“قضية القهوة” أو حملة تصفية المعارضة بقضاء تحت الترهيب


2023-03-17    |   

“قضية القهوة” أو حملة تصفية المعارضة بقضاء تحت الترهيب

فيما تتواصل حملة الإيقافات ويرتفع عدد الموقوفين على ذمة قضايا جزائية لا خيط ناظم يجمع بينها، ترتفع أصوات هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين لكشف محتوى القضية الأكثر تداولا من جهة والتنديد بالظروف اللاإنسانية التي أصبح يتعرّض لها الموقوفون. أساليب التنكيل التي تتبعها الإدارة السجنيّة تترافق مع ضغوط على القضاء النّاظر في ملفّاتهم بما يكمّل السياسة المتبعة لتقويض المعارضة. ومجدّدا، لا يزال الدليل الأقوى على أنّ الأمر لا علاقة له بأيّ محاسبة قضائيّة، كلام الرئيس قيس سعيّد نفسه. فبعد أن أطلق بنفسه التّهم، وأصدر أحكام الإدانة، معتبرا أنّ “الذين تمّ إيقافهم هم إرهابيّون”، أطلّ الرئيس مجدّدا ليحذّر القضاة بلهجة لا تحتاج تأويلا، حيث صرّح أنّ “من يتجرّأ على تبرئتهم هو شريك لهم”. تهديد تأكّدت جدّيته حين “تجرّأ” أحد القضاة على ترك موقوف في إحدى القضايا في حالة سراح، فجاء الجواب سريعا عبر عمليّة تفقّد وإيقافه عن العمل وتغيير أقفال مكتبه، حتى يكون عبرة لزملائه. فالرسالة واضحة والهدف جليّ: مفاتيح السجن بين يديْ الرئيس وبوليسه، والقضاة الذين يمانعون ذلك مآلهم الإعفاء والملاحقة. دفع ذلك جمعيّة القضاة للتنديد بلهجة واضحة بسياسة ترهيب القضاة الهادفة “لإشاعة الخوف في صفوفهم والتأثير على قراراتهم وتطويعهم بقصد دفعهم إلى تطبيق التعليمات”. في الأثناء، أصبحت بطاقات الإيداع، للموقوفين الذين تشتمّ عليهم رائحة السياسة، تصدر بشكل آلي، بقطع النظر عن محتوى ملفاتهم. أمّا السلطة، بدءا بسعيّد نفسه، فلا تتردّد في استثمار الحملة سياسيّا، باسم “المحاسبة” و”الحرب على الفساد”، لتشويه وتخوين كلّ معارضيها، وتغطية فشلها الذريع وقيادتها البلاد بخطوات سريعة نحو الانهيار الشامل. 

عندما تصبح المعارضة “تآمرا” و”إرهابا”

لئن كانت حملة الإيقافات المتزامنة تتعلّق بقضايا متعدّدة، إلاّ أنّ الملفّ الأبرز، الذي أقحم فيه معظم قيادات المعارضة، هو ملفّ “التآمر على أمن الدولة”، أو الأصحّ، “تآمر الدولة على المعارضة”. انطلق البحث، حسب ما نشره المحامي أمين بوكر تكذيبا لادّعاءات عميد المحامين، بتقرير أمني ليس فيه سوى جملة وحيدة، وهي أنّ “عددا من الأشخاص بصدد التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”، لم يرسل لوكيل الجمهورية، وإنّما لوزيرة العدل ليلى جفال، التي تولّت بنفسها تعهيد النيابة العمومية. أحيل في هذا الملفّ 17 متّهما، من بينهم 7 شخصيات سياسيّة معارضة معروفة. فقد شملت الإيقافات ثلاث قيادات بارزة في جبهة الخلاص، وهم جوهر بن مبارك وشيماء عيسى ورضا بلحاج، بالإضافة إلى الأمين العامّ للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العامّ المستقيل منذ أشهر قليلة من التيار الديمقراطي غازي الشواشي، وجميعهم تمّ إيقافهم بين 22 و24 فيفري. طريقة الإيقاف أثارت مجدّدا الكثير من الانتقاد. غازي الشواشي، الذي اكتشف صباح 24 فيفري أنّه مشمول في القضيّة حين أراد نيابة عدد من المتهمين، فوضع نفسه على ذمة القضاء، وقع إيقافه في ساعة متأخرة من الليل في منزله بطريقة استعراضيّة. أمّا إيقاف جوهر بن مبارك، فقد حصل بعد أن لجأ البوليس إلى تفتيش منزل والده عز الدين بن مبارك الحزقي، المناضل اليساري منذ السبعينات، ونقله في سيارة أمنيّة لمدّة ساعات، في ما فُهم كتهديد وابتزاز لإجبار القيادي في مواطنون ضدّ الانقلاب وجبهة الخلاص على الظهور.

انضافت القيادات المعارضة الخمس إلى القائمة الأولى للموقوفين في القضيّة ذاتها، وهم خيام التركي، الناشط السياسي المستقلّ، وعبد الحميد الجلاصي، القيادي السابق المستقيل من حركة النهضة، وكمال اللطيف، رجل الظلّ المعروف بشبكة علاقاته الواسعة، والأزهر العكرمي، المحامي والناشط السياسي المعارض، الذين وقع إيقافهم بين 11 و13 فيفري، أسوة بأشخاص آخرين لم يعرفْ لهم أيّ نشاط سياسي بارز، أقحموا في الملفّ بناء على أرقام سيارات مرتبطة بهم زارت منزل خيام التركي أو تواجدت معه في نفس المكان أو تواجدت سياراتها قرب محلّ سكناه، بعضهم أخلي سبيله، وآخرون شملهم قرار فتح البحث. لكنّ الأزهر العكرمي أفرد بملفّ مستقلّ، لأسباب مجهولة، وتمّت إحالته على مكتب التحقيق 12 الذي قام بدوره بإنابة وحدة مكافحة الجرائم المتشعّبة من دون سماعه أو توجيه أي تهمة له في سابقة خطيرة. بعد مرور 15 يوما من الإيقاف، تمّ استجواب العكرمي من قبل قاضي التحقيق أساسا حول لقائه بخيام التركي ممّا أثار استغراب المحامين الذين تساءلوا حول قانونية سماعه فيما يخص ملفّا قضائيا من أنظار مكتب تحقيق آخر. بعد إصدار بطاقة إيداع بالسجن في حقه، قرّر قاضي التحقيق المذكور إرجاع الملفّ إلى مكتب التحقيق 36 وضمّه بالتالي إلى ملفّ  التآمر.  ووُضع العكرمي في ظروف إيقاف أصعب من بقيّة المتهمين، مما دفع المحامين إلى استنتاج وجود قرار سياسي بالتنكيل به بشكل خاصّ، ربّما بسبب لهجته اللاذعة في معارضة سعيّد.

شمل قرار فتح البحث متهمين آخرين ورد ذكرهم في “الوشاية” التي يرتكز عليها الملفّ، أبرزهم برنار هنري ليفي، الوجه الإعلامي والثقافي الفرنسي المثير للجدل، على خلاف أسماء كثيرة أخرى وردت في الوشاية ذاتها، فيما يفسّر بمحاولة تشويه المعارضة عبر ربطها بشخصيّة صهيونيّة معروفة بدفاعها المستمرّ على أبشع الجرائم الاسرائيليّة. كما ألحق بملفّ المؤامرة نور الدين بوطار، المدير العامّ لإذاعة موزاييك، الموقوف منذ 13 فيفري، والذي شمل استنطاقه حينها أسئلةً حول الخطّ التحريري للمؤسسة، “في انتظار إيجاد تهمة له”، ثمّ تمّ تمديد الاحتفاظ به لشبهة تبييض أموال لم تستند لأيّ تحاليل ماليّة أو قرائن جدّية، قبل أن يصدر قاضي التحقيق بالقطب الاقتصادي والمالي في حقّه بطاقة إيداع.


وقد وجّهت لهم جميعا تهمٌ عديدة وفق قانون مكافحة الإرهاب، من بينها “تكوين تنظيم ووفاق إرهابي له علاقة بالجرائم الإرهابية” و”العزم المقترن بعمل تحضيري على ارتكاب جريمة قتل شخص” و”استعمال تراب الجمهورية وتراب دولة أجنبية لانتداب وتدريب شخص ومجموعة من الأشخاص بقصد ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابية داخل تراب الجمهورية وخارجه” و”الإضرار بالأمن الغذائي والبيئي بما يخل بتوازن المنظومات الغذائية والبيئية أو الموارد الطبيعية أو يعرض حياة المتساكنين او صحتهم للخطر” و”توفير بأي وسيلة كانت أسلحة ومتفجرات وذخيرة”. يُجمع المحامون الذين اطّلعوا على الملفّ أن لا شيء داخله يحيل على صبغة إرهابيّة، ولا على محاولة “اغتيال”. لذلك لم يُسأل أيّ من المتّهمين عن أيّ أفعال من هذا النوع خلال التحقيق معهم، حسب ما تؤكده هيئة الدفاع عنهم. ما الذي يفسّر إذن توجيه التهم الإرهابيّة، عوض الاكتفاء بترسانة التهم الموجودة في المجلّة الجزائيّة ومن بينها “المؤامرة” لارتكاب “الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة”، وهي التهمة المفضّلة لدى الأنظمة الاستبداديّة التي مرّت بها البلاد؟ الإجابة، حسب تصريحات المحامي العياشي الهمامي الإعلاميّة، هي في ما يتيحه قانون الإرهاب من صلاحيات استثنائيّة، في علاقة بآجال الاحتفاظ التي تصل إلى 15 يوما، وإمكانية استنطاقه من دون حضور محامي خلال 48 ساعة من الإيقاف، بالإضافة إلى صلاحيّة إخفاء أسماء شهود أو واشين “في حالات الخطر الملمّ وإن اقتضت الضرورة ذلك”، حسب الفصل 75 من قانون مكافحة الإرهاب، التي استعملت لتكوين الوثيقتين الأهمّ في الملفّ.

وشاية عن مجهول لحبك رواية المؤامرة

“ملفّ القهوة”. هكذا اختار بعض المحامين في الأيّام الأولى بعد الإيقافات أن يصطلحوا على قضيّة “التآمر”. فقد كان الملفّ، إبان الاعتقالات الأولى، خاليا من أيّ مؤيدات، وأنّ المجموعة الأولى للإيقافات شملتْ أشخاصا صادف أن “احتسوا قهوة” مع خيام التركي أو تواجدتْ سياراتهم المفترضة قرب منزله، خلال الأسابيع الأخيرة قبل إيقافه، باستثناء كمال اللطيف، الذي لم يظهر ما يؤكد أيّ علاقة بينه وبين التركي. أمّا السلسلة الثانية من الإيقافات، والتي توجّهت مباشرة إلى رموز المعارضة، فقد استندتْ حسب الوثائق المسرّبة من الصفحات المساندة للسلطة على ما رُصد من محادثات بينهم وبين خيام التركي في هاتف الأخير. تحولنا بذلك من “ملفّ القهوة”، إلى “ملف الواتساب”. لم يظهر من المحادثات التي اختارت تلك الصفحات تسريبها أيّ دليل على “تآمر على أمن الدولة” أو أيّ جريمة إرهابيّة. إذ تعلّق بعضها ببرمجة اجتماعات بين شخصيات معارضة في منزل التركي، أو نقاشات حول المستجدات السياسيّة، أو لقاءات مع سفراء. حتّى المحادثة المرصودة مع مسؤولة في السفارة الأمريكية، والتي ترجمت كما لو تعلّق الأمر باجتماع ضمّ “ضابطيْن” أمريكيين، هي ناتجة عن خطأ في الترجمة، حيث أنّ عبارة “two other American officers” تعني “موظفيْن/مسؤوليْن أمريكيّين آخريْن” في السفارة، لا علاقة لها بالمُعجم العسكري وقد بيّنت المحامية إسلام حمزة خلال الندوة الصحفية  لهيئة الدفاع على أنّ المحادثة تعلّقت بموظّفتين بالسفارة الأمريكية. وبغضّ النظر عن النقاش الجائز حول شروط التعامل مع الدول الأجنبيّة والتقييم السياسي له، فإنّ القانون لا يجرّمه، ومجرّد حدوث لقاء، ولو لم يكن معلنا أو رسميّا، لا يمكن أن يكون دليلا على “تآمر على أمن الدولة”. الأمر ذاته ينطبق على التساؤل في محادثات خاصّة حول موقف الجيش وقياداته، الذي تحوّل إلى مادّة للنقاشات السياسيّة منذ أن أقحمه سعيّد في قلب المعترك عبر انقلابه على الدستور في 25 جويلية 2021.

كما لم يكن خافيا على المتابعين أنّ خيام التركي يقوم بمساعٍ لتوحيد المعارضة، وأساسا جبهة الخلاص وخماسي الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة واليساريّة، في مبادرة سياسيّة جديدة. بل أنّ هذه المساعي، التي شاركت فيها الشخصيّات المعارضة الموقوفة، وما واجهته من ممانعة، ساهمت على الأرجح في انسحاب الشواشي من حزبه التيار الديمقراطي، وخروج الحزب الجمهوري من الخماسي، قبل إيقاف زعيمه بأسبوعين. وبقطع النظر عن أماكن وتوقيت ومدى علنيّة هذه الاجتماعات، فإنّها تبقى عملا سياسيّا بامتياز، لا يكوّن أركان جريمة “التآمر على أمن الدولة”، إلاّ في حال اعتماد مقاربة مسكونة بهوس المؤامرة وشيطنة أيّ خطاب معارض.

وبما أنّ هواتف الموقوفين وتفتيش محلاتهم لم يفضِِ حسب ما يؤكّده المحامون إلى أيّ أدلّة على “مؤامرة لتغيير هيئة الدولة” أو أيّ جرائم إرهابية، ولا حتّى لقرائن جدّية على وجود تنسيق بين مجموعة القيادات المعارضة وكمال اللطيف، تعزز الملفّ بشهادة باسم “XX” ووشاية باسم “XXX”، تعودان تباعا حسب محامي الدفاع لتاريخ 16 فيفري و18 فيفري، أي بعد أيام من بداية موجة الإيقافات. وقد رفض قاضي التحقيق مطلب المحامين بالكشف عن هويّتي الشخصيْن، مما دفعهم للطعن أمام دائرة الاتهام. وقد أكّد المحامون أنّ روايات المؤامرة جاءت على لسان الشخصيْن المجهوليْن ليس بناءً على ما شاهدوا مباشرة، وإنّما على مجرّد توقعات أو أخبار “متواترة لدى الجالية التونسيّة في الخارج” وبلغت إلى مسامعهم، تنسب لكمال اللطيف ليس فقط نفوذا سياسيّا خارقا خلال عشريّة الانتقال الديمقراطي، وإنما أيضا مخطّطات انقلابيّة أقحمت فيها أسماء عديدة لشخصيات في الداخل والخارج ونشطاء ونقابات ومنظمات ووسائل إعلام. ولعلّ أكثر ما يطعن في مصداقيّة الرواية هو أيضا عناصرها و”معطياتها” التي يصعب أخذها على محمل الجدّ، كالحديث عن اجتماعات تآمريّة داخل مقرّ سفارة تونسيّة في الخارج من دون علم السفير آنذاك والذي تمّ تعيينه حديثا كوزير للشؤون الخارجية. 

لم تكتفِ الوشاية والشهادة بحبك خيوط رواية مؤامرة غير قابلة للتصديق، وإنما كانت طريقة لترهيب بقيّة المعارضين ممن ورد ذكرهم في الملفّ. فبذلك المنطق، الجميع عرضة لإيقافه وإقحامه في قضايا إرهابيّة، مع تُهم تصل عقوبتها إلى الإعدام، بقرار سياسي ومن دون احترام قرينة البراءة وبالضغط المباشر على القضاة. كان ذلك واضحا عند إصدار بطاقات الإيداع ضدّ المعارضين المتّهمين في قضيّة التآمر يوم 25 فيفري بطريقة آليّة، بعد توجيه بضعة أسئلة لكلّ منهم لا تتعلّق بالتهم الإرهابيّة المنسوبة لهم، مما دفع المحامين إلى الانسحاب من جلسة التحقيق بعد صدور بطاقة الإيداع الثالثة، بدل مواصلة الحضور في مسرحيّة سيّئة الإخراج.

سياسة الترهيب والتخوين والتشويه

تهم “التآمر” ومحاولة الاغتيال، التي يردّدها الرئيس منذ أشهر طويلة من دون أيّ دليل وأي ملفّ جدّي، أصبحت خطابا رسميّا. كلّ من يعارض متآمر. جميعهم “باعوا الوطن” حسب وزير الداخلية توفيق شرف الدين، بدءا بـ”النقابيين” إلى “النخب السياسية” مرورا برجال الإعلام الذين تحولوا إلى “مرتزقة”. قضيّة “التآمر” هي الأداة العمليّة لترجمة خطاب التخوين والوعيد الذي دأب عليه قيس سعيّد، إلى واقع مرعب. التهمة كانت جاهزة لدى سعيّد قبل تكوّن الملفّ، وعبّر عنها خطاب 28 ديسمبر المتشنج. بل كانت جاهزة قبل أشهر من ذلك، حين أصرّ سعيّد على ملاحقة النواب المجتمعين في جلسة عامّة افتراضيّة في 30 مارس 2022، بعد أن “جمّد” عمل البرلمان إلى أجل غير مسمى باسم الحالة الاستثنائيّة التي لا تجيز ذلك وبقوّة المدرعات العسكريّة. اعتبر سعيّد حينها جلسة البرلمان محاولة انقلابيّة وأصرّ على توجيه تهم الإرهاب إلى النوّاب، فدفع القضاة الذين لم يتجاوبوا مع تلك الضغوطات الثمن غاليا، إذ وردتْ أسمائهم ضمن مذبحة الإعفاءات. السيناريو ذاته يتكرّر اليوم. فالرسالة واضحة لكلّ القضاة الذين يتجرؤون على إعمال ضمائرهم وتطبيق القانون: سيف الإعفاء مصلّت فوق رقابهم، ومعه ملاحقات بتهم إرهابيّة إن لزم الأمر. يكفي إبقاء موقوف كالحطاب بن عثمان رئيس نقابة إطارات وأعوان العدلية، في حالة سراح في القضيّة الأولى التي أوقف من أجلها، كي يأتي العقاب مباشرة ضدّ القاضي، بالتوازي مع إعادة إيقاف المتهم في قضيّة ثانية. فالسراح ممنوع بقرار سياسي، وهو ما حصل أيضا مع البشير العكرمي، الذي وقع إيقافه في 12 فيفري، بناء على شكاية من أعوان الفرقة الأمنيّة التي سحبت منها الإنابة العدلية في قضيّة هجوم باردو الإرهابي بعد معاينته آثار التعذيب على المتهمين الذين ثبتت بعد ذلك براءتهم، ثمّ إيداعه في مستشفى الرازي للأمراض النفسيّة بقرار قضائي، ثمّ إيقافه مجدّدا حين كانت عائلته تستعدّ للعودة به من المستشفى، على خلفيّة اتهامات قديمة- جديدة كانت فرصته الوحيدة للردّ عليها في حوار مع المفكرة، ليتمّ تمديد الاحتفاظ به مرّتين.

تتالت الإيقافات في الأسابيع الأخيرة ضد سياسيّين في ملفات عديدة، من بينهم محمد بن سالم القيادي في حزب العمل والإنجاز، المستقيل منذ سنتين من حركة النهضة، وأحمد العماري النائب السابق عن الحركة، والناشط السياسي علي اللافي، بتهم تكوين وفاق لمحاولة اجتياز الحدود التونسية خلسة ومسك عملة أجنبية، وصدرت في شأنهم بطاقات إيداع، بعد أن وقع استنطاق بن سالم داخل مستشفى صفاقس بالنظر لحالته الصحّية الحرجة. كما شملت الإيقافات القياديّين في حركة النهضة الحبيب اللوز، في قضيّة لم تعلن بعد طبيعتها، والسيد الفرجاني، بتهم مرتبطة بقضيّة “انستالينغو”، ليُضافوا إلى نور الدين البحيري الصادرة في حقه بطاقة إيداع على خلفيّة تدوينة سياسيّة مشحونة بالمعجم الديني، وعلي العريّض الموقوف في قضيّة “التسفير إلى بؤر التوتر” منذ أشهر. تزامن كلّ هذه الإيقافات، لا يمكن إلاّ أن يعزّز الشكوك حول مدى جدّية الملفات. فما يقدّم على أنّه “محاسبة طال انتظارها”، تغيب فيه أبسط ضمانات المحاكمة العادلة، وتفوح منه رائحة الضغط السياسي، مما يفقد الحديث على عدالة تقوم بدورها أو على قضاء مستقلّ أيّ معنى.

ليس غريبا أن تتزامن حملة الإيقافات مع تزايد التضييقات ضدّ حرية التظاهر، كقرار والي تونس بمنع مسيرة جبهة الخلاص احتجاجا على الاعتقالات السياسية الأحد الماضي بحجّة “شبهات التآمر” ضدّ بعض قيادييها، والملاحقات ضدّ نشطاء من بينهم نقيب الصحفيين المهدي الجلاصي على خلفية وقفة احتجاجية انتظمت أياما قبل الاستفتاء. كما اشتدّ الخناق أكثر فأكثر على حرية الإعلام، ليس فقط عبر إيقاف نور الدين بوطار مدير إذاعة موزاييك والزج بوسائل إعلام أخرى في قضيّة “تآمر الدولة على المعارضة”، وإنما أيضا عبر منع وسائل الإعلام من مواكبة الجلسة الأولى لمجلس نواب الشعب وممارسة الرقابة على الصحفيين في وكالة تونس إفريقيا للأنباء كما نددت بها نقابة الصحفيين، بعد تحويل التلفزة الوطنية إلى إعلام حكومي لترويج بروباغندا السلطة، إضافة إلى التتبعات المتواصلة باستعمال سلاح المرسوم 54. توّج الرئيس منعرجه الاستبدادي بمرسوم حلّ المجالس البلديّة المنتخبة وتعويضها بنيابات خصوصيّة معيّنة، من دون تحديد تاريخ الانتخابات البلديّة، ليهدم آخر البنايات المتبقيّة من منجزات الانتقال الديمقراطي، وآخر السلط التي بقيت خارجة عن سيطرته. هكذا هو المشهد: رئيس، بعد افتكاكه لكل السلطة، وإخضاعه القضاء على مراحل باستعمال سيف الإعفاء المباشر، يمضي يوما بعد يوم في إغلاق فسحة الحرّية التي لم ندرك للأسف قيمتها، وهدم المكاسب المحقّقة منذ الثورة، وإرساء حكم استبدادي لا ينقصه عمّا عرفته تونس قبلها سوى حدّ أدنى من العقلانيّة.

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية -تونس العدد 26

للاطلاع على العدد كاملا

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، تحقيقات ، حرية التنقل ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني