النظام السياسي البديل في خطاب قيس سعيد: جذور الفكرة ومخاطرها على التجربة الديمقراطية


2021-06-28    |   

النظام السياسي البديل في خطاب قيس سعيد:  جذور الفكرة ومخاطرها على التجربة الديمقراطية

 بتاريخ 11-06-2021، استقبل رئيس االجمهورية التونسي قيس سعيد رؤساء الحكومات السابقة بحضور رئيس الحكومة الحالي هشام  المشيشي في لقاء كان عنوانه المعلن التحاور في سبل الخروج من الأزمة السياسية. إلا أن أهم ما ميز هذا اللقاء هو أن سعيّد طرح فيه فكرته لحوار وطني قال أنه لن يكون كما سبقه من حوارات وسيكون السبيل للتفكير في مرحلة انتقالية غايتها الوصول إلى نظام سياسي جديد قوامه نظام انتخابي جديد يضمن مسؤولية المنتخبين أمام ناخبيهم.

في سياق متصل وبعدما كان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي  قد تحدث بتاريخ 11-06-2021 عن قرب انفراج الأزمة السياسية، فإنه عاد بتاريخ 16-06-2021 ليتحدث عن اتصال تلقّاه من سعيد أعلمه فيه بتراجعه اعن لتزام سابق منه بقبول التحوير الوزاري وأنه يطلب أن يعدل دستور 01-06-1959 تمهيدا لعرضه على استفتاء شعبي ينتهي باعتماده بديلا عن الدستور الحالي.

هنا يكون من المهم التنبه لكون ما قد يبدو تقلّبا في مواقف سعيد ليس في واقعه إلا مجاهرة منه بمشروع سياسيّ سبق وأكّد أنه سينتهي لإرسائه، وهو ما يستدعي التفكير في ما قد يكون له من  أثر على الديمقراطية التونسية في حال نجاحه.

 

النظام السياسي الجديد لسعيد ليس مجرد أفكار للحوار

حين كان مرشّحا للرئاسة، أكّد سعيّد أنه يدعو “لتأسيس جديد قوامه فكر سياسيّ جديد يترجمه نصّ دستوري بالفعل جديد وتعهد بألا تجرى انتخابات نيابية لاحقا في صورة فوزه في الانتخابات وفق التصور السابق أي في إطار الديمقراطية التمثيلية”[1]. مرّ قوله حينها في صمت فرضه اقتضاب مقاله ولم يتم الربط تحليليا بينه وبين ما كان سابقا من تمسك منه بدستور الجمهورية الأولى وبما طرحه من تصور لما سماها ديمقراطية تصعيدية.

 

العودة لدستور 1959: مشروع لسلطة تنفيذية جديدة بلباس قديم

في إطار عمل اللجان التأسيسية بالمجلس الوطني التأسيسي على تصورات النظام السياسي الذي سيعتمد بدستور الجمهورية الثانية، تمّ الاستماع من اللجنة التأسيسية المختصّة لقيس سعيد الخبير. آنذاك، دعا الرجل إلى اعتماد نظام رئاسيّ يستلهم ذات تصورات نص مشروع التنقيح الدستوري لسنة 1976 لدستور غرة جوان 1959 أي إلى تبنّي فكرة توحيد السلطة التنفيذية تحت إمرة رئيس الجمهورية وإلى التنصيص على كون وزيره الأول هو من يشرف على العمل الحكومي ويخضع للرقابة والمساءلة البرلمانية والتي يمكن أن تصل لحد توجيه لائحة لوم للحكومة. وفي هذه الحالة، يكلف الرئيس حكومة جديدة وإذا ما واجهتها لائحة لوم ثانية يكون مجبرا على الاستقالة كما حكومته[2].

يلاحظ هنا أن اهتمام الرئيس بالدستور القديم انتهى عند حدود السلطة التنفيذية ولم يشمل غيرها من السلط. ويبدو أن مرد هذا ما كان له من مشروع بديل خصّ به السلطة التشريعية وضعه تحت عنوان نظام انتخابي بديل.

 

في الانتخابات: التصعيد بديلا عن التمثيل

كان قيس سعيد ممّن التحقوا باعتصام القصبة 2[3] مساندة لشباب الثورة في طلبهم القطع مع النظام القديم. هناك تنقل بين الخيام مبشّرا بنظام انتخابي بديل ينتهي إلى الأمور الآتية:

  • إرساء مجالس محليّة تتعدد بتعدد عدد معتمديات البلاد بشكل مباشر على أساس ترشحات فردية يشترط لقبولها أن ترفق بتزكية. ويعود لتلك المجالس النظر في مشاريع التنمية المحلية والتصديق على التعيينات المقترحة من السلطة المركزية للمسؤولين الإداريين والأمنيين المحليين مرجع نظرها الترابي. ويكون للناخبين دوما حق سحب الوكالة من أعضائها.
  • مجالس جهوية يتمّ اختيار أعضائها بالقرعة وباعتماد قاعدة التداول بين أعضاء المجالس المحلية باعتبار واحد عن كل واحد منها. وتتكفل هذه المجالس بإعداد وتنفيذ مخطط التنمية الجهوية ويحضر أشغالها المسؤولون الإداريون الجهويون الذين يشاركون في مداولاتها من دون أن يكون لهم حق التصويت.
  • مجلس وطني تُصَعد المجالس المحلية أعضاءه بانتخاب كل واحد منها عضوا ممثلا لها فيه يرسم السياسات العامة ويصدر القوانين.

في حينها، لم تجد آراء سعيد الصدى الذي كان يأمله. إلا أن ذلك لم يمنعه من إعادة طرحها في سنة 2013 كحل للخروج من الأزمة السياسية التي جدّت حينها وعطلت عمل المجلس الوطني التأسيسي. كما عاد ليطرحها في حملته الانتخابية بما يبين أهميتها في طرحه وعزمه على تحقيقها ويفرض التعاطي الجدي معها ومع ما قد يستتبع قبولها من أثر على الانتقال الديمقراطي.

 

الديمقراطية شبه المباشرة

رفع سعيد لما كان مرشحا للرئاسة شعار “الشعب يريد”. فسّر ذلك بالقول بأنّه لا يملك برنامجا وليس مستعدّا لأن يقدّم وعودا انتخابية وبكون الشعب يعرف ما يحتاجه ولذلك يجب الاكتفاء بالإنصات إليه وتركه يقرر ما يريد فعله لتحقيق مطالبه في التنمية[4].

ولم يخفِ سعيد معارضته المبدئية لفكرة الأحزاب السياسية والتي قال أن كلا منها يكره الآخر وتريد جميعها العودة بتونس للوراء. كما حسم في كونها لم تكن من الثورة ولكنها استغلتها فقط لتتحكم في البلاد. وكان بذلك حريصا على التأكيد على كونه لم ولن ينتمِ لأيّ حزب سياسي كما لن يتحالف مع أي منها. وتبدز بالتالي دعوته لديمقراطية تصعيدية تقوم على الترشّح الفردي في دوائر انتخابية صغيرة منسجمة مع قناعته بعدم جدوى التنظيمات الحزبية والسياسية.

وبمعزل عن نوايا سعيد، فإن هذا التوجّه الذي يقوم على إرساء ديموقراطية شبه مباشرة إنما يذكّر بالتجربة  الليبية في عهد العقيد معمر القذافي والتي انتهتّ إلى حكم الفرد المركزي.

 

اليمين الدستورية والختم أدوات لإرساء نظام رئاسي  

يوم كان سعيد يحضر في الاعلام التونسي بصفته خبيراً في القانون الدستوري، كان رئيس الجمهورية فيما يقول محدود الصلاحيات[5] لا يحق له أن يتدخل في التشكيل الوزاري فيما عدا وزارتي الدفاع والخارجية[6]، و كان يجاهر برفض أن يُعين رئيس حكومة لا يمتلك مشروعا سياسيا[7]. وقد أشار آنذاك إلى أنّ على الرئيس أن يتجنّب تعطيل عمل الحكومة من خلال التشاور مع رئيسها، لتكون السياسة الخارجية التي يسطرها متلائمة مع سياسة الدولة.

لاحقا، آلت إليه مسؤوليّة اختيار الشخصية الأقدر لرئاسة الحكومة مرتين، الأولى بعدما فشل الحزب الفائز الأول في الانتخابات التشريعية أي حركة النهضة في تشكيل حكومتها والثاني بعدما قدّم له رئيس الحكومة الياس الفخفاخ استقالته. في المرتين، لم يجرِ مشاورات مباشرة مع الأحزاب حول مرشحيها وطلب منها قوائم في أسمائهم واختار في الثانية منها هشام المشيشي رئيسا للحكومة الذي لم يرشحه أي حزب برلماني ولم يُعرف له أي مشروع سياسي. وكان امتيازه الوحيد أنه من العاملين معه بقصره وممن ظنّ أن ولاءه له لا لغيره. بموازاة هذا، سُجّلت محاولة هيمنة على التشكيل الحكومي من خلال اختياره لوزراء اصطلح على تسميتهم بوزراء الرئيس وفرضه لهم على من كلفه بتشكيل الحكومة.

كما تمسّك  بكون اليمين الدستورية التي يؤديها سامي مسؤولي الدولة أمامه ليست إجراء شكليا وأنها أمانة ومسؤولية يتحمّلها وتفرض عليه أن يتيقن من صدق من يؤديها. وقد عطّل بذلك مجمل التعيينات التي يرفضها.

كما اعتبر صلاحية ختم القوانين التي تعود له ليست كذلك شكلية ويجب عليه بمناسبتها أن ينظر إن كان التشريع يصحّ وصفه بصفته تلك أم أنه في حكم المعدوم لمخالفته الصريحة لحكم الدستور وعطل بذلك  ختم تنقيح القانون الأساسي للمحكمة الدستورية رغم أن مجلس نواب الشعب أفشل ردّه له.

ويتبيّن مما سلف أن سعيد لم يكتفِ بممارسة ما كان قد نهى عليه يوم كان يشرح دستور 2014 ومضى قدما في تأويل ذاك النص مستغلا غياب المحكمة الدستورية ليصل لأن يفرض للرئيس سلطات من خارج الدستور تجعله المتحكم الفردي في مؤسسات الدولة. وهو أمر يبدو أنه يريد أن يطوّر مداه ويؤسس له دستوريا من خلال دعوته صراحة للعودة لدستور سنة 1959 وهي الخطوة التي كانت كما بينا فيما سلف جزءاً من برنامجه السياسي الذي يسعى لإنفاذه. فلنتابع…

 

[1]  يراجع حوار صحيفة الشارع المغاربي  الذي نشر بتاريخ 11-06-2019 للاطلاع على نصه بموقع الصحيفة انقر هنا

[2]  للاستماع إلى رأي قيس سعيد والذي تولى شرحه بإذاعة شمس أف أم بتاريخ 22-04-2013 انقر هنا

[3]   تحرك ثوري انطلق يوم 23-01-2011 تحت شعار اعتصام حتى يسقط النظام و يعود له فضل تطور تصور آليات الانتقال الديمقراطي في تونس إذ كان من أهم مخرجاته إعلان فكرة إرساء مجلس تأسيسي تكون مهمته صياغة دستور جديد للدولة

[4]  اللقاء التلفزي ذي المرجع أعلاه

[5]  في تصريح لإذاعة صبرة أف أم بتاريخ  14-07-2018  قال سعيد  ” التقاليد الدستوريّة تفرض أن يكون رئيس الحكومة هو مركز السلطة التنفيذيّة، و حتى و إن تمتّع رئيس الجمهوريّة بمشروعيّة شعبيّة مباشرة لكن صلاحيّاته تبقى محدودة جدّا مقارنة باختصاصات رئيس الحكومة والصلاحيّات التي يمتلكها ”

[6]  في تصريح أدلى به لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 06-11-2018 وأخذته عنها عديد وسائل الإعلام التونسية قال قيس سعيد ”  ليس هناك أي مانع دستوري على الإطلاق في أن يعلن رئيس الحكومة عن إدخال تحوير بدون أن يستشير رئيس الجمهورية ”

[7]  على إثر انتهاء الحوار الوطني لاقتراح مهدي جمعة رئيسا للحكومة  وبتاريخ 16-12-2013 قال  قيس سعيد في برنامج بوليتكا الذي تبثه إذاعة جوهرة أف أم ”  “لم أسمع أبدا في حياتي باختيار رئيس حكومة في قائمة من الأسماء يتداولون حولها …. المطلوب من رئيس الحكومة الجديد هو أن يبيّن برنامجه وماذا سيفعل في هذه المرحلة ويعرض هذا البرنامج على المجلس الوطني التأسيسي “

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني