كي لا تفلت جرائم بيدوفيليا الكهنة من العقاب


2021-12-03    |   

كي لا تفلت جرائم بيدوفيليا الكهنة من العقاب

خلال الشهر الماضي، برز حدثان أعادا فتح النقاش حول قضايا الاعتداءات الجنسية من قبل رجال دين. 

الأوّل، تمثل في الحكم الصادر في 8/11/2021 عن محكمة جنايات فرنسية بسجن المونسنيور منصور لبكي من الكنيسة المارونية على خلفية إدانته بجرائم اغتصاب وتحرّش جنسي بحقّ قاصرات. أمّا الثاني، فتمثل في وفاة الأرشمندريت بندلايمون إبراهيم فرح في 28/11/2021، وهو كاهن في الكنيسة الأرثوذكسية تمّ نفيه من لبنان في العام 2017 بموجب قرار كنسي تأديبي على خلفية قيامه بأفعال منافية للحشمة بحقّ قاصرين.

في كلتا القضيّتيْن، تعرّض الأشخاص الذين أدلوا بتعرّضهم لتحرّش واغتصاب من قبل هذين الرجلين لحملات مُمنهجة من التهديد والتشكيك في مصداقيتهم وصولاً إلى اتّهامهم بالانخراط في مؤامرات ضدّهما بل أيضاً ضدّ الكنيستيْن المارونية أو الأرثوذكسية اللتيْن ينتميان إليها لغايات مشبوهة. لم تأتِ هذه الهجمات فقط من أشخاص مقرّبين من الرجلين بل أيضاً من عدد من “المؤمنين” والذين سعوا إلى تصوير هذه الادّعاءات ضدهما على أنّها استهداف لهاتيْن الكنيستيْن. وقد عبّرت هذه المواقف المتشنّجة والتي لم تخلُ من العنف عن حساسيّة شعبيّة حيال التعرّض لـ “مقامات” دينيّة بما يمنحها حصانة واقعية وضمانة للإفلات من العقاب، ويحوّل بالنتيجة أي ضحية تتجرّأ على كسر الصمت إلى متّهم ومعتدٍ. وقد بدتْ في هذا المحل السّلطة المعنوية والدينية أداةً تُمكّن أصحابها ليس فقط من ارتكاب أفعالهم بل أيضاً من الإفلات من أي مساءلة عنها. حتى أنّ لبكي لم يتردّد في مقاضاة ضحاياه بجرم الافتراء والذمّ به، مستفيداً من مرور الزمن العشري على أفعال البيدوفيليا المعزوّة له وفق القانون اللبناني. 

في هذا السياق، شكّل الحكم الفرنسي الصادر بحقّ لبكي نقطة تحوّل في الخطاب العامّ حول هذه القضايا ليس فقط لأنّه أنصف ضحاياه من خلال تثبيت حقيقة قضائية بل أيضاً لأنّه أضعف الحملات الممنهجة ضدّهم بعدما جرّدها من أي مشروعية. وهو ما عبّرت عنه بوضوح الناجية مارلين غانم خلال مقابلة على قناة “الجديد”، حيث توّجهت إلى مدير المركز الكاثوليكي للإعلام عبدو أبو كسم: “هلق حضرتك بتسكت، وأنا بحكي” (الآن، أنت تسكت وأنا أتكلّم). وأهدت غانم الحكم ضدّ لبكي إلى جميع الضحايا في لبنان الذين لا يزالون يلتزمون الصمت خوفاً من تواطؤ الكنيسة مع المرتكبين ومع المجتمع الذكوري. كما طالبت الكنيسة المارونية بالتوّقف عن التستّر على المرتكبين وبتقديم الاعتذار العلني لجميع ضحايا لبكي. ويؤكدّ هذا التحوّل على أهمية أن يتمتع الضحايا بحقّ اللجوء إلى محكمة مستقلة وحيادية للنظر في ادّعاءاتهم بالتعرّض للتحرّش الجنسي أو الاغتصاب، وهو الحق الذي تضمنه المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واللذين يشكّلان جزءاً لا يتجزّأ من الدستور اللبناني. 

وقد أملنا عند صدوره أن يشكّل هذا الحكم مُنعطفاً في قضايا جرائم البيدوفيليا القليلة النادرة العالقة أمام المحاكم اللبنانية، ومن أهمّها القضية التي رفعها شاب وكان لا يزال قاصراً، أمام المحاكم الجزائية ضدّ الأرشمندريت فرح ولكن أيضاً ضدّ مسعى الكنيسة الأرثوذكسية، وتحديداً المجلس التأديبي الاستئنافي في جبل لبنان، للتستّر على أفعاله والتخفيف منها. إلّا أنّ هذا الأمل لم يتحقّق حيث سبقتْ وفاة هذا الأخير المحاكمة أو المواجهة التي أرادها هذا الشاب طوال سنوات من دون الوصول إلى العدالة الناجزة. وفي حين يسجّل لقاضي التحقيق في طرابلس ناجي الدحداح تولّي تحقيقات حرفية انتهت بإصدار مذكرة توقيف غيابية وقرار ظني بحقّ فرح لارتكاب جناية الأفعال المنافية للحشمة مع قاصر (المادة 509 من قانون العقوبات معطوفة على المادتين 506 و511 منه)، فإنّ الهيئة الاتهامية في الشمال تخلّفت بعد ذلك عن إنجاز تحقيقاتها مكتفية بإلغاء مذكرة التوقيف بحق فرح. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أحد أهمّ أسباب عرقلة العدالة هو تهرّب الأرشمندريت عن حضورها وممارسة وكيله وسائل تعسّفية في الدّفاع عنه مثل ادّعاء بعدم جواز التحقيق معه من قبل القضاء أو استئناف قرارات قاضي التحقيق خارج المهلة.

كما لا تزال الشكوى المقدمّة من أحد الشبّان الذي أدلى بتعرّضه، وهو لا يزال قاصراً، لاعتداءات جنسية من قبل كاهن في الكنيسة المارونية عالقة أمام قضاء التحقيق في جبل لبنان منذ عام 2018 من دون أن تتخذ الكنيسة خطوات جديّة لضمان محاسبته. 

انطلاقاً من ذلك، تطالب “المفكرة” بالأمور الآتية:

أوّلاً: من الكنيستين المارونية والأرثوذكسية:

1. أن تقدّما اعتذاراً رسميّاً وعلنيّاً لجميع ضحايا جرائم البيدوفيليا المُرتكبة من رجال الدين التابعين لهما، وبخاصّة أنّ أغلب هؤلاء استغلّوا السّلطة الدينية الممنوحة لهم لارتكاب جرائمهم، مع تعويلهم على قوانين الصمت والتستّر للإفلات من العقاب،

2. أن تقطعا علانية مع قوانين الإنكار والتستّر بشأن هذه الجرائم وأن تلتزما تالياً بإجراء تحقيق جدّي في أيّ اشتباه أو اتّهام بها، من منطلق مسؤوليتهما في إنصاف الضحايا وضمان سلامة الأطفال الذين قد يأتون إليهما. ومن المهمّ إثباتاً لجدّية التحقيق امتناع الكنيستيْن عن أيّ تهجّم على الضّحايا وبخاصّة الأطفال منهم على خلفية إدلائهم بالتعرّض لاعتداء جنسي والتدخّل لحمايتهم حيال أيّ هجوم من رعاياهما،

ثانياً: من الهيئات القضائية اللبنانية: 

3. أن تنظر في شكاوى ضحايا هذه الجرائم ضمن آجال معقولة وذلك ترميماً لحقوق الضحايا وإنهاء  لإحدى ممارسات الإفلات من العقاب الأكثر قدّماً ورسوخاً،

ثالثاً: من وسائل الإعلام والمنظمات الدينية والمدنية والسياسية:

4. الامتناع بأيّ شكل من الأشكال عن المشاركة في الحملات التي تستهدف الضحايا أو تمجّد برجال الدين الذين لا يزالون قيد التحقيق، ودعم مسار التحقيقات والمحاكمات في هذه الجرائم وصولاً إلى تحقيق العدالة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الصحة ، قضاء ، فئات مهمشة ، مساواة ، حقوق الطفل ، جندر ، محاكمة عادلة وتعذيب ، المرصد القضائي ، لبنان ، محاكم دينية ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، محاكم جزائية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، مؤسسات إعلامية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، قرارات قضائية ، محاكمة عادلة ، حرية التعبير ، فرنسا ، الحق في الخصوصية ، تقاضي استراتيجي



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني