام عينيّ، كان يمشي أمامي، وقتلوا شبابًا من القرية بدم بارد، وأخرجونا من القرية، بالقوّة والترهيب”.

يذكر الحاج محمود الخوف في عيون الأطفال والنساء لحظة دخول الصهاينة القرية، “لا أستطيع أن أنسى مشهد سيّدة كانت تحمل رضيعًا وعندما بدأ الرصاص وضعته تحت شجرة الزيتون وركضت، ربما نسته بسبب الخوف، لا أنسى كيف كانوا يقتلون شباب القرية فيرتمون واحدًا فوق الآخر، كان المشهد مرعبًا، خرجنا على أساس أن نعود وإلى اليوم لم نعد”.

يروي الحاج محمود كيف كان يجرّ أخاه الأصغر منه على الطريق، كيف كان يشعر بالعطش وكيف وجد وسادة على الطريق فحملها معه. مشى مع أبناء قريته من النساء والأطفال والمسنّين مدّة يومين حتّى وصلوا إلى الحدود اللبنانيّة، وقبل أن يدخلوا لبنان قرّرت والدته العودة إلى بيتها. “أخبرتني بأنّها سمعت من أحد على الطريق أنّهم غادروا القرية فعادت لتحمي البيت وتركتنا ندخل إلى لبنان مع والدي الذي كان اختبأ ثمّ لاقانا في الطريق، على أمل أن نعود إليها”.

لم يعد الحاج محمود وعائلته إلى أمّه ولكنّ أمّه عادت إليهم بعد أسبوعين من دخولهم قرية رميش اللبنانيّة لتخبرهم بأنّها لم تجد شيئًا في البيت فقد سرقوا الدجاج والبقر وأثاث المنازل، وأنّ القريّة باتت شبه فارغة.

انتقل العائلة وعدد من العائلات التي كانت وصلت قبلهم إلى رميش، إلى بنت جبيل حيث سكنوا في المسجد قبل أن يتمّ نقلهم إلى برج الشمالي في صور.

“في برج الشمالي عطيونا خيمة وبعدها نقلونا إلى عنجر في مبانٍ كانت مخصّصة للأرمن المهجّرين مثلنا، وبعدها نقلونا إلى البارد ومنه إلى تلّ الزعتر وبعدها استقرّينا في مخيم شاتيلا”، يقول الحاج محمود وهو يُعيد أوراقه إلى الكيس، مضيفًا: “بدّي جلّدن، يا ريت لم نترك قريتنا، أولاد عمي بقيوا هناك، ليس في القرية نفسها، لقد هدّموها كلّها وهجّروهم إلى منطقة أخرى، حتى ما يستعملوا رزقن، ما بدّن ولا دليل يا بنتي، بس هول الأوراق موجودين، تفضّل يا نتنياهو”.

منكوش أبي وصرارة سندت يومًا بيتًا لنا

عبد المجيد العلي (87  عامًا) مخيّم برج البراجنة

لا يحمل الحاج عبد المجيد العلي أوراقًا تُثبت ملكيّة منزله في فلسطين مثل الحاج محمود إسماعيل، ولكنّه يُخبّئ في خزانته بقايا منكوش والده وصرارة بيته (حجر أملس يستخدم لسند الحجر الأساسي في البناء) أحضرهما معه من قريته كويكات (قضاء عكا) التي عاد إليها ولكن زائرًا قبل 46 عامًا وبعد 29 عامًا على تهجيره منها، بالإضافة إلى صورة يضعها في غرفته التقطت له في فلسطين مع أبناء عمومته.

عندما دخلت إلى منزله الكائن في مخيم برج البراجنة أخرج عبد المجيد العلي (مواليد 1936) دفترًا صغيرًا وبدأ يسألني عن اسمي الكامل وعن مكان عملي ومسقط رأسي، دوّن المعلومات على الدفتر. وقبل أن أستفسر عن السبب أجابني: “أدوّن على هذا الدفتر كلّ مقابلة أجريها، يُريحني أن أتحدّث عن فلسطين التي هُجّرنا منها، هذا أقلّ ما يمكنني فعله”.

يتعامل عبد المجيد مع هذا الدفتر كوثيقة تروي قصّة خروجه من فلسطين في حال لم يعد هو نفسه قادرًا على روايتها، هو أخبر قصّته لأحفاده الـ 103 وأخبرها على بعض شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، وهذا كلّه موثّق على هذا الدفتر، كما يقول.

يجلس في غرفته يُتابع أخبار غزّة، يُشاهد الرجال والنسوة والأطفال يحملون بعضًا من أغراضهم وينتقلون من شمال القطاع إلى جنوبه، يسيرون جماعة. يعود بذاكرته طفلًا يُمسك ذيل فستان والدته خارجًا مع من خرج من بلدته، ماشيًا مع من مشى، على طريق اعتاد أن يمشيها إلى مدرسته وتلك المرّة مشاها إلى جهة مجهولة عرف لاحقًا أنّها لبنان.

“أذكر أنّنا كنّا تحت الانتداب البريطاني، كنت طفلًا في الثانية عشرة من عمري، تلميذًا في مدرسة المعارف، قالوا اليوم لا مدرسة، بريطانيا ستنسحب، والحرب على الأبواب” يقول عبد المجيد ثمّ يُخبرنا بأنّه وأبناء جيله كانوا يرون ويسمعون عن هجرات اليهود من العالم إلى فلسطين، وكان هؤلاء القادمون يسكنون في أماكن يسمح بها البريطانيون، يذكر منها 3 مستعمرات كانت قرب الشاطئ الذي يبعد عن كويكات ساعة مشيًا.

سأل عبد المجيد الطفل “مع من الحرب ستكون؟ أو بين من ومن؟”، فهم كفلسطينيين كانوا ممنوعين من حمل السلاح ومن كان يُضبط حاملًا سكّينًا كان يُعاقب، لكن سؤاله لم يجد إجابة. يذكر التاريخ: 22 أيار 1948، بدأت معارك في يافا وبدأ أهل قريته يسمعون أصوات المدفعيّة والرشّاشات، وبدأت الأخبار تصل إلى قريته بأنّ اليهود احتلّوا حيفا وتوجهوا إلى عكا وباتوا قريبين من قريته. فاجتمع مختارا الضيعة واتفقا على إخراج النساء والأطفال وإبقاء الرجال للدفاع عن القرية.

خرج عبد المجيد مع والدته، مسك ذيل فستانها بقوّة كما يقول وتوجّها إلى منطقة أبو سنان قرب كفر ياسين مكان مدرسته التي ظنّ أنّه سيرتادها مجدّدًا، ولكن الأمر لم يحصل. بقي عبد المجيد ووالدته في منطقة أبو سنان أسبوعًا ينتظران خبرًا من القرية، وبعدها جاء ابن عمّه ومعه جملان وأخبرهما بأنّ لا عودة قريبة وأنّ الوجهة ستكون إلى لبنان إلى بلدة العبّاسيّة حيث يسكن أقارب لهم لبنانيون.

“حمّل ابن عمّي فرشًا وملابسنا على جمل، وأنا واثنين من ولاد عمي ركبنا على الجمل الآخر الذي حمل أيضًا صندوقين، جلست اثنتان من أخوتي في أحدهما وأولاد عمي الأصغر سنًّا منّي في الآخر، وسرنا”، يقول.

يذكر عبد المجيد الطريق جيدًا ويروي كيف كانت وعرة ولا تتّسع إلّا لشخص واحد، وأنّ الجمل الذي كان يحمله وقع بعدما لم يستطع تخطي درج صغير حجري، ويقول: “وقع الجمل وأُصيب أحد أبناء عمّي، غاب عن الوعي في منطقة الجت، أذكر حتّى اللحظة صراخ النساء وبكاءنا نحن الأطفال خوفًا عليه أو من مجهول ينتظرنا، بتنا ليلة في الجت وبعدها أكملنا المسير إلى أن وصلنا إلى دير القاسي، وبعدها قطعنا الحدود ووصلنا إلى رميش، كلّه مشيًا على الأقدام”.

من رميش حيث بات مع والدته وشقيقتيه وأبناء عمّه في أحد منازل القرية التي استقبلتهم، انتقلوا بسيّارة “بيك آب” إلى العبّاسيّة. وبين رميش والعبّاسيّة يذكر عبد المجيد حادثة مؤلمة، ويقول: “ونحن نهمّ بمغادرة رميش، نادانا رجل وطلب منّا التوقف، توقّفنا، نزل عمّي ليجد الرجل وبجانبه طفلة صغيرة يقول إنّنا نسيناها، نظر عمّي إليها وقال هذه ليست معنا، ليتبيّن أنّ أهلها أضاعوها على الطريق، نسوها من الرعب والتعب”.

يذكر عبد المجيد اسم الطفلة “آمنة البياعة، وأذكر أننا أخذناها معنا، وأنها عادت ووجدت أهلها، كانت لحظات رعب” يقول وهو يبكي “أخبار المجازر الصهيونية التي كانت تصلنا من قُتل بدم بارد أرعبتنا”.

في العبّاسية سكن عبد المجيد أولًا في بيت علي ياسين شقيق الشيخ خليل ياسين والد فاطمة زوجة حسن نصرالله أمين عام حزب الله كما يقول.

وبينما كان عبد المجيد وعائلته ينتظرون خبرًا للعودة إلى ديارهم لحق بهم والده وعمّه وأخبراهم بأنّ اليهود ارتكبوا مجازر وأخلوا القرى القريبة من قريتهم. “أخبرني والدي أنّه في 11 تموز 1948 كان أوّل يوم رمضان، سمع الناس صوت مدفع ظنّوا أنّه مدفع السحور، لكنّهم وبعدما أصبحت الأصوات تتكرّر عرفوا أنّ اليهود يضربون قرية قريبة، وبعدها دخلوا بالدبابات إلى كوكيات وأخرجوا سكّانها، وأنّ الكابري القرية التي تحدّنا شمالًا سقطت”.

بقي عبد المجيد وعائلته في العبّاسية 6 سنوات يتنقلون من منزل إلى آخر “عمّي كان موظفًا بالشرطة، وعمي الآخر كان مختار البلد، وأبي مسؤول عن دائرة وكيل أراض فيها بستان حمضيات وزيتون، فعملنا جميعًا في الزراعة” يقول وبعدها تزوّج عبد المجيد وانتقل مع زوجته إلى مخيم برج البراجنة حيث كان “في براكيات (غرف حجر وسقف زينكو وخشب) عشنا فيها كما كان يعيش لاجئون آخرون قبل السماح لنا ببناء بيوت من حجر” يقول.

عمل عبد المجيد مع وكالة “الأونروا” لمدة 20 عامًا وكان محظوظًا كما يقول، إذ بعدما سافر إلى الأردن بسبب نقل مكاتب الأنوروا إلى هناك إثر اندلاع الحرب اللبنانيّة (1977). زار فلسطين بعد 29 عامًا من تهجيره منها. “أرسل لي أقاربي عبر أحد زملائي في العمل تصريحًا ونزلت أرض فلسطين في 12 كانون الثاني 1977”.

يتحدّث عبد المجيد عن تلك اللحظات وهو يبكي: “مشيت الطريق التي كنت أمشيها طيلة خمس سنوات لأذهب إلى مدرستي، كنت أريد أن أمشي، أن أنظر إلى جنبات الطريق إلى الزيتون والتّين، دخلت قريتي لا بيت فيها كلّه على الأرض، بدأت أعدّ البيوت: هنا كان بيت عمي، وهنا بيت جارنا، وهنا كانت الدكان، أخذت حجرًا من منزلي ومنكوش أبي وجدته تحت الركام مكسّرًا، نحن أصحاب الأرض نحن من كنّا نزرعها” يقول.

يحمل عبد المجيد الحجر الذي دوّن عليه تاريخ عثوره عليه ويخبرنا بأنّه أحضره “ليعرف أحفاده والعالم بأنّ لنا بيتًا في قرية اسمها كويكات في فلسطين، ولنا أرضًا كنّا نزرعها، ولنا مدارس ومساجد هدموها كما يهدموها حاليًا في غزّة”.

من كويكات ينتقل عبد المجيد إلى غزّة ويقول: “نحن شاهدنا المجازر والتهجير مرّة بأم العين ومرّات على شاشات التلفزة، مضى 75 عامًا على تهجيرنا، وأمل العودة لا يزال يراودنا، لا خروج مؤقّتًا، خروجنا طال”.

أذكر عتمة البئر التي أنقذتني والتّينة الكبيرة

أم أكرم الجمّال (87 عامًا) مخيّم برج الشمالي

“متل واحد عم يضحك ع واحد، الناس اللي طلعت بالـ 48 كانت مصدّقة العودة، بس ما عاد حدا رجع، وهالشي علّم الصغير قبل الكبير. إلنا 75 سنة ولا حقّ لنا بالعودة، الفلسطينيون ما بقى صدقوا حدا، كل واحد بيحكي عن خروج مؤقّت بدنا نصدقوا؟ نحن صرنا نعرف قضيتنا أكتر من كل الناس، اللي بيقلّنا طلعوا وبعدين صلح أو تقسيم أو عودة كذّاب” تقول الحاجة أم أكرم الجمّال (مواليد 1936) عندما نسألها عن غزّة، ومن ثمّ تخفض رأسها وتمسح دموعها وتُضيف: “القتل والإبادة والترهيب والتهجير، قصف منازلنا ومدارسنا ومساجدنا، هكذا يحاولون أخذ أرضنا منّا منذ 75 عامًا ولم ينجحوا بعد، هذا ما أخبره لأحفادي وأبدأ من الـ 48 لأصل إلى غزّة”.

تخبرنا الحاجة أم أكرم (حنيفة صالح) أنّها تشتاق للذهاب إلى قطاف التين في قريتها شعب (قضاء عكا) حيث كانت النسوة يردّدن في الطريق ذهابًا وإيابًا ردّيات عن القطاف: “كنت صغيرة، أسير وراء النسوة، وأردّد ما يردّدن من أغاني عن قطاف التّين، تلك الردّيات الجميلة التي لا تشبه ما ردّدناه عندما وصلنا إلى لبنان حين قلنا: “طلعنا براس تلّة ومِن حرَمَنا … شوف العين منهم وانحرمنا… يا بو فلان دير بالك على حرمنا.. ترى إنتو الحاضرين ونحن الغيّاب”. وتُضيف: “أمّي أكيد كان معها مفتاح باب الدار، كيف لكن، مش هيّ قفلته وخافت على الرّزقات”.

الحاجة أم أكرم الجمّال التي هجّرت مرّتين

من طريق قطاف التين تعود أم أكرم إلى يوم تهجيرها الأوّل من فلسطين وهي ابنة الـ 12 عامًا. وتروي أنّه “في صيف 1948 وقعت معركة في منطقة البروة القريبة من قريتها شعب وهجّر أهلها وبعدها احتلّ اليهود ميعار القريبة من شعب أيضًا، ومن ثمّ دخل اليهود القرية على الدبابات وخرجت معظم العائلات من شعب”.

توجّهت عائلة أم أكرم إلى البعنة حيث كانت تسكن عمّاتها، أمّا هي فبقيت مع جدّتها العاجزة وجدّها البالغ 113 عامًا، مدة 4 أشهر، قبل أن تلحق بأهلها إلى البعنة حيث لم تطل إقامتها إذ عاد الصهاينة ودخلوا القرية مرتكبين الجرائم والترهيب.

“قالوا الرجال إلى السجن، والنساء على جنب، صاروا يقوّصوا، أخدوا تنين رجال وقوّصوهن أمامنا ليرعبونا، صاروا يقوّصوا بين البيوت، تركنا القرية وتوجّهنا إلى عين ساجور، تاركين جدتي التي لم تكن قادرة على المشي، خرجنا إلى حرفيش ومن ثمّ طلعنا إلى رميش، أحضروا السيارات وأخذونا إلى بيت ياحون”.

تروي أم أكرم مشقّة الطريق، وكيف كانوا يبحثون عن ماء وخبز ليأكلوا، وتقول إنّ أكثر ما علق في ذاكرتها مشهد ولادة طفل على الطريق: “وضعت امرأة طفلها على الطريق، اسمها لبيبة أذكرها جيّدا، أذكر كيف نزل الطفل، كيف قطعوا  حبل السرّة  بالحجر وربطوه بخيطان أخرجتها النسوة من أثوابهنّ، ولفَفْنَ الطفل بشطفة (غطاء للرأس) وزنار وأكملنا طريقنا”.

بعد ثلاثة أيّام من المشي وصلت أم أكرم إلى مسجد بيت ياحون مع عائلتها ومع من تركوا القرية، وبعدها نُقِلوا إلى مخيّم صور “كنّا 12 نفَر بالشادر، كان في شوادر فاضية، وكل عائلة تأخذ شادرًا” تقول.

بعد 8 أشهر من وصولها إلى صور عادت أم أكرم إلى فلسطين مشيًا على الأقدام مع أحد أقربائها لتخدم جدّتها. بقيت مع جدّتها في منزلها في جوّ ملؤه الرعب كما تقول: “كان الصهاينة يمرّون بين البيوت ويرعبونا، كنا نخاف أن نذهب إلى التحطيب حتّى، كانت النسوة يخلعن أخذيتهنّ عندما يمشين في الشوارع خوفًا من إصدار أي صوت”.

 بعد أشهر عادت عمّات أم أكرم إلى فلسطين لأنّ أحدهم أخبرهنّ أنّهم سيُعيدون الناس بعد إعطائهم أوراقًا ثبوتيّة، ولكنّ ما حصل أنّه بعد أيام من وصولهنّ، جمّع الصهاينة الناس في في ساحة البلدة، قتلوا من قتلوا منهم، وقالوا إنّهم سيعيدون من بقي إلى الأردن. “أذكر أنّ أحد الأشخاص أخذني وأنا طفلة ونزلنا إلى بئر، جلسنا على أطرافها والماء تحتنا مباشرة، أذكر أننا كنا ربما 13 شخصًا، بقينا في البئر حتى الصباح، سمعت المسلحين يقولون هناك مخرّبون في البئر، شعرت بقلبي يتوقّف ولكنّهم رموا السطل فسمعوا صوت الماء ومشوا”.

في اليوم التالي عادت أم أكرم ومن معها إلى رميش وبعدها إلى عنجر حيث انتقلت عائلتها، قبل أن تستقرّ في مخيّم برج الشمالي.

تُغمض أم أكرم عينيها، ترفع يدها بفرح طفلة وتخبرنا عن منزلها في شعب، عن مضافة تبقى مليئة بالناس، عن زائرين إذا ما تأخروا يبيتون عندهم: “بيتنا 6 قناطر و3 عمدان، وسيع وفيه كل شي، بقينا عايشين أحلى عيشة، إلنا الزيتون وإلنا الأرض والزيت كنّا ما نحطّوا ببراميل، يشهد الله نحطّه بالبتّية (برميل ضخم من الخشب) وإلها حنفية، يجوا الناس يشتروا الزيت من عنّا، وأمي تكيّل، يقلولها تكييلك يا أم إبراهيم ما في منّه، كانت تسخَى، كان أخوي يوخد التين على يافا ويبيعو، وعلى عكا يوخد القمح، الخير كتير، ما كنا نشتري حتى العدس، كان خوابي خوابي”.

تخبرنا أم أكرم أيضًا كيف كانت فلسطين وجهة عمل لعمّال ومزارعين من لبنان وسوريا، تحدّثنا عن جميل المبيّض (مبيّض النحاس) وزوجته اللذين يأتيان من لبنان ويدوران في أحياء شعب: “كانت الناس تأتي وتذهب على الحمار، ومن وضعه الاقتصادي أفضل كان يذهب على الفرس” تقول.

بعد 35 عامًا من تهجيرها، عادت أم أكرم إلى عند أقاربها عن طريق الصليب الأحمر الدولي وبعد حصولها على تصريح زيارة، بقيت هناك 42 يومًا، تمنّت خلالها أن تموت هناك لتدفن في أرضها. تروي كيف كانت تشمّ رائحة الأماكن، وكيف كانت تنظر إلى كلّ ما حولها: “أردت فقط أن أركّز الصورة التي في رأسي عن بلدي، لأنقلها جيدًا إلى الجميع، إلى أولادي وأحفادي. لا بدّ أن أخبر الصغير والكبير عن أرضنا وخيراتها، إذا سكتنا ستنسى الأجيال المقبلة فلسطين”.

عندما عادت أم أكرم إلى فلسطين طلبت من أقاربها الذين كانوا هجّروا من قريتهم أن يأخذوها إلى قريتها وتحديدًا إلى شجرة تين تحفظها عن ظهر قلب كما تقول: “البيوت لم تعد موجودة، مهدّمة كلّها، التينة لا تزال صامدة، كانت جنب دار خالتي، خالتي في الأردن والتينة هنا واقفة، هدموا البيوت ليمحوا الآثار ولكنّنا نحفظ التين والزيتون”. تقول.

ربّت أم أكرم 7 أبناء وحدها بعدما استشهد زوجها على يد الإسرائيليين العام 1975 ، واليوم أبناؤها تركوا لبنان منهم في روسيا ومنهم في ألمانيا ومنهم من هو في بريطانيا. “لو كنّا بفلسطين ربما كانوا جنبي، حتّى شقّة هنا لا يستطيعون التملّك فباتوا كلّ واحد في ديرة، لبنان احتضنّا ولم يقصّر أهله، لكنّه يبقى ليس بلدنا”.

خرجت من تحت الركام وتهجّرت عشرات المرّات

آمنة ضاهر (78 عامًا) مخيّم شاتلا

لم تنس آمنة ضاهر (مواليد 1945) يومًا صوت أمّها وهي تخبر أنّ ابنتها آمنة لا تزال تحت ركام البيت في بلدة دير القاسي (قضاء عكا)، ومشاهد أطفال غزّة وانتشالهم من تحت ركام بيوتهم يجعلها تعود في كلّ يوم وفي كلّ لحظة تُشاهد فيها أخبار غزّة، طفلةً ذات سنوات ثلاث، عالقة تحت ركام بيت، كان يومًا آمنًا.

“أتعرفين ما كانت حجّتهم؟ كانوا يريدون قصف مدرسة قالوا إنّ جيش الإنقاذ كان يختبئ فيها، ألا يذكرك هذا الأمر بشيء؟ العدو لم يتغيّر” تقول.

تروي آمنة تفاصيل ذلك اليوم مشيرةً بين الفينة والأخرى إلى أنّ أسلوب إسرائيل لم يتغيّر يومًا، قصف منازل مدنيين تدمير المساجد وتهجير السكّان قسرًا، وتقول: “كنت جالسة أنا وأخوتي وأولاد أخوالي، وفجأة قُصف منزلنا وتهدّم جزء منه، جميع من كان فيه خرج إلّا أنا وأختي الصغيرة، أخرجوا أختي ميتة، كانت الناس تسير لتترك القرية، وأمي بدأت تصرخ، ابنتي آمنة تحت الركام إلى أن أخرجوني بعدها”.

الحاجة آمنة ضاهر تقرأ رسالة كتبتها لأهل غزة

تذكر آمنة كيف حملت أمّها أختها الميتة وأختها المصابة وكيف طلبت من ابنها أن يأخذها (آمنة) عند أخوالها في عيتا الشعب بلدة جدّتها لأمها “حملت أمي أختي الميتة على كتف، والمصابة على كتف، وقالت لنا إنّها ستذهب إلى حرفيش لمعالجة المصابة، أخذ خالي أختي الميتة، حفر لها تحت زيتونة كانت جنب البيت ودفنها، كان يوم ميلادها، في ذلك اليوم ولدت وفي ذلك اليوم فُطمت، وقتلت، هكذا كانت تردّد أمي”.

على كتفي أخيها، طفلة لا تتجاوز سنواتها الثلاث، وصلت آمنة إلى عيتا الشعب المنطقة التي كانت محطّة التهجير الأولى كما تقول، لتعود وتتهجّر بعدها عشرات المرّات. فقد انتقلت من عيتا الشعب إلى بعلبك ومن ثمّ إلى برج الشمالي  وبعدها إلى دير الأحمر لتصل إلى تلّ الزعتر الذي خرجت منه وعائلتها رافعة الأعلام البيضاء، في مشهد يُشبه خروج أهل غزّة اليوم من شمالها إلى جنوبها كما تقول. “مزّق أبي حرامًا أبيض ولفّه على عصا، مشينا حاملين الراية البيضاء، وذهبنا إلى الدامور، كم هجرة وهجرة عشنا قبل أن نصبح لاجئين في مخيّم شاتيلا”. تقول.

تعود آمنة بذاكرتها إلى بلدتها، تتحدّث عن بساتين زيتون كانوا يعتاشون من زيتها، يأخذها والدها إلى المدن ليبيعها، بينما يذهب أخوها إلى يافا يشتري الليمون ليبيعه في قريتهم، ولكن أكثر ما يعلق في ذاكرتها هو مشهد والدتها وهي تشكّ الدخان وتنشره ليجفّ.

بعد تحرير جنوب لبنان في العام 2000، توجّهت آمنة إلى قرية الضهيرة الجنوبيّة الملاصقة لفلسطين، دخلت على امرأة  تجلس قرب دارها تشكّ الدخّان، طلبت أن تساعدها. “سألتها فيني شك دخّان، عرفت من لهجتي إنّي فلسطينيّة، سألتني من أيّ قرية إنت؟ أجبت من دير القاسي. جلست جنبها، عدّت صغيرة أساعد والدتي في دارنا في دير القاسي، وقبل أن أودّع السيّدة أخذت من عندها سنابل قمح، سنابل الضهيرة تشبه سنابلنا”.

عندما عادت آمنة ذلك النهار إلى منزلها وضعت السنابل في وعاء مخصّص للأزهار، جمّعت أحفادها وأخبرتهم قصّة قمح ودخان دير القاسي، علّهم يخبرونها لأحفادهم، كما أخبرت هي قصّتها لأحفادها، مع أمنية متكرّرة أن تكون النهاية في فلسطين”.

لقراءة التحقيق باللغة الانكليزية

نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لقراءة العدد بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني