قرار والي تونس بإيقاف قرار بلديتها: ضرب للسلطة المحلية باسم “وحدة الدولة”


2022-06-24    |   

قرار والي تونس بإيقاف قرار بلديتها: ضرب للسلطة المحلية باسم “وحدة الدولة”
صورة للوالي كمال الفقي مع قيس سعيد ووزير الداخلية توفيق شرف الدين (المصدر: الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية التونسية)

صدر بتاريخ 21 جوان 2022، قرار من قبل كمال الفقي، والي تونس، يقضي بإيقاف تنفيذ قرار هدم صادر عن بلديّة تونس مؤرّخ في 07 جوان 2022، ويتعلّق ببناية مستوصف الطفل والأمّ الكائن بنهج المحطّة سيدي البشير.

ليست المرّة الأولى التي يجنح فيها الولاة إلى إيقاف قرارات بلديّات دون اللجوء الى المحكمة الادارية، إلاّ أنّ قرار والي تونس يبدو أخطر من القرارات المتخذة سابقا. فهو لم يكتفِ بإيقاف تنفيذ القرار وإنّما أسند لنفسه صلاحية إخضاع كل قرارات الهدم القادمة لتأشيرة مسبقة من طرفه، مُنصِّبا نفسه قاضيا ومشرّعا في الآن ذاته.

هذا القرار يدفعنا جديّا للتساؤل عن تصوّر ولاة ما بعد 25 جويليّة، للعلاقة بين المركز والسلطة المحليّة خاصّة في ظلّ خطاب مناهض للسلطة المحليّة ما فتئ يتفاقم أكثر فأكثر. كما يثير في الآن ذاته تساؤلات جديّة عن مكانة السلطة المحلية في “دستور الجمهوريّة الجديدة”.

قرار والي تونس: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

لم تختلف كثيرا سرديّات والي تونس والسيدة هندة عبّاس رئيسة الدائرة البلديّة بسيدي البشير حول حيثيات إيقاف تنفيذ قرار الهدم الصادر عن بلديّة تونس بتاريخ 7 جوان 2022.

في الواقع، تقرّر صلب برنامج التنمية، والذي يُتّخذ على مستوى المجلس الجهوي، إعادة تهيئة وبناء مستوصف الأمّ والطفل بنهج المحطّة سيدي البشير بتونس. وقد رصدت الولاية مبلغ 844 ألف دينار لإنجاز المشروع منذ سنة 2019. للشروع في تنفيذ المشروع يفرض القانون التحصّل على رخصة بناء من قبل البلدية. وهو ما تقدّمت به وزارة الصحة فعلا منذ أوائل 2020. في هذا الصدد، تختلف الروايات حيث يؤكّد والي تونس أنّه تمّ الحصول على رخصة البناء من قبل البلدية في حين تؤكد رئيسة الدائرة البلديّة أنّه تمّ الاتفاق على إسناد الرخصة مقابل إحداث مأوى للسيارات تقدّر كلفته تقريبا ب 47 ألف دينار تعهدت الولاية بدفعها ولم تقم بذلك.

وعليه تتمسّك رئيسة الدائرة بأنّه تمت دراسة الملف والموافقة عليه من قبل اللجنة الفنيّة بالبلديّة في انتظار خلاص معاليم الرخصة المتفق عليها، من دون أن يتمّ تسليمها رسميّا. وقد انطلقت الأشغال منذ أوت 2021 من دون التحصّل على الرخصة ومن دون دفع المعاليم المستوجبة. وعليه قامت البلدية بمراسلة الولاية التي طالبت بعدم إيقاف الأشغال ومواصلة المطالبة باستخلاص المبلغ المطلوب. أمام تأخر دفع المعاليم وتواصل تقدّم أشغال المقاول من دون رخصة، أصدرت البلدية قرار هدم في الأشغال التي تمّ احداثها، وهو القرار الذي أوقف الوالي تنفيذه بصفة أحاديّة ودون اللجوء إلى المحكمة الإدارية. ليتحوّل من طرف في النزاع، إلى حَكَم يوقف القرارات بصفة مباشرة ومن دون رقابة.

قرار والي تونس: ضرب للسلطة المحلية وغصب لولاية المحكمة الإدارية

لم يكتفِ والي تونس بإيقاف تنفيذ قرار الهدم الصادر عن بلديّة تونس، بل أسّس هذا القرار على الفصل 268 من مجلّة الجماعات المحليّة والذي يجيز للوالي ممارسة سلطة الحلول محلّ رئيس البلدية إذا امتنع أو أهمل القيام بعمل من الأعمال التي يسندها له القانون والتّراتيب، وذلك بعد التنبيه عليه. وفي صورة تقاعس رئيس البلدية أو عجزه الجليّ عن إتمام المهام المستوجبة رغم وجود خطر مؤكّد، للوالي حسب ذلك الفصل أن يباشر تلك الصلاحيات بنفسه أو أن يكلّف من ينوبه للغرض وذلك بمقتضى قرار معلّل.

لكن لم تكن هذه صورة الحال: فقرار الوالي لم يكن معلّلا ولم يقضِ بالحلول محلّ رئيسة بلديّة تونس ولم يتضمّن ما يفيد وجود تقاعس أو إهمال أو امتناع لرئيسة البلدية أو صدور تنبيه مسبق عليها أو عجزها على أداء مهامّها.على العكس تماما، تدخّل الوالي يندرج ضمن خانة منع البلدية من أداء مهامها، بغضّ النظر عن صحّته أو صوابه. بعبارة أخرى تضمّن طالع قرار والي تونس فصلا لا ينطبق على وضعيّة بلديّة تونس.

ليست المرّة الأولى التي يلتجئ فيها ولاة ما بعد 25 جويلية إلى التعسّف في استعمال سلطة الحلول وإن كان الواقع مخالفا لذلك. يبدو أنّ الفصل 268 من مجلّة الجماعات المحلية أصبح حجّة من لا حجّة له انطلاقا من المعتمد الأوّل المكلّف بتسيير ولاية قابس وصولا إلى والي تونس. وفي الحالتين، لم يحترم الولاة الشروط والضمانات المحدّدة بالفصل المذكور.

في الواقع، ما أقدم عليه والي تونس أخطر بكثير من سابقيه حيث لم يكتفِ بإيقاف قرار الهدم بل تجاوزه لينصّص في قراره على إخضاع جميع قرارات الهدم الصادرة من البلدية إلى تأشيرة مسبقة من الولاية. لينصّب بذلك نفسه قاضيا ومشرّعا في الآن ذاته على مستوى ولاية تونس على غرار ما قام به قيس سعيّد في القضاء حيث أسند لنفسه صلاحية جديدة ألا وهي الإعفاء المباشر من قبله بمناسبة عزله ل 57 قاض وقاضية.

فعليّا، يعيدنا القرار المذكور إلى عهد تخضع فيه قرارات الجماعات المحيّة لرقابة مسبقة من “سلطة الإشراف”. عهد حسبناه دُفن بولادة الباب السابع من الدستور المكرّس للامركزية والتدبير الحرّ للبلديات أو لعلّه إنذار ببداية تلاشي السلطة المحليّة والتراجع عن مجلّة الجماعات المحليّة.

دفاعا عن قراره، تشبّث والي تونس بمبدأ وحدة الدولة متناسيا أنّ للبلديّات مبدأ يسيّرها ألا وهو مبدأ التدبير الحرّ وأنّ التطبيق السليم للقانون يقتضي منه في حال عدم موافقته على قرار اتخذته البلدية الاعتراض على قراراتها أمام المحكمة الإدارية. وفي حال التأكّد يمكنه طلب توقيف التنفيذ من رئيس المحكمة الإدارية وفق ما يقتضيه الفصل 278 من مجلّة الجماعات المحليّة.

عوض ذلك اختار والي تونس ضرب صلاحيات بلديّة تونس وغصب ولاية المحكمة الإدارية في آن واحد، منتصبا محلّها ومُصدرا لقراره المذكور. ومن المهمّ التذكير بأنّ هذه الحادثة قد جدّت سابقا بين بلدية المرسى ووالي تونس -الشاذلي بوعلاق حينها- والذي عمد إلى إصدار قرار يقضي بتوقيف تنفيذ القرار الصادر عن رئيس بلدية المرسى والمتعلق بوضع أختام على عقار. وأكدت المحكمة في مادّة ايقاف التنفيذ أنّ أحكام مجلة الجماعات المحلية لا تخوّل الوالي سوى اللجوء لرئيس المحكمة الإدارية الابتدائية لطلب توقيف تنفيذ قرار بلدي، ولا يمكنه تاليا اتخاذ قرار في توقيف التنفيذ من تلقاء نفسه[1].

وبمناسبة نظرها في دعوى الإلغاء المتعلّق بنفس القضيّة بين بلديّة المرسى وولاية تونس، اعتبرت المحكمة الادارية أنّ؛ “سلطة الوالي حيال القرارات البلدية تجد حدّها في انتهاج سبيل التقاضي لدى المحكمة الإدارية المختصّة ترابيا للاعتراض عليها أو لدى رئيس المحكمة لطلب توقيف تنفيذها في حالة التأكّد، ولا تتعدّاها إلى ما يزيد على ذلك لفسح المجال أمامه للتدخّل أصالة في مضمونها ولا في نفاذها”. كما اعتبرت أنّ “قرار الوالي بتوقيف تنفيذ القرار البلدي قد حاد عن المنحى القويم في استقراء الحدود المرسومة لاختصاصه من خلال تجاوزها والتعدّي على الولاية المعقودة لفائدة المحكمة الإدارية من هذه الناحية وما يعكسه ذلك من تقويض لمقوّمات مبدأ الفصل بين السلط”.

كما أكّدت أنّ “ممارسة الوالي لصلاحية توقيف تنفيذ القرارات البلدية في حالة التأكّد تؤدّي إلى إقحامه في صميم المصالح البلدية المعهود للبلديات التصرّف فيها، ومطيّة في ذات الوقت، لتنصيب نفسه رقيبا على أعمالها على نحو يتنافى مع مقتضيات مبدأ التدبير الحر”. وقضت تبعا لذلك بقبول الدعوى شكلا وأصلا والتصريح بمعدومية القرار المطعون فيه[2].

وحدة الدولة: حصان طروادة الذي يخفي الحرب على السلطة المحليّة

في انتظار استقرار الرواية حول خلفيّات إيقاف التنفيذ، وبغضّ النظر عن مدى شرعيّة القرار، لم يتوانَ والي تونس عن إطلاق النار على السلطة المحليّة، معتبرا أنّه “من غير المعقول أن تصبح السلطة المحلية عائقا أمام السلطة الجهوية… هذا اسمه ضرب لوحدة الدولة…هذا اسمه تخريب أعمال تنفيذ مشاريع تنموية”. مؤكّدا أنّ قرار بلديّة تونس من قبيل “استغلال السلطة والتعسف في استعمالها ضد مركزية أعلى منها”. كما شدّد على أن القرار المذكور “يضرّ بوحدة الدولة ويحرم التوانسة من مشاريع تنموية”.

منذ 25 جويلية، أخذ شعار “وحدة الدولة” يتّسع ويأخذ صدى من أعلى هرم السلطة وصولا إلى الولاة والإدارات البلديّة. الجميع يسبّح بحمد وحدة الدولة لكن السؤال المطروح: من يهدّدها؟

في الواقع، لا يغيب شعار وحدة الدولة عن خطاب رسميّ فيه استهداف للبلديّات اليوم. ولا يمكن القول بأنّ هذا التوجّه حديث العهد. فقد تمّ طرحه عند النقاش حول مشروع مجلّة الجماعات المحليّة، حيث تعلّل من عارض خيار اللامركزيّة في تونس حينها بضرب وحدة الدولة، ناسين أو متناسين أ، الفصل 14 من دستور 2014 حدّد سقف اللامركزية باحترام وحدة الدولة، وهو ما ضمنته مجلّة الجماعات المحليّة بفرض رقابة للمحكمة الادارية ولمحكمة المحاسبات.

اليوم، أصبحت السلطة الحاكمة تتلحف بجبّة وحدة الدولة لتضرب عمق السلطة المحليّة ولتحُدّ من مبدأ التدبير الحرّ بقرارات ترتيبية، متجاهلة الضمانات القانونية المتاحة على غرار اللجوء للقضاء الإداري. ولعلّ أدلّ شيء على ذلك تنصيب والي تونس نفسه محلّ القضاء في حنين واضح إلى فترة ما قبل الثورة حيث كانت أعمال البلديّات خاضعة للرقابة المسبقة للولاة.

واقعيّا، لا يمكن عزل قرار والي تونس وخطابه عن السياق الذي يعيشه مسار اللامركزية منذ 25 جويلية إلى اليوم من تحجيم مفاجئ لملف السلطة المحليّة الذي أخذ يتبلور أوّلا عن طريق إلحاق ملف الشؤون المحليّة بوزارة الداخليّة. إضافة إلى التغييب الذي يبدو ممنهجا لمسار اللامركزية عن النقاش العامّ والاستراتيجية الوطنية للدولة، وفرض وزير الداخلية على البلديات المرور وجوبا بالولاية لتوجيه المراسلات للإدارات المركزية للوزارات. وأخيرا تأكيد الرئيس بالإفصاح أو التلميح إلى سوء فهم البلديّات لمبدأ التدبير الحرّ، ومشاركتهم في الإجرام في حقّ الشعب التونسي من خلال الامتناع عن رفع الفضلات في ملف عقارب مثلا،  مؤكّدا أنّ تونس ليست “مقاطعات يحكمها كلّ واحد كما يشاء”.

اليوم، لا يمكن الجزم بتصوّر السلطة المحليّة مستقبلا أو بمكانة اللامركزيّة في مشروع الدستور الجديد. لكن ما يمكن الجزم به هو التناقض الصريح بين الشعارات التي يردّدها رئيس الجمهورية من ضرورة تراجع مكانة المركز لفائدة المحليّات وضرورة وجود حلول عمليّة محليّة، وضرب المركز ممثّلا في الولاة بيد من حديد في عمق آخر سلطة منتخبة في البلاد-السلطة المحليّة-من دون احترام أدنى الضمانات القانونية.


[1]قرار في مادّة توقيف التنفيذ عدد 4103216 بتاريخ 28 أكتوبر 2019: بلدية المرسى ضدّ ولاية تونس.

[2]القضية عدد: 156547 / بتاريخ: 27 فيفري 2020: بلديّة المرسى ضدّ والي تونس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، سلطات إدارية ، قرارات إدارية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني