قضاة تونسيّون كما يتصوّرون مهنتهم (1): الأسئلة التمهيدية لصياغة المدوّنة

،
2022-06-27    |   

قضاة تونسيّون كما يتصوّرون مهنتهم (1): الأسئلة التمهيدية لصياغة المدوّنة

منذ نشأتها، تُعلّق “المفكّرة القانونية” أهمّيّة كبيرة على بيئة المهن القانونية وفهمها لوظائفها وأخلاقيّاتها. وهي ترى أنّ هذه البيئة تُشكّل عاملاً أساسياً في تعزيز احتراف هذه المهن وقدرتها على تطوير وظائفها التي وُجدَتْ مبدئياً من أجلها: ضمان حقّ الدفاع عن النفس بالنسبة إلى المحامين، وحماية الحقوق والحرّيّات ضمن منظومة عادلة بالنسبة إلى القضاة. من هذا المنظور، من شأن هذه البيئة أن تشكّل عاملاً أساسياً في مواجهة التدخّلات الحاصلة من خارج هذه المهن بهدف حرفها عن صلب مهامّها. وعليه، رأت “المفكّرة القانونية” أهمّيّة في إطلاق تفكير مشترك في المنطقة العربية – وبخاصّة في الدول التي تعمل فيها، لبنان وتونس والمغرب – في شأن الأخلاقيّات القضائية. وقد زاد إلحاح هذه الفكرة مع إقرار قوانين لتحقيق استقلاليّة القضاء في المغرب وتونس تنزيلاً للإصلاحات القضائية فيهما، تحديداً بعدما أُنيط بالمجالس العليا المُنشأة بموجبها وضع مدوّنة للأخلاقيّات القضائية. وعليه، تعاونت “المفكّرة” مع شركائها في تونس والمغرب لإنجاز استمارة هي بمثابة دعوة لكلّ قاضٍ إلى إبداء رأيه في شأن مدوّنة الأخلاقيّات، سواء لجهة المنهجيّة الواجب اعتمادها أو لجهة شكلها أو مضمونها. وفي هذا الاتّجاه، تمّ ملء الاستمارة في 2018 بجهود عددٍ من القضاة المشكورين جدّاً، وذلك من قبل 333 قاضياً تونسياً. ولئن تقرّر الاحتفاظ بـ254 استمارة فقط بعدما اتّضح أنّ ثمّة خللاً في ملء سائر الاستمارات بشكل مناسب، يبقى العدد مُعبِّراً حيث أنّه يزيد عن نسبة 10% من مجموع قضاة تونس. وتأتي هذه المقالة لتحلّل نتائج هذه الاستمارة، على أمل أن تسهم في عمليّة صياغة مدوّنة الأخلاقيّات الموعودة.

وقبل المضيّ في ذلك، يجدر التذكير بأنّ “المفكّرة القانونية” صاغَتْ، بالتعاون مع شركائها، تصوّراً تجديدياً[1] للأخلاقيّات القضائية على نحو يجعلها أداة أكثر فعاليّة وقدرة على تطوير البيئة القضائية. فعلى نقيض التوجّه العامّ الذي ينتهي غالباً إلى رسم صورة القاضي النموذجي على أنّه شخص خارق ذو مواصفات غير اعتيادية وقادر بفعل ذلك على مواجهة جميع الضغوط والتدخّلات بقوّته الذاتية، يدعو هذا التصوّر إلى إعادة رسم صورة القاضي النموذجي انطلاقاً من مواصفات الإنسان العادي، بما له من جوانب قوّة وضعف. فإذا تمّ ذلك، توجّب تحديد الموجبات الأخلاقية القضائية على النحو الذي يمكّن القاضي من ممارسة دوره بأفضل الطرق. ومنها ما يناقض تماماً ما ذهب إليه العديد من المدوّنات في المنطقة العربية. وبذلك، ننتقل من نظام الأخلاقيّات الفردية التي يتعيّن على كلّ قاضٍ، مهما بلغت التحدّيات أمامه، المحافظة عليها منفرداً وبصمت إلى نظام الأخلاقيّات الجماعية التي يجدر بالجسم القضائي برمّته تطوير آليّاته للمحافظة عليها، بما في ذلك من تلاقٍ وتفاعل وتضامن وتآزر؛ أو ننتقل من نظام تجريد القاضي من حرّيّة الكلام والتجمّع باسم موجب التحفّظ إلى نظام تشكّل فيه حرّيّة القاضي إحدى الضمانات الأساسية للمحافظة على استقلاليّته.

هذا تصوّر “المفكّرة القانونية” الذي أسمته التصوّر التجديديّ. ولكن ماذا عن تصوّر القضاة التونسيين؟ هذا ما بينّاه في كتيب نشرته “المفكرة القانونية” في هذا الشأن، وهو كتيّب سننشره فصوله تباعا على الموقع نشرا للفائدة.

الفصل الأوّل: الأسئلة التمهيدية لصياغة المدوّنة

أ- أي نموذج لمدوّنة الأخلاقيّات القضائية؟

من الأسئلة الأولى التي تضمّنتها الاستمارة، سؤال حول النموذج الذي يرغب قضاة العيّنة اعتماده في تحرير مدوّنة الأخلاقيّات القضائية. فهل هم يرغبون بمدوّنة ذات طابع توجيهي أم مدوّنة تشكّل أحكامُها أساساً للملاحقة التأديبية أم مدوّنة تحتمل المزاوجة بين القواعد التوجيهية والتأديبية، كأن تنحصر القواعد التأديبية في القواعد التي تتّسم بدرجة معيّنة من الخطورة أو القواعد التي تنصّ عليها القوانين صراحة وبشكل دقيق؟

وقد جاءت الغالبيّة النسبية للإجابات في مصلحة الطابع التوجيهي للمدوّنة (39%). وفيما انعدمت تقريباً نسبة الراغبين بمدوّنة ذات طابع تأديبي صرف (6%) أبدى عدد من القضاة قبولهم بمدوّنة تتضمّن بعض القواعد ذات القوّة التأديبية، إمّا بفعل خطورتها (22%) وإمّا في حال استنادها إلى نصّ قانوني يعرّف عنها بصراحة وبشكل دقيق (31%). نستشفّ من ذلك ميلاً لدى القضاة التونسيين إلى اعتماد مدوّنة توجيهية وإرشادية، تشكّل بالنسبة إليهم مرجعاً يسترشدون به لتحديد السلوكيّات الأكثر ملاءمة، وفي الآن نفسه توجّساً حيال القواعد التي قد تشكّل سيفاً مصلتاً عليهم فلا يقبلون بها إلّا إذا كانت محدَّدة قانوناً وبدقّة أو إذا كانت محصورة في المسائل التي ترشح عن خطورة معيّنة.

كما نستشفّ التوجّه نفسه من إجاباتهم عن سؤال آخر يتّصل بمدى وجوب التزام المسؤولين القضائيين بقواعد أكثر صرامة. ففيما وافقت غالبيّة القضاة على هذا الموجِب (152 قاضياً؛ 60%)، عزا 70% منهم ذلك إلى المثال الذي يجب أن يشكّله هؤلاء لسائر القضاة مقابل (57%) من هؤلاء عزوا هذا الواجب إلى التأثير الكبير لتصرّفات المسؤولين على المجتمع. فكأنّما القضاة يأملون من المسؤول أن يكون مثالاً يحتذون به أكثر من كونه واجهة للقضاء أمام الرأي العامّ. ومؤدّى ذلك هو التعبير عن الحاجة إلى المثال الذي بإمكان القضاة اتّباعه.

تشكّل إجاباتهم في شأن تصوّرهم لأهداف المدوّنة، الذي نعود إليه أدناه، دليلاً آخر على اختيار النموذج التوجيهي. ففيما رأى 45 من قضاة العيّنة أنّ هدفها الأكثر أهمّيّة هو توثيق قواعد أخلاقية نابعة من روح الجسم القضائي وممثِّلة له ضماناً لحسن نفاذها، رأى 5 منهم فقط أنّ الهدف الأكثر أهمّيّة هو السماح للمؤسّسات القضائية أو السلطات الأخرى بمساءلة القضاة.

ونستشفّ التوجّه نفسه من المفاضلة التي عبّرت عنها الإجابات في ما خصّ شكل التدخّل الذي يُفترض بالقاضي اعتماده إزاء المخالفات التي يرتكبها أحد زملائه. فقد رأى 109 قضاة وجوب التدخّل في هذه الحالة عن طريق النصح والتوجيه والحوار، علماً أنّ 45 منهم صنّفوا هذا الخيار خياراً أوّلاً. في المقابل، انخفض عدد الذين فضّلوا التشكّي إلى السلطات المعنيّة إلى 82 قاضياً. وحتّى الذين فضّلوا سلوك طريق التشكّي آثروا أن يؤدّي تحرّك هذه السلطات إلى إقناع القاضي بضرورة العدول عن تصرّفه وليس معاقبته (55 من أصل 82).

ويُلحظ في هذا السياق إبداء قضاة العيّنة رغبة واضحة في أن يتّسم الطابع التوجيهي للمدوّنة بالوضوح والدقّة. وهذا ما نستشفّه من الجواب عن السؤال الثامن حول درجة التفصيل الواجب اعتمادها عند صياغة المدوّنة. إذ مالت غالبيّة القضاة إلى وجوب اعتماد الدقّة والوضوح (49%)، فيما اختارت نسبة ضئيلة منهم فرضيّة أن تُصاغ بطريقة توجيهية تُبقي الباب مفتوحاً أمام التفسير والتساؤل (14%). ويُلحظ أيضاً، أنّ 30% من القضاة اتّخذوا موقفاً وسطياً حيث أمِلوا أن تتمّ الصياغة بطريقة توجيهية إنّما مع اعتماد الدقّة في الأمور المتّصلة بالحرّيّات أو التحدّيات الأساسية. وكان لافتاً أنّ 59% من الإجابات كشفت عن رغبة بإرفاق القواعد الأخلاقية بأمثلة توضيحية. كما نستشفّ التوجّه الغالب لتفادي أيّ غموض في المدوّنة من 98% من إجابات العيّنة عن السؤال العاشر حول المؤسّسة المعنيّة بتوضيح الواجبات الأخلاقية في حال وجود شكّ أو التباس بشأنها. فبمعزل عن المفاضلة التي عبّر عنها قضاة العيّنة بين المرجعيّات التي يمكنها أداء هذا الدور، سلّمت الغالبيّة العظمى من قضاة العيّنة بضرورة وجود هكذا مؤسّسة.

ب- أيّ هدف لمدوّنة الأخلاقيّات القضائية؟

طرحنا السؤال حول الهدف المنشود للمدوّنة في مستهلّ الاستمارة (السؤال الأوّل) وذلك تبياناً لأهمّيّته وحرصاً على الحصول على العدد الأكبر من الإجابات. وقد أعطينا للقضاة إمكانيّة اختيار أكثر من إجابة طالبين منهم في هذه الحالة ترتيب الأهداف التي يختارونها وفق أهمّيّتها بالنسبة إليهم.

ويُبيّن الجدول أدناه أنّ قضاة العيّنة غلّبوا في خياراتهم الأولى بُعدها التعليمي والتوجيهي والتوعوي للقضاة على سائر الأبعاد والأهداف المطروحة. فإذا جمعْنا الإجابات التي حدّدت خياراً أوّلاً أحد الأهداف المتمثّلة في إتاحة المجال أمام القضاة لتعميق التفكير في أدوارهم (23) واقتراح قواعد سلوكية وأخلاقية للقضاة في حياتهم المهنية والشخصية (26) وتوثيق قواعد أخلاقية نابعة من روح الجسم القضائي وممثِّلة له، ضماناً لحسن نفاذها (45) فإنّنا نحصل على مجموع 94 (37% من العيّنة). وتندرج جميع هذه الأهداف، رغم الاختلافات بينها، عملياً في اتّجاه إطلاق ورشة داخلية لتطوير القيم القضائية والتباحث بين القضاة بشأنها.

وتمثّل الاتّجاه الثاني الذي ذهب إليه قضاة العيّنة في استخدام المدوّنة أداةً لتأمين ثقة الجمهور بالقضاء. ويجد هذا الاتّجاه تفسيره في إرادة واسعة لدى القضاة باستعادة ثقة الجمهور بعدما بدا القضاء أداة في يد الديكتاتورية في مواجهة خصومها السياسيين في فترة ما قبل 2011. وكان هذا الاتّجاه الخيار الأوّل لـ73 قاضياً (29%)، كما اختاره 145 قاضياً ضمن الخيارات المناسبة.

أمّا الاتّجاه الثالث، فتمثّل في رغبة قضاة العيّنة في استخدام المدوّنة أداةً للتأكيد على حقوق وحرّيّات القضاة. وكان هذا الاتّجاه الخيار الأوّل لـ37 قاضياً، كما اختير ضمن الخيارات المناسبة من قبل 143 قاضياً. ويعكس اهتمام القضاة بهذا الهدف قناعتهم بأهمّيّة التمتّع بالحرّيّة ضمانةً لاستقلاليّتهم. وهذا ما سنعود إليه لاحقاً.

الهدفعدد الإجابات التي أوردت الهدف كخيارعدد الإجابات التي أوردت الهدف كخيار أوّل
تأمين ثقة الجمهور بالقضاء14573
توعية وإطلاع الجمهور على حقوق وواجبات القاضي11111
إتاحة المجال أمام القضاة لتعميق التفكير في أدوارهم12623
اقتراح قواعد سلوكية وأخلاقية للقضاة في حياتهم المهنية والشخصية12226
توثيق قواعد أخلاقية نابعة من روح الجسم القضائي وممثِّلة له، ضماناً لحسن نفاذها13945
التأكيد على حقوق وحرّيّات القضاة، بالتوازي مع واجباتهم14337
السماح للمؤسّسات القضائية (مجلس القضاء الأعلى أو التفتيش القضائي) بمساءلة القضاة أو السلطات الأخرى (وزارة العدل) بذلك845

وتُظهر الخيارات المبيّنة أعلاه التي عبّر عنها القضاة توجّهات متكاملة رغم اختلافها: فمنها ما هو معرفي يؤسّس لقضاء أكثر علماً وتفكيراً، وتالياً التزاماً بأخلاقيّات المهنة، ومنها ما هو تواصلي يؤسّس لعلاقة أفضل بين القضاء والمواطنين، ومنها ما هو تحرّري يعزّز قدرات القضاة على الدفاع عن استقلاليّتهم. وتبدو هذه التوجّهات متناسبة مع الاستحقاقات الناتجة عن تحوّلات 2011 حيث وجد القضاء نفسه أمام ضرورة تطوير أدائه وتحسين صورته إلى جانب انخراطه في معركة استقلال القضاء والدفاع عنه.

في المقابل، أبدى قضاة العيّنة توجّساً من استخدام المدوّنة أداة للمساءلة القضائية أو الشعبية. وهذا ما نتبيّنه من قلّة عدد القضاة الذين اختاروا السماح للمؤسّسات القضائية بمساءلة القضاة (5) أو توعية وإطلاع الجمهور على واجبات القاضي (11) خياراً أوّلاً.

ت- مَن يشارك في صياغة مدوّنة الأخلاقيّات القضائية؟ ومتى؟

في هذا الصدد، طرحنا ثلاثة أسئلة تتّصل في الآليّة التي يُفترض اعتمادها لوضع مدوّنة للأخلاقيّات القضائية. فمع التسليم بوجوب تشريك القضاة في وضع المدوّنة، تمحورت الأسئلة حول شكل هذه المشاركة وتوقيتها. فهل تتمّ من خلال استشارات فردية آلياً أو مباشرة، أم من خلال جمعيّات عمومية أو اجتماعات لعموم القضاة على صعيد كلّ محكمة، أو من خلال أيّ آليّات أخرى قد يجدها القاضي المُشارك في ملء الاستمارة مناسبة؟ ومن جهة أخرى، في أيّ مرحلة ينبغي إشراك القضاة في إعداد مشروع المدوّنة، وتحديداً في ما إذا كان ينبغي حصول ذلك قبل صياغتها أو بعدها أو في كلا المرحلتين. في السياق نفسه، تضمّنت الاستمارة أسئلة حول طريقة إشراك منظّمات المجتمع المدني في هذا الجهد.

حماس للمشاركة في صياغة مشروع المدوّنة

عند النظر في إجابات قضاة العيّنة، يتبيّن أنّ الغالبيّة عبّرت عن رغبتها في المشاركة في استشارات فردية وعدم الاكتفاء بالاستشارات الجماعية. كما عبّرت الغالبيّة الكبرى عن رغبتها في حصول المشاركة في مرحلتَيْ قبل الصياغة الأوّلية للمدوّنة وبعدها، ممّا يؤكّد مرّة جديدة إرادة القضاة في المشاركة الفعّالة في إنجازها. وفي التفاصيل، تفيدنا أرقام العيّنة بالآتي:

  • في خصوص كيفيّة المشاركة في الاستشارة، آثر 103 قضاة أن تتمّ بشكل فردي حصراً، وآثر 88 قاضياً أن تتمّ جماعياً حصراً، فيما آثر 52 من مجموع القضاة أن تتمّ الاستشارات فردياً وجماعياً. وعليه، يكون 155 قاضياً (61%) قد عبّروا عن رغبتهم بأن تتمّ استشارتهم بصورة فردية.
  • في خصوص المرحلة التي يتوجّب فيها إشراك القضاة، آثر 156 قاضياً (61%) من قضاة العيّنة أن تحصل المشاركة قبل صياغة مشروع المدوّنة وبعدها، وآثر 71 قاضياً (28%) أن تحصل الاستشارة قبل وضع المدوّنة حصراً، فيما آثر قاضيان (1%) فقط أن تحصل الاستشارة بعد وضع المدوّنة حصراً. وعليه، يظهر أنّ 89% من القضاة أعلنوا رغبتهم بالمشاركة قبل صياغة مشروع المدوّنة حصراً أو قبل وبعد هذه الصياغة.

وعلى ضوء هذه الإجابات، يمكننا استخلاص ما يلي:

  • ثمّة نيّة واضحة لدى القضاة بالمشاركة فردياً وجماعياً، بصورة قَبْلية وبَعْدية في وضع مدوّنة الأخلاقيّات القضائية. وتتأكّد رغبة القضاة بمشاركة ناشطة وفعّالة عبر إصرار غالبيّتهم على أن تتمّ استشارتهم فردياً وعدم الاكتفاء باستشارة ممثّلين عنهم، ما يعكس رغبة في مزيد من الديمقراطية المباشرة داخل القضاء في هذا الخصوص. وتتعزّز الأدلّة على هذه الرغبة من خلال إصرار غالبيّة كبرى على المشاركة القَبْلية (89%)، ما يعبّر عن شعور القضاة بأنّ الاستشارة البَعْدية غالباً ما تأخذ طابعاً شكلياً أو تكون قدرتها على التغيير محدودة. ونجد هذه النيّة في المشاركة الفعلية أيضاً في إجابات القضاة عن السؤال رقم 26 من الاستمارة الذي يتناول كيفيّة تطوير القاضي لمعارفه ومواكبته المستجدّات القضائية والقانونية، حيث عبّر العدد الأكبر نسبياً من القضاة على أهمّيّة المبادرة الفردية في اكتساب المعارف، سواء من خلال المطالعة (كتب حقوقية، أوضاع محيطه الاجتماعي) أو عبر البحث العلمي أو من خلال المؤسّسات التعليمية بناء على مبادرة شخصية” (116 قاضياً؛ 46%).
  • الرغبة بالتمتّع بأشكال من الديمقراطية المباشِرة لا تدلّ بالضرورة على توجّس إزاء الديمقراطية التمثيلية والمؤسّسات التي قد تفرزها (مجالس قضائية مُنتخَبة أو جمعيّات قضائية). والدليل على ذلك هو أنّ نسبة القضاة الذين آثروا أن تتمّ المشاركة جماعياً كانت بدورها مرتفعة نسبياً.

مَيل إلى إشراك الجهات المتخصّصة

وجاء السؤال الثالث على النحو التالي: ” ضماناً لإشراك المجتمع المدني في إعداد مدوّنة الأخلاقيّات القضائية، بأيّة طريقة ينبغي تنظيم ذلك؟” وقد فُتح المجال أمام القضاة لاختيار أكثر من إجابة.

وإذ اختار العدد الأكبر منهم “السماح للأشخاص والمنظّمات غير الحكومية المتخصّصة بالمشاركة في العمليّة المنظِّمة لإعداد المدوّنة” (53%)، تمّ تغليب هذا الخيار على خيارات أخرى من قبيل “تشجيع وسائل الإعلام على متابعة مسار إعداد المدوّنة لغاية جعلها شأناً عامّاً” (30%)، و”استطلاع الرأي العامّ” (23%)، و”تمكين كلّ شخص الاطّلاع على مشروع المدوّنة وإبداء الرأي” (20%). وعليه، يبرز “اختصاص” أشخاص المجتمع المدني شرطاً لإشراكهم في إعداد المدوّنة.

يتوافق هذا الموقف مع إجابات قضاة العيّنة عن أسئلة أخرى من الاستمارة تُظهر رغبتَهم في المزيد من الدقّة، مثلاً في درجة التفصيل الواجب اعتمادها عند صياغة مدوّنة الأخلاقيّات (السؤال 8).

وعلى عكس ذلك، تُظهر النسبة الضئيلة للراغبين بإشراك الرأي العامّ في مناقشة المدوّنة عن توجّس القضاة حياله. وربما يجد هذا التوجّس ما يبرره في فترة لا يزال فيها القضاء التونسي يعمل لاستعادة ثقة المتقاضين به وتحسين صورته أمامهم، بخاصّة بعد تغيّرات 2011. وهذا ما عبّرت عنه الغالبيّة النسبية من إجابات قضاة العيّنة والتي اعتبرت “تأمين ثقة الجمهور بالقضاء” هدفاً أوّلاً لها (73).


[1] المفكرة القانونية، “تصوّر لمدونة أخلاقيات قضائية في المنطقة العربية: في اتجاه مدونة قادرة على تطوير البيئة القضائية”، 2018.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، حريات ، المرصد القضائي ، حرية التعبير ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دراسات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني