كيف مهدت المحكمة الدستورية المصرية للعصف “بالتظاهرات العفوية”؟


2019-09-26    |   

كيف مهدت المحكمة الدستورية المصرية للعصف “بالتظاهرات العفوية”؟

خرجت التظاهرات السلمية في مصر يوم الجمعة الماضي بطريقة عفوية، ودون اتباع الإجراءات، المنصوص عليها في قانون التظاهر ومن أهمها الإخطار. [1] توالت، منذ الجمعة، حالات القبض على المشاركين في التظاهرات، وتصاعدت حدة كبح التظاهرات السلمية. وتتزايد حالات القبض على المشاركين في التظاهرات أو الداعين لها أو المعارضين للنظام بشكل ملحوظ يومًا بعد يوم. وظهرت دعوات حقوقية وسياسية تذكر السلطات المصرية بالتزامها تجاه كفالة الحق في التجمع السلمي وحماية المتظاهرين السلميين.[2] وبالتالي، أعادت الأحداث الجدل حول نطاق الحق في التجمع السلمي والالتزامات المترتبة عليه؛ بعدما خفت على أثر أحكام المحكمة الدستورية بخصوص هذا الحق بشكل عام، وقانون تنظيم التظاهر بشكل خاص .

ذلك الجدل الذي نستعيده من خلال هذا المقال، من خلال إعادة إلقاء الضوء على منهج المحكمة الدستورية وكيف مهد للعصف “بالتظاهرات العفوية”، وإقرار دستورية النصوص العقابية التي ساهمت في ازدياد حالات القبض والاحتجاز للمتظاهرين. كما نحاول إلقاء الضوء على التزامات الدولة الدستورية بحماية المتظاهرين السلميين وتسهيل ممارستهم لحقهم في التجمع السلمي، قبل التظاهرات المرتقبة الجمعة القادمة.

التظاهر بالإخطار: أي مجال للتظاهرات العفوية في مصر؟ 

انتهت المحكمة الدستورية[3]  في أحكامها إلى دستورية جميع مواد قانون تنظيم التظاهر التي عُرضت عليها عدا الفقرة الأولى من المادة العاشرة من القانون[4]. فقررت دستورية وجوب الحصول على إخطار من القسم أو مركز الشرطة قبل بدء التجمع بثلاثة أيام على الأقل، كما نصت المادة الثامنة من القانون.[5] كما أقرت دستورية العقوبة المفروضة على تنظيم التجمعات السلمية دون إخطار[6]، بالإضافة إلى دستورية تجريم تعطيل حركة المرور خلال المشاركة في أي تجمع سلمي (مادة 7 من القانون).[7] وهي التهمة التي توجه للمتظاهرين خلال تحقيقات النيابة العامة المصرية، بالإضافة إلى تهمة التظاهر بدون إخطار.[8]

وعليه، فقد توالت أحكام المحكمة الدستورية لتنتصر لقانون التظاهر على حساب التظاهرات العفوية السلمية. وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول التزامات الدولة الدستورية تجاه هذه التظاهرات، مثل تلك التي تحدث حالياً.

المحكمة: لا حماية دستورية للتجمعات السلمية بدون إخطار

في حكمها بدستورية المادة السابعة من القانون، فرقت المحكمة بين التجمعات السلمية المُخطر عنها والتجمعات السلمية بدون إخطار. فوفقاً للمحكمة، تتمتع التظاهرات بإخطار بحماية دستورية، فينبغي معها إعمال مبدأ التوازن حين مساس التظاهرة بحق الأفراد في الأمن، وحرية التنقل، والسكينة العامة. ثم سكتت المحكمة عن إيضاح موقف التجمعات السلمية بدون إخطار، بعدما بينت أنها تختلف عن التجمعات السلمية المُخطر عنها (المتحصنة باستعمالها حقاً قرره الدستور).[9] وبالتالي، نستنتج من تلك التفرقة، أن المحكمة اعتبرت أن أي تجمع سلمي “عفوي” لا يدخل ضمن إطار الممارسة الدستورية، ومن ثم لا يتمتع بالضمانات والحماية المقررة بالحق الدستوري، على عكس التجمعات السلمية التي تتم بإخطار. فعندما ااقتصرت المحكمة الحماية الدستورية على التجمعات السلمية المخطر عنها، أعادت بذلك تشكيل نطاق الحق في التجمع السلمي ليقتصر عليها فقط دون غيرها. الأمر الذي يعصف بأصل الحق، الذي يشمل كافة التجمعات السلمية سواء تلك التي تم الإخطار عنها أم لا. وهنا يجب الإشارة إلى أن تعريف السلمية (الحق في التجمع السلمي) استثنى تنظيم التجمعات بنية القيام بأعمال العنف أو ممارسته، وبالتالي تخرج التجمعات “غير السلمية” من الإطار الدستوري من الأساس. مع ضرورة الإشارة إلى أن الأفراد لا يفقدون حقهم في التظاهر السلمي نتيجة قيام آخرين بممارسة أعمال عنف أثناء التظاهرة طالما أن الأفراد قد التزموا هم أنفسهم بالسلمية.[10]

التزامات الدولة في حالة التظاهرات العفوية

يؤثر قضاء المحكمة بشكل مباشر على الواقع العملي لممارسة الحق في التظاهر/ التجمع السلمي، حيث أصبح هناك تصور، من الدولة بشكل خاص، بغياب التزامها بكفالة الحق في التجمع السلمي للمتظاهرين “العفويين”؛ وبالتالي حقها في القبض عليهم وتقييد هذا الحق كما يحدث حالياً. وهو أمر عار تماماً عن الصحة، حيث تنقسم الالتزامات الواقعة على عاتق الدولة بموجب حق دستوري إلى نوعين: التزامات إيجابية وأخرى سلبية. الالتزام الإيجابي الناشئ عن حق دستوري هو التزام بعمل يستوجب على الدولة القيام به، بينما يكون الالتزام السلبي هو التزام على الدولة يتعلق بالامتناع عن عمل ما بموجب الحق الدستوري. يعد تسهيل ممارسة الحق في التجمع السلمي، سواء كانت بإخطار أم لا، من الالتزامات الإيجابية الناشئة عن الحق، فيستوجب على الدولة توفير موارد شرطية كافية لتسهيل ممارسة حق التجمع السلمي،[11] وهو ما يتمثل بوجود عدد كافٍ من أفراد الشرطة لحماية المتظاهرين من أي اعتداء عليهم وحماية المنطقة الواقع فيها التظاهرة من أي أحداث عنف، يقوم بها عناصر تستغل التظاهر. [12]

تعطيل المرور: سبب كاف لتقييد الحق في التظاهر؟

تلزم الإشارة إلى أن حجة الحكومة المصرية، والمحكمة الدستورية، من تقييد الحق في التجمع السلمي بدعوى تعطيل المرور على سبيل المثال مردود عليه. فهذا الاضطراب المروري أو غيره من أشكال الاضطرابات هو جزء أصيل لا ينفصل عن ممارسة حق التجمع السلمي، بل إن لذلك الاضطراب أهمية في شكل التعبير وهو ما يميز حق التجمع السلمي عامة وحق التظاهر السلمي خاصة، عن حرية الرأي والتعبير كحق دستوري.[13] أي أن الاضطراب الناشئ عن ممارسة حق التجمع السلمي هو جزء متأصل في نطاق الحق يتأتى مع ممارسته الدستورية ولا ينفصل عنها (وإن كان ينعكس بدرجات مختلفة تختلف باختلاف عوامل منها عدد المشاركين في التجمع السلمي وشكله في كونه وقفة أم مسيرة)[14]. فذلك الاضطراب هو ما يجذب انتباه السلطة والجمهور معاً للرسالة المنشود عرضها من التظاهرة السلمية أو التجمع السلمي. وبالتالي على الدولة أن تظهر قدر من التحمل لهذا الاضطراب، مثل تعطيل حركة المرور ولا أن تقيد حق دستوري بسبب اضطراب وقتي في المرور. [15]

خاتمة

انعكس طرح المحكمة الدستورية الذي اختزل نطاق الحق في التجمع السلمي في التجمعات السلمية بإخطار على تصور التزامات الدولة المتعلقة بالحق. فذلك الاختزال أعطى تصورا خاطئا بتقرير الحماية الدستورية على التجمعات السلمية المخطر عنها دون غيرها، فأضحى تجريم التجمعات العفوية السلمية التي تحدث اضطرابا في حركة المرور (ولو بالتواجد المادي في المجال العام) لا يخضع لأي من الضمانات الموجبة وفقاً لالتزامات السلبية المتعلقة بحق التجمع السلمي، رغم أن هذه التجمعات تدخل في نطاق الحق السلمي. كما ينطبق المنطق ذاته على تحديد مساحات نائية بالمحافظات هي فقط التي يسمح فيها بالتجمعات السلمية دون حاجة لإخطار.[16] حيث أن التجمعات العفوية السلمية (التي تكون رد فعل سريع لقرار سياسي ما) تدخل في نطاق الحق في التجمع السلمي، وبالتالي يجب عدم تقييدها على نحو يحرم التجمع السلمي العفوي من الاتصال بالجمهور الذي يبتغي إيصال الرسالة إليه. [17]

كما أن في الجدل القانوني المتعلق بإطار حق التجمع السلمي، عادة ما يتم إغفال دور المحكمة الدستورية في تضييق هذا الإطار، وقصره على التجمعات السلمية المخطر عنها فقط، الأمر الذي ترتب عليه انحراف المحكمة عن دورها في حماية الحق وانزلاقها لتضييق نطاقه. كما أن قضاء المحكمة كان له بالغ الأثر في زيادة خنق المجال العام منذ صدور قانون التظاهر. إلا إنه على الرغم من كل ما سبق، خرجت التظاهرات العفوية غير عابئة بكل ما سبق، لتعبر عن ممارسة الشعب لسيادته.

 فممارسة حق التجمع السلمي تعتبر مظهرا من مظاهر ممارسة السيادة الشعبية بشكل مباشر “direct popular sovereignty”.  حيث أن الوجود المادي للمتظاهرين من الشعب بالمجال العام هو أحد مظاهر تلك السيادة المباشرة والتي تمارس من دون أي وساطة، على حد تعبير المحكمة الدستورية الألمانية[18].


[3] حكم المحكمة الدستورية في الطعن رقم ١٦٠ لسنة ٣٦ قضائية

[4] تنص المادة 10 من قانون تنظيم التظاهر على:”يجوز لوزير الداخلية أو مدير الأمن المختص في حالة حصول جهات الأمن-وقبل الميعاد المحدد لبدء الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة-على معلومات جدية أو دلائل عن وجود ما يهدد الأمن والسلم، أن يُصدر قراراً مسبباً بمنع الاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة أو إرجائها أو نقلها إلى مكان آخر أو تغيير مسارها، على أن يُبلغ مقدمي الإخطار بذلك القرار قبل الميعاد المحدد بأربع وعشرين ساعة على الأقل. ومع عدم الإخلال باختصاص محكمة القضاء الإداري، يجوز لمقدمي الإخطار التظلم من قرار المنع أو الإرجاء إلى قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الابتدائية المختصة على أن يُصدر قراره على وجه السرعة”

[5] حكم المحكمة الدستورية في الطعن رقم ١٦٠ لسنة ٣٦ قضائية

[6] حكم المحكمة الدستورية في الطعن رقم ٢٣٢ لسنة ٣٦ قضائية

[7] حكم المحكمة الدستورية في الطعن رقم ٢٣٤ لسنة ٣٦ قضائية

[8] بجانب تهم أخرى خارج قانون التظاهر

[9] حكم المحكمة الدستورية في الطعن رقم ٢٣٤ لسنة ٣٦ قضائية

[10] Eric Barendt, ‘Freedom of Assembly’, Chapter 9 in Jack Beatson and Yvonne Cripps (eds.), Freedom of Expression and Freedom of Information, p.161-176. 2000; United Nations Special Rapporteur on the Rights to Freedom of Peaceful Assembly and of Association, A/HRC/20/27, 21 May 2012, OSCE/ODIHR-Venice Commission Guidelines on Freedom of Peaceful Assembly, 2nd ed. 2010; Ziliberberg v Moldova, p. 10, ECtHR, 2004; Ezelin v France, ECtHR,1991.

[11] تقرير هيئة المفوضين في القضية رقم 160 لسنة 36 قضائية “دستورية”.

[12] (OSCE ODIHR / Venice Commission Guidelines, para.33).

[13] Orsolya Salat, From the Mass Mind to Content Neutrality; Freedom of assembly in a Comparative Perspective, p. 98, 2013.

[14] Tabatha Abu El-Haj, All Assemble: Order and Disorder in Law, Politics and Culture, p.1032, Journal of Constitutional Law, 2014.

[15] Ashughyan v Armenia, para.90, 2008; Balcik v Turkey, para.52, 2007.

[16] مثال قرار محافظ القاهرة رقم ١٣٨٦٧ لسنة ٢٠١٣ بتحديد مساحة من حديقة الفسطاط بمحافظة القاهرة تباح فيها الاجتماعات العامة أو المواكب أو التظاهرات السلمية دون إخطار.

[17] United Nations Special Rapporteur on the Rights to Freedom of Peaceful Assembly and of Association, A/HRC/20/27, 21 May 2012; Bukta and Others v. Hungary, 2007. “Special circumstances” refer to cases when “an immediate response to a current event is warranted in the form of a demonstration”.

[18] BVerfGE 315, 343-7 (1985).

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، حراكات اجتماعية ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني