قراءة تحليلية للحركات الاحتجاجية في القرى المنجمية في 2020


2021-03-05    |   

قراءة تحليلية للحركات الاحتجاجية في القرى المنجمية في 2020
رسم عثمان سلمي

 

بدايةً، نشير إلى أنّ تحليل وفهم ديناميات الاحتجاج في الحوض المنجمي لمدّة عام من الزمن لا يمكن حصره في مقالة واحدة. فحركات الاحتجاج في المجتمع المحلّي المنجمي لم تنقطع تقريباً. قد نشهد تراجعاً في التعبئة ولكن دائماً ما نشهد أيضاً تصاعداً في وتيرة الاحتجاج. لذلك نحاول في هذه الورقة الإجابة عن سؤال مفاده: ما الذي يفسّر تواصل الاحتجاجات في الحوض المنجمي منذ 2008 وبخاصّة خلال العشرية الأولى من الثورة؟

 

عجز المنوال التنموي وسيرورة الاحتجاجات

يصعب فهم الأزمة الاقتصادية التي عصفت وتعصف بالقرى المنجمية والحراكات الاجتماعية المنبثقة عنها من دون الرجوع إلى السياقات التاريخية لهذه المنطقة. فخلال الفترة الكولونيالية، جُرّد الأهالي من ممتلكاتهم ووقعوا في فخّ التحايل القانوني لتوفير اليد العاملة التونسية والأجنبية، لا سيّما المغاربية والطرابلسية[1] والجزائرية. علاوة على ذلك، احتكر الفرنسيون المستوطنون المواقع المرموقة صلب الشركة. وبعد الاستقلال عام 1956، تمحورت سياسات الدولة الوليدة والنخبة الحاكمة آنذاك على جعل المجتمع مختبراً لتجربة أفكارها، أي فرض التحوّلات الفوقية. لذلك، في حين تبدو “الإصلاحات الماكرو اجتماعية والمؤسّساتية تقدّمية وتنويرية، إلّا أنّ هذا يعكس صورة النخبة الحاكمة التي يمكن وصفها بالاستبدادية. فقد اتّخذت عملية التحديث شكلاً من أشكال الاستبداد المستنير (Despotisme éclairé)”[2]. وبعد انهيار الاشتراكية الدستورية وتجربة التعاضد في أواخر ستينيات القرن الماضي، بدأ عهد الحقبة الليبرالية حيث “انطلق الإعداد لسنّ تشريعات اقتصادية تعطي أفضلية للبرجوازية الخاصّة من أجل تدعيم الصناعات التصديرية القادرة على تعديل الميزان التجاري”[3]. كما انخرطت الدولة في 1986 في برنامج الإصلاح الهيكلي وتحوّل دورها من قيادة عملية التحديث والعلمنة إلى فعل اقتصادي يهدف إلى تعزيز مكانة المستثمرين الخواصّ وأرباب العمل. الأمر الذي شكّل فاتحة خضوع التخطيط الاقتصادي التونسي لهندسة البنك الدولي[4]، ما أدّى إلى انخراط شركة فسفاط قفصة ضمن هذه السياسة ليتمّ الاستغناء عن نحو 10 آلاف عامل وموظّف. كما أنشأت خطّةُ الإصلاح الهيكلي صندوقَ إعادة توجيه وتنمية المراكز المنجمية (Le Fonds de réorientation et de développement de centres miniers) سنة 1991 وذلك بهدف تمويل المشاريع الصغرى وتعويض طلبات التوظيف التي كانت تستقبلها الشركة. ولكن بقي نشاط هذا الصندوق هامشياً، حيث استفاد منه 1500 شخص تقريباً “اعتبروا أنّ الاعتمادات لا تلبّي الحاجيات الاجتماعية”[5].

لكن المفارقة في سيرورة الاحتجاجات في تلك المنطقة تكمن في انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008. فقد تصاعدت وتيرة التحرّكات الاحتجاجية في سياق عرفت فيه أسعار الفسفاط في السوق الدولية ارتفاعاً مدهشاً. قفزت أسعار منتوجات الفسفاط ومشتقّاته، مقارنةً مع سنة 2005، بنسبة 11% في السنة التالية. وفي 2007 واصلت تطوّرها لتبلغ نسبة 47%. استمرّ هذا النسق إلى حدّ ارتفعت معه أسعار الثلاثية الأولى من سنة 2008 بنسبة 125% مقارنةً مع الفترة نفسها من السنة السابقة. لتكون المحصّلة تضاعف أسعار الفسفاط ومشتقّاته ثلاث مرّات ونصف بين سنة 2005 وشهر ماي 2008.[6] “ويمكن تفسير تلك الانتفاضة طبقاً لنظرية التبعية، حيث تَحُول الهيمنة المتواصلة والاستغلال المفرِط والعلاقات التجارية غير المتكافئة دون التطوّر الصناعي في بلدان الجنوب، فتبقى سجينة حالة من التخلّف الدائم. ورغم استقلال تلك الدول رسمياً فهي لا تزال ترزح تحت وطأة الاستعمار السياسي والاقتصادي للمحتلّين القدامى”[7]. ففي مقابل الطفرة التي شهدتها أسعار الفسفاط، لم يتغيّر الواقع التنموي في الجهة خلال تلك الفترة وطيلة العقود الماضية. حيث بلغت نسبة الفقر[8] في ولاية قفصة في ذلك التاريخ 30% في حين لم يتجاوز المعدل الوطني 10% حسب الاحصائيات الحكومية. أما على مستوى البطالة، فبلغت نسبة المعطلين عن العمل 24.5%، وبلغت نسبة البطالة[9] في صفوف حاملي الشهادات العليا 42% ولتتجاوز سقف ال50% في بعض مدن الحوض المنجمي. إذن، يمثّل خروج قطار الفسفاط من مناطق الاستخراج نحو الموانئ والمراكز الصناعية الكبرى في الساحل وعودته فارغا، من دون تنمية أو عائدات على أهالي الجهة، الدلالة العملية على ما يشير إليه أندري غوندر فرانكان[10]. ومؤدى ذلك أن تنمية مدينة معينة لا يؤدي إلى تنمية المناطق المجاورة، ولكنه يحوّل هذه المناطق إلى توابع داخلية تزيد من تخلفها.

كما برهنت حركات الاحتجاج منذ سنة 2008 إلى ما بعد سنة 2011، مروراً بتاريخ 17 ديسمبر 2010، على فشل مسار إعادة تشكيل ذهنية المواطن على نبض شعارات استراتيجية التنمية الكبرى التي انتهجتها الدولة منذ سبعينيات القرن الماضي والقائمة على “عقلنة السلوك الاقتصادي لدى المواطن التونسي، بهدف تغيير حضوره في المشهد التنموي، من حضور سلبي في نمط تنمية تقليدي سمته التواكل والانكماش، إلى حضور أكثر فاعلية قوامه المبادرة والإقدام وعدم انتظار عطايا الدولة وهباتها[11].

فشرارة الاحتجاجات في سنة 2008 كانت بسبب شبهات في عملية انتداب صلب شركة فسفاط قفصة لتتوسع مطالبها لاحقا نحو مطالب ذات طابع تنموي وسياسي وحقوقي. كما تمحورت أغلب المطالب والاحتجاجات والاعتصامات بعد سنة 2011، حول التشغيل في القطاع العام أو بمعنى أدقّ صلب شركة فسفاط قفصة أو شركات البيئة والبستنة. ليحتفظ الأفراد، على مختلف انتماءاتهم، بالنظرة التقليدية للدولة منتظرين منها وفاءها بما وعدت به عشيّة الاستقلال من رفاه وتنمية وتحسين مستوى العيش وتوفير العمل لمَن يطلبه[12]. تستمرّ هذه النظرة إلى اليوم، فالدستور التونسي في فصله الأربعين يقرّ بهذا والأحزاب الحاكمة، وحتّى المعارضة، بفصائلها اليسارية واليمينية في تونس تؤكّد جميعاً أنّ الدولة هي الطرف الوحيد الذي يضمن التشغيل والعدل والإنصاف لكل المواطنين.

لذلك يمكن القول إنّ هذه السيرورة من حالة الغبن والحرمان والتهميش في الحوض المنجمي الناتجة عن سياقات استعمارية؛ وأخرى ناتجة عن خيارات الاستراتيجيات التنموية منذ دولة الاستقلال إلى اليوم – تعمل السلطة السياسية منذ 2008 على إحداث شركات للبيئة والغراسة في الجهة، يمكن وصفها بالشركات الوهمية –؛ وتراجع الدور الاجتماعي والاقتصادي الذي كانت تؤدّيه شركة الفسفاط في الجهة؛ بالإضافة إلى عجز الدولة عن اتّخاذ التدابير والخيارات التنموية الكفيلة بوضع حدّ للمأزق الاقتصادي المتواصل خلال العشرية الأخيرة – الذي ازداد حدّة خلال 2020 نتيجة الارتدادات الكارثية لوباء كورونا على الاقتصاد الوطني – مثّلت العوامل التي سرّعت في صعود موجات الاحتجاج. تصعيد بلغ حدّ غلق مواقع الإنتاج في زمن حكومة الفخفاخ خلال النصف الأوّل من سنة 2020، قبل أن يُستأنَف النشاط في شركة فسفاط قفصة بعد انعقاد جلسات حوار بين مستشار وزير الطاقة والمناجم والانتقال الطاقي ونوّاب الجهة وطالبي الشغل في مطلع شهر أوت 2020. اجتماعات انتهت إلى الاتّفاق على رفع الاعتصامات لمدّة ثلاثة أشهر منذ تاريخ إمضاء المحضر (04 أوت). إنّما أثارت هذه الهدنة سخط طيفٍ من المحتجّين الذين رفضوا مخرجات الجلسة بحجّة إقصائهم مع الاتحاد المحلي للشغل في الرديف منها، وقد نادوا بضرورة الالتزام بمعايير الشفافية في عملية الانتداب التي طالما حكمتها ثنائية الولاء والزبونية. ولكن رغم الجدل والصراع استؤنِفت عملية إنتاج الفسفاط إلى أن خيّبت الحكومة آمال العاطلين في جلسة وزارية مضيّقة خاصّة في مدينة قفصة في 24 نوفمبر 2020 حيث اعتبر هؤلاء أنّ المخرجات والقرارات لا تلبّي الحاجيات الاجتماعية لتتصاعد، مرّة أخرى، وتيرة الاحتجاجات أدّت إلى غلق مواقع الإنتاج حتّى نهاية ديسمبر 2020.

المدن المنجمية بين قسوة الطبيعة واستنزاف الموارد المائية: احتجاجات العطش

إذا أردنا تحليل الاحتجاجات المرتبطة بالعطش واضطراب توزيع المياه الصالحة للشرب في الحوض المنجمي، لا بدّ من تسليط الضوء على مُعطَيَيْن أساسيّين: قسوة الطبيعة، واستنزاف الموارد المائية الشحيحة لصالح الصناعات الاستخراجية في الجهة. فولاية قفصة وقراها تقع في مجال انتقالي يخضع للتأثيرات المناخية للسباسب والتأثيرات شبه الصحراوية، بحكم وجودها في مستوى قريب من خطّ العرض 38 درجة شمالاً وبعيدة عن خليج قابس وتأثيراته البحرية بقرابة 120 كلم وعن شطّ الجريد بنحو 40 كلم جنوباً. وتتميّز درجات الحرارة هناك بشكل عامّ بالارتفاع مقارنة بمدن الوسط والشمال والساحل. ويستمرّ فصل الصيف فيها من شهر ماي إلى أكتوبر، في حين يتراوح معدّل التساقطات بين 150 و200 ملم سنوياً”[13]. لا تنتهي معاناة أهالي قفصة مع شحّ المياه عند هذا الحدّ، فقد استولت الشركات المنجمية على الموارد المائية. “فبالنسبة للمياه الجوفية Les nappes phréatiques، يستهلك القطاع الزراعي بالحوض المنجمي حوالي 87.37 مليون م3 بحسب إحصائيات سنة 2016، بينما يحلّ القطاع الصناعي في المرتبة الثانية كأكبر مستهلك لتلك الموارد المائية بكمّية تناهز 29.66 مليون م3، يُستخدم 95.23% منها لمعالجة الفسفاط، أمّا حصّة مياه الشرب فلا تزيد عن 18.30 مليون م3. أمّا الجداول المائية العميقة Les nappes profondes، والتي تقدّر بـ42.3 مليون م3 سنة 2016، فيتمّ استغلالها بمعدّل 80% ليكون استخراج الفسفاط في صدارة استهلاك هذه الموارد بمعدّل إجمالي قدره 76% ليتوزّع الباقي بين الزراعة بنسبة 13% ومياه الشرب بـ11%”. وتستغلّ شركة الفسفاط هذه الموارد المائية من خلال 19 بئراً عميقة، تتراوح طاقة الضخّ فيها بين 647 ليتر/ثانية[14] و715 ليتر/ثانية[15]، وهي أرقام تتجاوز بكثير إمكانيات وطاقة الضخّ المتوفّرة لدى الشركة الوطنية للاستغلال وتوزيع المياه في كامل مدن الحوض المنجمي. وتتراوح درجة الملوحة في هذه الآبار من 4 إلى 7 غرام/ليتر[16]، في حين تشير أرقام أخرى إلى معدّل بين 5 و9 غرام/ليتر[17]، وهي، بالتالي، غير صالحة للشرب أو الاستعمال الفلاحي. وفي منطقة الرديف، فتستغلّ شركة الفسفاط المائدة نفسها التي تستغلّها الشركة الوطنية للاستغلال وتوزيع المياه. وعموماً تستغلّ شركة فسفاط قفصة 11 مغسلة لتثرية الفسفاط، بطاقة جملية تُقدَّر بنحو 8.5 مليون طن من الفسفاط التجاري سنوياً في حالات الإنتاج العادية. إنّ طن الفسفاط الخام الواحد يتطلّب غسلُهُ من 1 إلى 1.5 م3 من المياه، أي أنّ في ظلّ الظروف العادية، التي يصل فيها الإنتاج إلى 12.5 مليون طن تقريباً من الفسفاط الخام، تستغلّ شركة الفسفاط كمية مياه تتراوح بين 18 و20 مليون م3 سنوياً”[18]. حرم هذا الوضع مواطني الحوض المنجمي من المياه الصالحة للشرب طيلة أسابيع متتالية، بخاصّة خلال الصيف، وفي ظلّ انتشار وباء كورونا، ما أجبر عديد المتساكنين على شراء صهاريج المياه في وقت كانت الشركات المنجمية تنعم بالموارد المائية.

وقد ساهمت هذه المعطيات الثلاثة (أي استنزاف شركة فسفاط قفصة للموارد المائية وتردي خدمات الشركة الوطنية للاستغلال وتوزيع المياه وطبيعة المناخ الجاف) في تصاعد الحركات الاحتجاجية المطالِبة بالحقّ في المياه، لتبلغ خلال سنة 2020، قرابة 71 تحرّكاً[19] بلغت أوجها خلال شهرَي جوان وجويلية الفارطين عبر غلق مواقع الإنتاج، وغلق الطريق الرابطة بين مدن المتلوي وأمّ العرائس والرديف. وعليه، يمكن القول إنّ مقاربات الصناعات الاستخراجية في المجتمع المحلّي المنجمي جعلت من الجماعات السكانية المنجمية ضحية تلك الفئة من الصناعات، الأمر الذي يتعارض تماماً مع مفهوم العدالة الاجتماعية نظراً إلى مخلّفاتها الكارثية على المستويين الاجتماعي والبيئي. ويمكن القول أيضاً إنّ هذه المقاربات أنشأت ما تسمّيه نعومي كلاين[20] مناطق التضحية“، وهي مناطق يتمّ تخريبها عبر النشاط الاستخراجي والمعالَجة الكيميائية على حساب صحّة وأراضي ومياه متساكنيها، الأمر الذي يتناسب مع الطابع العنصري للرأسمالية”[21]. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الربط العشوائي للمياه هو عامل آخر من عوامل أزمة العطش لا يمكن التغاضي عنه. إذ يتعمّد العديد من المواطنين، إلى جانب بعض الفلّاحين، إنشاء قنوات مياه غير قانونية واستغلالها في ريّ الأشجار، سواء في المناطق الريفية أو داخل المدن والأحياء السكنية ما يؤثّر على عملية تزويد الأهالي[22]. يعود هذا الربط العشوائي إمّا إلى حالات الهشاشة الاجتماعية، بالتالي يعبّر عن فعل الاستيلاء بصرف النظر عن عقاب الحكومة، أو ضعف الدولة وعجزها في تطبيق القانون. ويعكس في جانب منه أزمة السياسات الحكومية بصفة عامة.

الحركات الاحتجاجية البيئية

بصفة عامة، بقيت التحرّكات الاحتجاجية هذه السنة محدودة، من دون أن يكون لها تأثير قوي في المدن المنجمية. وقد تمثّلت هذه التحرّكات في احتجاجات بعض أهالي منطقة الرديف عبّروا خلالها عن سخطهم حيال غيوم الغبار والتلوّث الذي تخلّفه شاحنات نقل الفسفاط. وعليه، أغلقوا طرق عبور الشاحنات حتّى تدخّلت السلطة المحلّية واتّفقت مع المحتجّين على إيجاد حلول مؤقّتة تتمثّل في ريّ الطريق التي تسلكها الشاحنات بالمياه لتقليص كمّية الغبار الناتج عن مرورها. كما قرّرت بلدية القطار في 25 نوفمبر 2020 منع مرور شاحنات الفسفاط ومشتقّاته عبر المدينة. تكشف هذه التحرّكات، على قلّتها، بُعداً آخر لمضارّ الصناعات الاستخراجية.، وقد بيّنت دراسات أكاديمية عديدة أنّ الكادميوم Cadmium وأكسيد الكبريت l’oxyde de soufre والفلور le Fluor هي الملوّثات الرئيسية للغلاف الجوّي في المنطقة[23]، وتنعكس سلباً على صحّة أهالي القرى المنجمية خلال عمليات الاستخراج والانبعاثات الجوّية وتصريف المياه. كما تساهم عمليات الاستخراج في إتلاف الغطاء النباتي، إضافة إلى أنّ التفجير باستخدام الديناميت L’ommonium nitrate-huile يؤدّي إلى ارتدادات سلبية على البيئة في القرى المنجمية[24]. فتتأثر بيوت السكّان المحلّيين من الرجّات الأرضية الناجمة عن الانفجارات الديناميتية للصخور[25]. بالتالي يمكن القول إنّ معاناة المجتمع المحلّي المنجمي نتيجة المنوال التنموي الاستخراجي، لم تقتصر على البُعد التنموي أو على معضلة العطش، بل تشمل الجانب البيئي، لا سيّما مع التحوّل من المناجم تحت سطح الأرض إلى ما يُعرف بالمناجم المفتوحة في أواخر تسعينيات القرن الماضي.

إرث الملفّات المفتوحة

عاش الحوض المنجمي خلال 2020 على وقع الحركات الاحتجاجية المتعلّقة أساساً بالملفّات المفتوحة والموروثة عن الحكومات السابقة. فقد تحرّك سجناء انتفاضة الحوض المنجمي في 2008، وهم ضحايا الاستبداد المتمتّعين بمقرّرات جبر الضرر التي لم تُفعَّل بعد، حيث اختاروا الدخول في سلسلة من التحرّكات انطلقت يوم 14 نوفمبر 2020 داخل مقرّ إقليم الرديف لشركة فسفاط قفصة. واعتبروا أنّ هذه الشركة هي المتسبّب الرئيس في كلّ ما حدث من تجاوزات وما تلاها من احتجاجات ومناخ عامّ من الاحتقان. تضمّنت مطالبهم التعجيل بفتح صندوق الكرامة واعتذار رئيس الجمهورية باعتباره ممثّلاً عن الدولة وأحد رموزها وتمكين كلّ الضحايا من جبر ضرر مادّي وردّ الاعتبار لهم واستكمال مخرجات العدالة الانتقالية بكلّ مراحلها، متوعّدين بالتصعيد إذا لم تتحقّق أهداف الاحتجاج. شهد الحوض المنجمي أيضاً حركات احتجاجية أخرى على خلاف ما ذكرناه سابقاً، منها تحرّكات عمّال الحضائر الذين تجاوزت سنّهم 45 سنة ويرفضون الاتّفاقية المبرمة بين الوفد النقابي والحكومة في 20 أكتوبر 2020، وحركات احتجاجية أخرى أهمّها في مدينة المتلوي تطالب بإيقاف التتبّعات العدلية لمجموعة من المعتصمين. كما احتجّ عمّال شركة أشغال السكك الحديدية سوترافار بالمتلوي وذلك لعدم صرف رواتبهم على خلفية مطالب اجتماعية أخرى تتعلّق بإشكاليات غير واضحة في شركتهم. واحتجّ عمّال وإطارات شركات البيئة والغراسة خلال أيّام عيد الفطر والأضحى في سنة 2020، وذلك بسبب عدم صرف مستحقّاتهم المادّية المتمثّلة في مِنَحِ الأعياد، وإيقاف سداد أقساط الضمان الاجتماعي الخاصّة بهم. أتت هذه الاحتجاجات بعد تملُّص السلطة السياسية من مسار المفاوضات حول وضعية ومعاناة عمّال وإطارات شركات البيئة والغراسة المطالِبين بوضع قانون أساسي ينظّم ويؤسّس لإطار واضح لطبيعة نشاطهم.

خلاصات

إنّ تعقيدات التركيبة الاجتماعية والعشائرية والسياسية في الحوض المنجمي، جعلت المنطقة حبيسة منوال تنموي يتأرجح بين قطبين: الحالة الأولى، تحقيق النموّ بدون التنمية أو ما يعبّر عنه بتنمية التخلّف والحالة الثانية، التنمية بدون نموّ من خلال وجود منوال تنمية تابع ومرتبط بما تفرضه المؤسّسات الماليّة العالميّة التي تحبس بلدان الجنوب في فخّ التبعية والتخلّف[26]. وضعٌ يبدو أنّه سيطول في ظلّ مناخ اقتصادي عامّ متردٍّ تؤكّده توقّعات صندوق النقد الدولي بتراجُعِ النموّ العامّ خلال السنة المقبلة إلى -4.3% ومناهزة الدين العامّ والخارجي الـ90% من إجمالي الناتج المحلي.

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

  1. اليد العاملة التي جُلِبت من طرابلس/ليبيا للعمل في المناجم.
  2. Boukraa Ridha , Acteurs sociaux et changement social en Tunisie ( 1956- 1986), « Les changements sociaux en Tunisie 1950- 2000, Sous la direction de: Laroussi Amri, Editions L’Harmattan, Paris 2007, P 183_ 190 ». P 187.
  3. المولدي قسّومي، “المنظّمة النقابية لأرباب العمل التونسيّين الأطوار والأدوار”، تقديم: الهادي التيمومي، دار نقوش عربية، تونس 2018، ص 121، 125.
  4. المرجع السابق.
  5. Allal Amine, Réformes néolibérales, Clientélismes et protestations en situation autoritaire. Les mouvements contestataires dans le bassin minier de Gafsa En Tunisie (2008), « Politique africaine, 2010/1 N 117/ Pages 107 à 125 » pp. 117 – 118.
  6. حفيّظ طبابي، “انتفاضة الحوض المنجمي بقفصة 2008″، الدار التونسية للكتاب، 2012، ص. 62.
  7. حمزة حموشان، “النمط الاستخراجي ومقاومته في شمال أفريقيا”، المعهد الدولي – ترانس ناشونال، 2019، ص. 7.
  8. المعهد الوطني للإحصاء
  9. المسح الوطني حول السكان والتشغيل لسنة 2008 – وزارة التنمية والتعاون الدولي
  10. مؤرخ وعالم اقتصاد واجتماع أمريكي من أصل ألماني – أحد مؤسسي نظرية التبعية
  11. عائشة التايب، “سياسات التنمية في تونس وتأثيرها في فرص العمل، النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدول العربية”، سياسات التنمية وفرص العمل: دراسات قطرية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص. 149.
  12. المرجع السابق، ص. 149-150.
  13. مصطفى التليلي، “قفصة والقرى الواحية المجاورة: حول الحياة الجماعوية (من بداية القرن 18 إلى 1881)”، تقديم: عبد الحميد هنية، نشر وتوزيع جمعية صيانة قفصة، 2009، ص. 38-39.
  14. Salhi Bilel, « Mutations soci-spatiales et environnementales du bassin minier de Gafsa (Sud-Ouest de Tunisie) Approche par les outils géomatiques » Thèse de doctorat, Co- directrice de thèse: Yamna Djellouli, Co- directeur: Mohsen Dhieb. UNIVERSSITE BRETAGNE LOIRE_ Le Mans Université. Soutenue le 29 septembre 2017. Thèse N ; 2017 LEMA 3006. P.P 280_281.
  15. Observatoire Tunisien de l’Eau. (OTE)
  16. Salhi Bilel, op.cit.
  17. OTE.
  18. OTE.
  19. المرصد التونسي للمياه – إحصائيات سنة 2020.
  20. صحافية سياسية وكاتبة ومؤلّفة أفلام تسجيلية كندية. تتميّز بكتابتها المناهِضة للسياسات النيوليبرالية، والتحليلية لسياسات الشركات متعدّدة الجنسيات والعولمة الاقتصادية. تكتب عموداً بصورة غير منتظمة في The Guardian وThe Nation ومطبوعات آخرى. كانت مراسلة من العراق لجريدة Harper’s Magazine
  21. حمزة حموشان، سبق ذكره، ص 6-7.
  22. رحاب مبروكي، سبق ذكره.
  23. Salhi Bilel, op.cit., P18
  24. Ibid., P 21
  25. حمزة حموشان، سبق ذكره، ص 13.
  26. المولدي قسّومي، “استئناف البناء الوطني من منظور العقد الاجتماعي، أيّ دور للاتّحاد العامّ التونسي للشغل؟”، الاتّحاد العامّ التونسي للشغل في مسار البناء الوطني (2014-1946)”، جامعة منوبة، منشورات المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر بالاشتراك مع الاتّحاد العامّ التونسي للشغل، 2018، تنسيق وجمع النصوص وتقديمها: مروان العجيلي، محمد فوزي السعداوي، مولدي قسّومي، عبد المجيد بالهادي، ص. 105، 145، ص. 131.
انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مجلة ، بيئة ومدينة ، سياسات عامة ، تونس ، حراكات اجتماعية ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني