قطاع النشر في تونس مهدّد بالتوجيه والصنصرة: أو عندما يحيد الدعم عن أهدافه


2023-07-27    |   

قطاع النشر في تونس مهدّد بالتوجيه والصنصرة: أو عندما يحيد الدعم عن أهدافه

يوم 2 ماي 2023، أي بعد مرور أربعة أيام من انطلاق معرض “الكرم” للكتاب، وقف الرئيس التونسي قيس سعيّد أمام أطلال الشركة التونسية للتوزيع بالعاصمة، تلك المؤسسة العمومية التي “تم التفريط فيها وتركها أرضا مهملة”، إلى جانب الدار التونسية للنشر، والتي قال أنها “أصدرت العديد من المؤلفات والكتب وتم هدمها، مشيرا إلى أنه تمّ ضرب المؤسسات العمومية بعد غلقها بدعوى تأهيلها”.

كانت تجربة هاتين المؤسستين الوطنيتين، منذ بعثهما في الستينات، قد مثّلت نموذجا لنجاح القطاع العامّ في تطوير قطاع الكتاب، وصولا إلى فترة التسعينات، حين تطور النشر الخاصّ ونجح في إزاحة هذه المؤسسات[1]، وهي الفترة التي وصفها الرئيس بفترة “ضرب المؤسسات العمومية” في كلمته تلك. وبقطع النظر عن مدى وجود مؤامرة حيكت في الغرض كما يحلو دائما للرئيس تفسير الأمور، فإن تراجع صناعة الكتاب الثقافي التونسي تحديدا يبدو واضحا للعيان، مع تراجع أعداد دور النشر المتخصصة سواء جراء إغلاق بعضها أو تحوّل أخرى نحو صناعة الكتب التعليمية[2]، وضعية لا يمكن تفسيرها إلاّ من خلال الوقوف على مسبباتها العميقة والموضوعية.

ولعلّ أبرز هذه الأسباب، تنظيم قطاع النشر نفسه من طرف هياكل هشّة، وعلى رأسها اتّحاد الناشرين، أو “الصندوق الأسود” على حدّ عبارة أحد الناشرين، في إشارة إلى غموض آليات تسييره، وتوزيع المسؤوليات داخله. أدّى ذلك إلى انسحاب عدد من دور النشر العريقة منه، ممّا أفقدَه كثيرا من وزنه[3]. في حين اختار ناشرون آخرون تأسيس هياكل موازية على رأسها “الجمعية التونسية للناشرين” ردا على ما وصف بكونه شكوكا حول “مصداقية اتحاد الناشرين وقدرته على الفعل والتجميع”. واليوم، وبعد سنتين من 25 جويلية 2021، لا تظهر في الأفق أية ملامح جادّة لمراجعة هذه المنظومة، بل إنّ ما حدث في معرض الكتاب الأخير وما تلاه، كشف عن استفادة السلطة بشكل أو بآخر من ضعف القطاع وهشاشته، سواء عن طريق التلويح بعصا الرقابة في بعض الأحيان، أو ربما حتى فتح الباب أمام احتمال تحويل منظومة الدعم لوسيلة بيدها من الممكن أن توظّفها لإحكام هيمنتها على القطاع بسخيّ “العطاء” أو حجبه حسب تموقع المؤسسة وما تنشره. وبذلك قد تتحول هذه المنظومة، في سياق الحكم الفردي، من منظومة دعم موجه “للنهوض بالكتاب التونسي” إلى أداة لتكريس الرأي والحكم الواحد، وسط تواتر الأخبار عن تردّد عدد من الناشرين أمام بعض الكتب التي تحاول تناول المنعرج الاستبدادي. وفي هذا المقال، سنسعى لتتبع بعض من فصول أزمة نشر الكتاب الثقافي في تونس، تحديدا تلك المتعلقة بالدعم، وإن كانت فصول هذه الرواية في الواقع أطول وأكثر تعقيدا.

منظومة أم متاهة دعم؟

تعتبر منظومة دعم الناشرين والكتاب التونسيين من أكثر أشكال الدعم تشعبا وفوضوية، سواء من زاوية تنوع أشكالها، الأطراف المعنيين بها، أو مراحلها وإجراءاتها، وهو ما يجعل من شبه العسير تتبعها. وكمحاولة لتسهيل تفكيك هذه المنظومة، من الممكن اعتماد ثلاثة معايير: الأول يتعلق بالطرف المانح للدعم، أما الثاني فيتعلق بالطرف المستفيد منه، وأخيرا زمان هذه الاستفادة.

وبالنسبة للمعيار الأول، فإنّ الهياكل المتداخلة في إسناد الدعم خصوصا غير المباشر متعددة ومتنوعة، بالأخصّ تلك المتعلقة بالشراءات، من قبيل المؤسسات المكتبية الوطنية مثل مكتبة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” أو المكتبة الوطنية ومكتبات المؤسسات الجامعية، إضافة لعمليات الشراء التي تتم لفائدة مؤسسات خاصة بعينها مثل مكتبة مجلس النواب أو وزارة الدفاع.

ولكن كلّ ما ذكر آنفا لا يمثل سوى أمثلة خاصة، إذ يبقى الهيكل الأساسي ذو الدور المحوري في منظومة الدعم، متمثلا في وزارة الثقافة وتحديدا “الإدارة العامة للكتاب” التي تشرف على جلّ أصناف الدعم المباشر، وهو ما سيجعلها محط تركيزنا. أما لجهة تحديد الطرف المستفيد، فإنّ الدعم المباشر يتوجّه أساسا للناشرين، وبدرجة أقل للكُتّاب[4] والمكتبيين، وهذا الصنف الأخير لا يستفيد عادة إلا بشكل غير مباشر عن طريق الشراءات التي تقوم بها المؤسسات المذكورة سابقا. أمّا بخصوص مراحل إنتاج الكتاب، يمكن ملاحظة أن مسار الدعم ينقسم نظريا لمرحلتين: مرحلة قبلية وأخرى بعدية.

المرحلة القبلية هي التي تسبق نشر الكتاب، وفيها تسند الإدارة العامة للكتاب منحتيْن: الأولى تعرف بمنحة “الورق”[5]، التي تتمثّل في دعم المؤسسة الناشرة ماليا بهدف تغطية مصاريف الورق المعدّ لطباعة الكتاب الثقافي، بهدف التحكم في سعره. وهي منحة تسند، بعد تقديم المعني بالأمر مطلبا لإدارة الآداب، واستيفاء جملة من الشروط الإجرائية. أمّا المنحة الثانية فتتمثل في منحة “صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني”[6] وهي منحة مخصصة لدعم المشاريع المبتكرة في القطاع الثقافي من خلال تمويلها، وذلك بعد استيفاء الأخيرة لجملة من الشروط أبرزها إثبات “مدى مساهمة العمل أو النشاط أو المشروع الثقافي أو الفنّي” في تحقيق جملة من الأهداف من قبيل اللامركزية الثقافية أو تثمين التراث اللامادي وغيرها من الأهداف، التي تؤكد عليها وزارة الثقافة في بلاغاتها السنوية حول افتتاح مواسم الترشح لها. وقد رصد لقطاع الكتاب من الميزانية العامة لهذا الصندوق، سنة 2023، مبلغ قيمته 770 ألف دينار[7].

أمّا بخصوص الدعم اللاحق، فإنه يتمثل أساسا في ما يعرف باسم “الشراءات التشجيعية”[8] وهي وسيلة تقوم من خلالها هياكل وزارة الثقافة باقتناء عدد من نسخ المؤلفات التونسية وتوزيعها فيما بعد للمكتبات العمومية أو ضمن التظاهرات الثقافية. وتتم هذه العملية من خلال مطالب يقدمها الناشرون أو المؤلفون الناشرون على النفقة الخاصة، لإدارة الآداب، وفق إجراءات وشروط خاصة. وقد بلغت الموارد المالية المخصصة لهذه الآليات المشتركة، -باستثناء صندوق التشجيع على الإبداع- ، إضافة للمبالغ المخصصة للجوائز التشجيعية وغيرها ما يناهز 3.6 مليون دينار تونسي سنة 2023[9].

في هنات المنظومة وضعفها

تبدو ملامح منظومة دعم الكتاب التونسي متشعبة ومعقدة، خاصة من حيث تعدد آلياتها ومراحلها. غير أن هذا التعقيد ليس سوى جانب من جوانب ضعف عديدة تسمها ولعلّ أبرزها النزعة البيروقراطية، غياب الشفافية، والفاعلية المحدودة، وهي السمات العامة التي تشترك فيها جل القطاعات الثقافية المشمولة بمنظومة الدعم كما سبق وأن نبهت لذلك محكمة المحاسبات قبل سنوات[10].

أما النزعة البيروقراطية، فتكمن في طول الإجراءات وتنوّعها من حيث تعدّد اللجان[11] والهياكل المكلفة بتقييم المطالب والموافقة عليها. فمحنة الشراءات التشجيعية على سبيل المثال تستوجب تدخل ثلاثة هياكل على الأقل وهي اللجنة الاستشارية، إدارة الآداب واﻹدارة اﻟﻌﺎﻣّﺔ ﻟﻠﻤﺼﺎﻟﺢ اﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ، التي تتدخل لوحدها في ثلاث مراحل مختلفة. ومن أبرز سمات هذه الإجراءات، عدم ملاءمتها لخصوصية هذا النشاط الثقافي. فعلى سبيل المثال، في علاقة بالمنحة الأخيرة، تشترط إدارة الآداب أن تتضمن عقود نشر الكتب المتقدمة، تصريحا على الشرف ممضيا في إحدى البلديات من طرف مؤلف الكتاب، وهو الأمر الذي عادة ما يرفضه بعض الكتاب أو الناشرون لما في ذلك الإجراء من “حرج” في حق الكاتب أو الناشر[12]، ناهيك عن ضعف فاعلية هذا الإجراء في التصدي لعمليات التحيّل التي قد يقدم عليها بعض الناشرين[13].

أما الإشكال الثاني الذي تطرحه هذه المنظومة، والذي يمكن وصفه بكونه الإشكال الأكبر، فيتعلق أساسا بغياب الشفافية. وهو يعود لعدّة أسباب، أبرزها عدم القدرة على معرفة معايير إسناد وقبول مطالب المنح من عدمها. إذ لا تنشر مسبقا الشروط الدقيقة لقبول المطالب. أما في المراحل اللاحقة لإسنادها، فإنّ الآثار الكتابية لمداولات اللجان لا تنشر بدورها، وكذلك الشأن بالنسبة لقائمات المستفيدين أو المبالغ المرصودة لهم، على عكس ما يحصل في قطاع السينما مثلا. وبالتالي، تتمتع اللجان المكلفة بالبتّ في هذه المطالب بالسلطة التقديرية المطلقة في هذا الصدد. وهذه الأخيرة تعني الصلاحية المطلقة الممنوحة لذلك الهيكل في التقدير واتخاذ القرار، من دون تقييد قانوني واضح ومباشر في الغرض[14].

وإضافة لما تطرحه السلطة التقديرية في ذاتها من تحدّيات في علاقة بخطر التغوّل أو الانحياز، فإنّ هذه المخاوف تزداد مع غياب الحدّ الأدنى من الوضوح في معايير الإسناد. على سبيل المثال، تُسند منحة صندوق التشجيع على الإبداع وفقا لشروط مفرطة في العمومية من قبيل “القيمة الفنية والثقافية للعمل” أو “التجارب الفنية أو الابداعية الجديدة”[15]، وغيرها من “المعايير الإنشائية”، في مقابل غياب المعايير الموضوعية من قبيل: سن الكاتب، أو رأس مال المؤسسة الناشرة، أو حتى اشتراط تقديم المترشح لتقرير مسبق يحتوي على وصف مفصل للمشروع في بعديه الفكري والمادي والمخاطر التجارية التي تحيط به، كما هو معمول به في برنامج مماثل، مدعوم من طرف المركز الوطني للكتاب الفرنسي. ومنح اللجان لمثل هذه السلطة التقديرية المفرطة من شأنه أن يطرح تساؤلات في علاقة بالشفافية، مع غياب أي هيكل آخر يضطلع بالرقابة على أعمال هذه اللجان، بل وحتى حول تركيبتها ومعايير اختيار أعضائها.

وبالتالي، فإن عمل الأخيرة يمرّ من دون القدرة على معرفة سبب قبول دعم بعض المطالب في حين ترفض أخرى، أو حتى حول المبالغ المسندة، والتي قد تتفاوت أحيانا بأشكال غير مبررة. وفي هذا الصدد، عاينت دائرة المحاسبات مثلا قبول 40 مطلبا من أصل 198 مطلب دعم ورق، خارج الآجال القانونية خلال فترة 2009-2013 من دون تبرير ذلك[16]، في خرق واضح للتراتيب. وأمام غياب أدنى معايير الشفافية سواء حول كيفية إسناد المنح أو قائمة المستفيدين منها، لم يكن من المستغرب أن ترتفع أصوات عديدة مدينة بهذه المنظومة وما يحوم حولها من شبهات فساد والهيمنة عليها من أسماء وأطراف بعينها من داخل قطاع النشر. بل إنّ هذه الأصوات ارتفعت من داخل الإدارة العامة للآداب نفسها، مع مديرتها السابقة، هالة الوردي، التي سرعان ما وقع إعفاؤها من طرف وزير الثقافة، وربما بضغط من اتحاد الناشرين نفسه حسب شهادة الناشر محمد سلايمية، بعد تصريحاتها “حول مافيا الناشرين”.

ويرتبط غياب الشفافية حتما بفاعلية هذه المنظومة، التي يتمّ تقييمها من طرف سلطة الإشراف، بناء على معطييْن: عدد الإصدارات الجديدة من جهة وعدد القراء في المكتبات العمومية من جهة أخرى. وبالعودة للمشروع السنوي للقدرة على الأداء لوزارة الشؤون الثقافية لسنة 2021، نجد أن الأخيرة قد وضعت جملة من التقديرات لتطور هذه الأرقام، بناء على سياستها في تشجيع القطاع خلال السنوات القادمة، حيث قدرت مثلا أن يبلغ عدد الاصدارات الجديدة سنة 2021، 2400 إصدار جديد[17]. وبالعودة للمشروع السنوي للسنة الموالية، أي 2022، نجد فعلا نفس الأرقام التي وقع تقديرها في السنة السابقة من دون زيادة أو نقصان، بالنسبة للمؤشرين معا[18]. وهو ما يطرح التساؤلات، حول مدى جدية هذه المعطيات، ومدى قابليتها لأن تعكس الوضع الحقيقي للقطاع، خاصة وأن تلك التقارير تزامنت مع فترة أزمة طويلة بين الوزارة واتحاد الناشرين، بسبب تأخر صرف مبالغ تلك المنح وخصوصا تلك المتعلقة بالورق، وتأخر عقد اللجان المخصصة لقبول المطالب الجديدة[19]، وهي أزمة لم يقع حلها نسبيا إلا مع قرار الوزارة بعث “لجنة قيادةٍ للنهوض بقطاع الكتاب والنشر” وغيرها من الإجراءات التي لم تبرز تطبيقاتها على أرض الواقع بعد، منذ سبتمبر الماضي.

وهكذا، وأمام الشكل الحالي لهذه المنظومة، بكل ضبابيته وتعقيده، يكون من السهل تفهم موقف جزء مهم من الناشرين الشبان، في مقاطعتهم لمنظومة الدعم بشكلها الحالي[20]، أو لنقل أنها مقاطعة اضطرارية، بسبب عدم قدرتهم على الولوج لها والاستفادة منها.

معارض الكتاب: فصل آخر من كتاب الأزمة

تعتبر معارض الكتاب، الحدث الأهم في صناعة الكتاب ومن الأهم في المشهد الثقافي عامة. ويمكن تقسيمها إلى معارض صغرى في الجهات وكبرى تتمثل في المعارض الدولية، وعلى رأسها معرض تونس الدولي للكتاب، الذي تم بعثه سنة 1982، وأتمّ في شهر ماي 2023 دورته السابعة والثلاثين. وإلى جانب هذه المعارض، تم سنة 2018 استحداث المعرض الوطني للكتاب التونسي، الذي يحيل اسمه على المقصد المرجو منه، ألا وهو توفير فرصة للناشرين التونسيين لعرض وبيع مؤلفاتهم، بعيدا عن المنافسة من طرف الناشرين الأجانب.

وقد عرف تنظيم معرض الكتاب التونسي اضطرابا كبيرا في مواعيده ودوراته. فالدورة الرابعة على سبيل المثال، وقع تأجيلها لثلاث مرات متتالية، قبل أن تتم في شهر فيفري 2023، بحضور محتشم لم يتجاوز 53 ناشر، وذلك بسبب خلاف جوهري بين اتحاد الناشرين من جهة ووزارة الإشراف، وصل إلى مقاطعة أعمال هذا المعرض بسبب ما وصفه الأخير بكونه “محاولةُ قتلٍ ممنهَج للناشر التونسي، ومِن ورائه الكاتب والكِتاب التونسيَّين”. أما الدورة التي سبقتها، فقد عرفت انتقادات حادة، من طرف نشطاء وجمعيات ثقافية، لما عرفته من إخلالات عديدة على جميع المستويات[21]. ومع ذلك استمرّ المعرض من دون تغييرات جدية، ورغم المردودية الضعيفة والانتقادات العديدة.

وفي مقابل هذا التشبث بالمعرض الوطني، عرف المعرض الدولي للكتاب، وهو المعرض الرئيس، إشكالات جمّة في السنوات الأخيرة. فعلى إثر جائحة كورونا، تم إلغاء دورة سنة 2020، وكذلك مرت سنة 2022 دون تنظيم أي دورة، أي بمعدل دورة كل سنتين منذ الجائحة، ناهيك عن تضارب مواعيد بعضها. ونتيجة لكل هذا، وإضافة لجملة من الإشكالات التنظيمية، من قبيل تأخر إرسال وقبول استمارات المشاركة، والارتفاع المشط في تكاليف المشاركة، خاصة بالنسبة للمشاركين الأجانب، كانت حصيلة العارضين الأجانب 148 عارضا، قسم هامّ منهم يمثّلون اتحادات نشر رسميّة. بالمقابل، غابت أهم وأكبر دور النشر العربية والتي قاطع بعضها المشاركة في معرض الكرم منذ عدة سنوات. في المقابل بلغ عدد العارضين التونسيين، 128 عارضا، أي ما يقارب نصف المشاركين. وعليه، أصبحت السمة الرئيسية لهذا المعرض، حضور وزارة الثقافة “كناشر أكبر” يتوارى وراء الكم الضخم من الكتب المدعومة بقطع النظر عن جودتها وفحواها، ويقتصر دور الخواص على الوساطة التي يمتهنها العارضون من المكتبات[22].

هذه الأرقام، تؤكد حقيقة تراجع هذا المعرض، وتحوله مع الوقت لمعرض “شبه” دولي، أمام الحضور الكبير والطاغي للمكون التونسي، وهو أمر تعكسه خريطة توزيع المساحات المخصصة للناشرين في المعرض، حيث تحتكر دور نشر ومكتبات تونسية محددة نفس الفضاءات الاستراتيجية والظاهرة في قاعات قصر المعارض منذ سنوات، في حين تسند للعارضين الأجانب، خاصة الجدد منهم، فضاءات هامشية وأحيانا غير مجهزة في آخر القاعات. هذه المعطيات تطرح التساؤل حول حقيقة معايير إسناد هذه الفضاءات وشفافيتها، ولتكون النتيجة الحتمية لهذه السياسة، العزوف التدريجي لمشاركة الناشرين الأجانب، خاصة القادمين لأول مرة[23]، والتحويل التدريجي والممنهج لمعرض “الكرم” من معرض دولي لآخر وطني مقنع، تحتكره وتستفيد منه أسماء تونسية بعينها، سواء كعارضين أو كوكلاء.

عودة تدريجيّة للرقابة؟

منذ أشهر، وعلى هامش الجدل الذي أثاره مسلسل الفلوجة،  توضح أن خطر عودة  الصنصرة والرقابة أمسى جدّيا، وهو ما سرعان أن تأكّد في مجال الكتاب. ففي معرض الكتاب الدولي الأخير، وقعت سابقة في تاريخ هذا القطاع وحريات النشر والتعبير منذ 2011، إذ تمت لأول مرة مصادرة كتاب من أروقة المعرض وفي أول أيامه، و”تشميع” جناح دار النشر لأسباب سياسية ظاهرة، وإن تعللت لجنة التنظيم بأسباب إجرائية فيما بعد. ما يلفت الانتباه هنا، هو ضعف موقف الناشرين في الرد على تلك الحادثة، إذ لم يقع التنديد بها علنا وفي بلاغ رسمي، بل إن الصفحة الرسمية لاتحاد الناشرين على الفيسبوك، نشرت فيما بعد الرواية الرسمية للجنة التنظيم. وحتى حركة الاحتجاج التي تلت الحادثة وتمثلت في إغلاق الناشرين التونسيين لأجنحتهم، فإنها امتدت لأقل من ساعة، بل تمت عمليا في الساعة قبل الأخيرة، والتي يضعف فيها الإقبال بشكل كبير على المعرض، كما أنها لم تشمل سوى عدد محدود من العارضين.

ولئن دفع الجدل الحاصل حينها الرئيس سعيّد إلى زيارة مكتبة الكتاب لإبعاد شبهة الصنصرة. إلاّ أنّ ما حصل يبقى سابقة خطيرة، ويعكس ليس فقط عودة الأساليب القديمة، ولكن أيضا حقيقة ضعف الهياكل المؤطرة لقطاع النشر وارتهانها لسلطة الإشراف الماسكة ب”خزائن الدعم”، وكذلك اهتزاز شرعيتها وعجزها عن احتواء وتمثيل شريحة كبرى من الناشرين، خاصة الصغار منهم. ولتكون النتيجة الحتمية لهذه المنظومة، إضعاف صناعة الكتاب عوض دعمه، و تهديد حجر الزاوية فيها: حريات النشر والتعبير. إذ تستفيد السلطة من تحويل منظومة الدعم إلى أداة سياسية لمكافأة الموالين من الناشرين وحرمان من يختار منهم نقد هذه السياسة أو التنديد بها. بل إنها تذهب لما هو أبعد، أي جعلها عصا من عِصِيّ الرقابة العديدة مثل التلويح بالمراجعة الجبائية، التي قد تعود لها، لترهيب من يختار من الناشرين، خوض تجربة نشر مؤلفات تعارض أو على الأقل تساءل السلطة القائمة. فهشاشة القطاع وارتباطه بآليات دعم عمومي غير شفافة تصبح، في سياق حكم الفرد، خطرا داهما يهدّد حرية الفكر والتعبير والنشر التي افتكّتها الثورة التونسية.


[1] جمال زرن، نشأة وتطور النشر الخاص في تونس منذ الاستقلال، المجلة العربية للتوثيق والأرشيف والإعلام، العدد 7-8، مؤسسة التميمي للبحث العلمي، تونس 2000، ص3.

[2] َAbir KRÉFA, Un marché récent et étroit In: Écrits, genre et autorités: Enquête en Tunisie. Lyon: ENS Éditions, 2019, DOI: https://doi.org/10.4000/books.enseditions.10877, parag.18. (generated 25 juillet 2023).

[3] من أبرز دور النشر التي انسحبت من اتحاد الناشرين التونسيين، دار الجنوب، نقوش عربية، سراس، محمد علي وديمتار وغيرها.

[4] أساسا من خلال الجوائز والتكريمات والجوائز التشجيعية.

[5] تخضع هذه المنحة للأمر عدد 1847 لسنة 2004 المؤرخ في 2 أوت 2004 والمتعلق بإحداث لجنة استشارية لإسناد النسبة الموحدة للدعم على جميع أنواع الورق المستعمل في صناعة الكتاب الثقافي وكتاب الطفل والكتاب الفني الفاخر وضبط تركيبتها وطرق سيرها.

[6] تخضع هذه المنحة للأمر عدد 3201 لسنة 2013 المؤرخ في 31 جويلية 2013 والمتعلق بضبط شروط وطرق تدخل صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني.

[7] میزانیة الدولة لسنة 2023: مھمة الشؤون الثقافیة، الجمهورية التونسية، وزارة المالية، ديسمبر 2022، ص283.

[8] تخضع هذه العملية للأمر عدد 749 لسنة 1979 المؤرّخ في 21 أوت 1979 والمتعلّق بتشجيع حركة الإنتاج الأدبي والعلمي كما تم تنقيحه بالأمر عدد 590 لسنة 1992 المؤرّخ في 16 مارس 1992 و بالأمر عدد 98 لسنة 1995 المؤرّخ في 16 جانفي 1995.

[9] میزانیة الدولة لسنة 2023: مھمة الشؤون الثقافية، م.س.، ص257.

[10] دائرة المحاسبات، التقرير السنوي العام التاسع والعشرين: نتائج الأعمال الرقابيّة المنجزة خلال السّنة القضائيّة 2013-2014، ص. 385.

[11] ينص الفصل الرابع من الأمر 3201 لسنة 2013 المتعلق بالصندوق الوطني للتشجيع على الإبداع على قابلية تفكيك اللجنة الاستشارية المكلفة بالبت في قبول الطلبات إلى عدة لجان فرعية.

[12] شهادة الناشر والكاتب سامي مقدم بتاريخ 5 جويلية 2023.

[13] قبل إقالتها، قامت هالة الوردي المديرة السابقة لإدارة الآداب، بإعلام النيابة العمومية حول شبهة تدليس وتلاعب بعقدي نشر أقدم عليها أحد الناشرين، بتاريخ 20 نوفمبر 2017.

[14] Jean-Claude MAITROT, « POUVOIR DISCRÉTIONNAIRE », Encyclopædia Universalis [en ligne], consulté le 8 juillet 2023.

URL : https://www.universalis.fr/encyclopedie/pouvoir-discretionnaire/

[15] الفصل الخامس من الأمر 3201 لسنة 2013 .

[16] دائرة المحاسبات، التقرير السنوي العام التاسع والعشرين، م.س.، ص385.

[17] المشروع السنوي للقدرة على الأداء لوزارة الشؤون الثقافية لسنة 2021، وزارة الشؤون الثقافية، وحدة التصرف في الميزانية حسب الأهداف، 2021، ص137.

[18] المشروع السنوي للقدرة على الأداء لوزارة الشؤون الثقافية لسنة 2022، وزارة الشؤون الثقافية، وحدة التصرف في الميزانية حسب الأهداف، 2022، ص100.

[19] بلاغ اتحاد الناشرين بتاريخ 29 أوت 2022.

[20] أكد هذا كل من الناشرين سامي مقدم ومحمد سلايمية.

[21] بيان جمعيتي قراء بلا حدود وعشاق الكتب سوسة بتاريخ 28 جوان 2021.

[22] Karim Ben Smaïl ,Pour L’édition Tunisienne, Nawaat, 10/10/2016.

[23] في دورة 2019 شاركت لأول مرة دار نشر “كتوبيا” المصرية، وبسبب الموقع المخصص لجناحها ، لم تعد الدار للمشاركة من جديد، وهو نفس الأمر الذي تكرر مع دار “الكرمة” المصرية” سنة 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات إدارية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني