في 2020 الصحافة التونسية غاضبة


2021-03-05    |   

في 2020 الصحافة التونسية غاضبة
(رويترز)

وجدت الصحافة التونسية نفسها في 2020 في مواجهة ثلاثة تحدّيات كبرى: الأوّل بدأ منذ بداية القرن الواحد والعشرين مع تطوّر نسق العولمة والتطوّرات التكنولوجية وظهور مفهوم “السرعة” كمعيار هامّ للتعامل؛ أما الثاني، فمرتبط بواقع الصحافة التونسية بعد الثورة الذي لم يخضع لأيّ هيكلة أو تنظيم بعد 14 جانفي 2011؛ وظهر الثالث مؤخّراً ويرتبط بجائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية على القطاع. لكن يبدو أنّ هناك تحدّيات أخرى داخلية تواجه قطاع الصحافة ظهرت جليّاً سنة 2020. لعلّ أبرزها التعديلات التي اقترحتها كتلة “ائتلاف الكرامة” على المرسوم 116، والتي وصفها أحد الصحافيين بأنّها “ستجعل من الصحافة التونسية سوقاً شعبية”. أثارت تلك المقترحات تحرّكات احتجاجية كبيرة رافضة لمضمونها تزامناً مع تلكّؤ الحكومة في نشر الاتّفاقية الإطارية الممضاة رغم صدور حكم قضائي يُلزمها بذلك. وهو ما دفع المكتب التنفيذي الجديد إلى افتتاح عهدته بمواجهة عنيفة مع الطرف الحكومي.

2020: سنة صعبة على الصحافة التونسية

أثّرت جائحة كورونا على الاقتصاد التونسي بشكل كبير، أسوةً بباقي دول العالم، حتّى أنّ كثيراً من الخبراء اضطرّوا إلى مراجعة توقّعاتهم الاقتصادية بخصوص سنة 2021. تأثّر قطاع الصحافة، إلى جانب الأزمة الهيكلية التي يعانيها منذ 2011، بشكل كبير أيضاً ما دفع أصحاب عدد من المؤسّسات الإعلامية إلى التخلّي عن نسبة من الموظّفين لضمان المستحقّات المالية لبقيّة الصحافيين. دفعت المشاكل التي تعاني منها الصحافة نقيب الصحافيين محمّد ياسين الجلاصي إلى وصف وضع الصحافة في تونس اليوم بالمأساوي. وقد سجّل التقرير السنوي لنقابة الصحافيين في ماي 2020 نحو 303 حالات طرد، منها 190 حالة تقريباً خلال أزمة كورونا وأكثر من 432 إعلاماً بعدم خلاص أجور صحافيين، من ضمنها أكثر من 100 حالة منذ انطلاق الجائحة. وفي ما يتعلّق بجانب الاعتداءات على الصحافيين، سجّل التقرير في الفترة الممتدّة بين ماي 2019 وأفريل 2020 نحو 194 اعتداء. لكن لم تقتصر سنة 2020 على التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا بل حملت معها تحدّيات داخلية كبيرة تتعلّق بمستقبل القطاع ككلّ. وفي هذا السياق، يعلّق زياد دبّار، عضو الاتّحاد الدولي للصحافيين، بالقول إنّ سنة 2020 تُعتبر سنة استثنائية بالنسبة للصحافة التونسية، وإنّ “مشاكل هذا القطاع لم تقتصر على ارتدادات فيروس كورونا بل كانت هناك هجمة غير مسبوقة على الصحافة والصحافيين في تونس”.

سنة الغضب والاحتجاجات

تُعتبر سنة 2020 سنة الغضب بالنسبة للصحافة والصحافيين في تونس. فنفّذ عدد من مهنيي القطاع وقفة احتجاجية أمام مقرّ رئاسة الحكومة في القصبة في 26 نوفمبر 2020، استجابة لدعوات نقابة الصحافيين التونسيين، رافعين مجموعة من المطالب أهمّها نشر الاتّفاقية الإطارية (تمّ إمضاؤها مع حكومة يوسف الشاهد) في الرائد الرسمي. قبل هذا التاريخ، وفي السياق نفسه، حمل الصحافيون التونسيون الشارة الحمراء في خطوة أولى من سلسلة تحرّكات لوّحت بتنفيذ إضراب عامّ في 10 ديسمبر. أُلغي الإضراب عشيّة ذلك التاريخ بعد التوصّل إلى اتّفاق مع رئاسة الحكومة يقضي بنشر الاتّفاقية الإطارية المشترَكة للصحافيين. وقد جاء في بلاغ لنقابة الصحافيين أنّه تمّ الاتّفاق على تسوية وضعيّة 36 مصوِّراً صحافياً في المؤسّسات الإعلامية العمومية، والتعهّد بالتسريع في مسار التفويت في المؤسّسات الإعلامية المصادَرة؛ على أن تضمن الدولة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيين العاملين فيها ضمن عقود التفويت.

من جهة أخرى، نظّمت تنسيقيّة المعطَّلين عن العمل من خرّيجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار سلسلة من الوقفات الاحتجاجية بدءاً من شهر جوان 2020، بدعم من النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، للمطالبة بتسوية الوضع المأساوي لنحو 151 معطَّلاً عن العمل من أعضاء التنسيقيّة.

معركة تنقيح المرسوم 116

لعلّ أهمّ ما يميّز سنة 2020 في ما يتعلّق بواقع الصحافة التونسية هي الاقتراحات التي قدّمتها كتلة “ائتلاف الكرامة” من أجل تنقيح المرسوم 116. ويُذكر أنّ مقترح القانون عدد 34/2020، المتعلّق بتنقيح المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المؤرَّخ في 2 نوفمبر 2011، هو مبادرة تشريعية مقدَّمة من كتلة “ائتلاف الكرامة” في البرلمان التونسي. وتتكوّن من ثلاثة فصول تتضمّن تعديلات على المرسوم 116/2011 وتتعلق بتركيبة الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي البصري الحالية وتجديدها من جهة، وحذف صلاحيّة إسناد الإجازات لإحداث القنوات التلفزية من قِبل الهيئة وإقرار مبدأ مجرّد التصريح بالوجود، من جهة ثانية.

لقيت التنقيحات مسانَدة من كتلة “قلب تونس” لكنّها لقيت معارضة شديدة من عدد من الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني. ويعلّق زياد دبّار على القضيّة مُوضِحاً: “في بداية عهدة المكتب التنفيذي الجديد صُدمنا بإقدام رئيس الحكومة على سحب مشروع القانون الأساسي المتعلّق بحرّيّة الاتّصال السمعي البصري وتنظيم هيئة الاتّصال السمعي البصري في خطوة لا يمكن فهمها خارج إطار خدمة أطراف سياسية بعينها. فقد جاءت لفتح الطريق للتنقيحات المُقترَحة من قِبل “ائتلاف الكرامة” وهي مقترحات خطيرة تفتح الباب أمام الاستثمار الخارجي في الإعلام التونسي من دون حسيب أو رقيب”. أثارت التنقيحات المُقترَحة حالة من السخط والغضب لدى أهل القطاع أدّت إلى نزول الصحافيين إلى الشارع في 20 أكتوبر 2020 للتظاهر أمام المبنى الفرعي لمجلس نوّاب الشعب. قبل أن تنتهي الأزمة بقرار المجلس تأجيل النظر في اقتراحات التعديل بانتظار الإعلان عن موعد جديد لمناقشتها والتصويت عليها. وقد اعتبر الجلاصي أنّ عمليّة تأجيل النظر في مقترح “ائتلاف الكرامة” يُعدّ انتصاراً للصحافيين في تونس قائلاً: “قرار البرلمان القاضي بتأجيل النظر في التنقيحات المقدَّمة كان بضغط كبير من الصحافيين، وقد وجدنا دعماً كبيراً من الكتل النيابية ولكن الضاغط الأساسي لسحب هذا المشروع هم الصحافيون وتحرّكاتهم”.

وكانت نقابات الإعلام في تونس (النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والجامعة العامّة للإعلام المنضوية ضمن الاتّحاد العامّ التونسي للشغل) قد أصدرت بياناً دعت فيه “أعضاء مجلس نوّاب الشعب المؤمنين بإعلام حرّ ونزيه بعيداً عن لوبيّات المال الفاسد والأجندات الحزبية الضيّقة لتحمّل مسؤوليّاتهم التاريخية تجاه الوطن وقطاع الإعلام ورفض هذه المبادرة، والشروع الفوري في مناقشة مشروع قانون السمعي البصري، الذي شاركت في صياغته الهياكل المهنية والخبراء وهيئة الاتّصال السمعي البصري”.

رئيس الحكومة لا يطبّق القانون

تضمّنت الاتّفاقية الإطارية المشتركة للصحافيين التونسيين التي أمضتها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مع الأطراف المعنيّة في مجال الإعلام، يوم 9 جانفي 2019، 36 فصلاً. أهمّها تحديد أجر أدنى للصحافي في كلّ المؤسّسات بـ 1400 دينار خام. وتنصّ الاتّفاقية على أن يتقاضى الصحافي أجره حسب الصنف المهني الذي ينتمي إليه والدرجة التي يوجد فيها، وذلك طبقاً لجداول الأجور التي يقع ضبطها صلب الاتّفاقيات الخاصّة داخل المؤسّسات الصحافية أو صلب القوانين الأساسية. رغم مضيّ أكثر من سنة على توقيع هذه الاتّفاقية، لم تنشرها رئاسة الحكومة في الرائد الرسمي. دفع هذا الأمر النقابة الوطنية للصحفيين إلى تقديم قضيّة استعجالية قضت فيها المحكمة الإدارية استعجالياً، لصالح النقابة. في المقابل ورغم الحكم القضائي، لم تلتزم الحكومة بنشر الاتّفاقية، إلى حين تلويح الطرف النقابي بالإضراب العام في 10 ديسمبر 2020، والتوصّل إلى اتّفاق الساعات الأخيرة وتعهّد فريق المشيشي بالإيفاء بالتزاماته. وفي هذا السياق، تقول الصحافية خولة السليتي إنّ الحكومة تسعى إلى وضع نقابة الصحافيين في عزلة، مُوضِحةً: “الحكومة، لا تتقن سوى الوعود. لقد خفّضت ميزانيّة الإعلام العمومي وسحبت مشروع المرسوم بتواطؤ مع كتلة “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” لفتح الباب أمام تنقيحات “ائتلاف الكرامة”. هذا من دون الحديث عن أنّ رئيس الحكومة يجتمع مع أصحاب المؤسّسات الإعلامية للبحث في أوضاع الصحافيين ويتعمّد تغييب الهيكل النقابي”.

مكتب تنفيذي جديد بِنَفَسٍ شبابي وصدامي

أسفرت أشغال المؤتمر الخامس [للنقابة] والسابع والعشرين [للمهنة] للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين في 20 سبتمبر 2020 عن انتخاب مكتب تنفيذي جديد بِنَفَسٍ شبابي، وإن كان عدد من أعضائه قد انتمى إلى المكتب التنفيذي السابق مثل نقيب الصحافيين الجديد محمد ياسين الجلاصي وفوزيّة الغيلوفي. وقد أكّد الجلاصي للمفكّرة القانونية أنّ أولوّيات المكتب الجديد هي الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيين. وأشار إلى أنّه “لا يمكن أن تدعو الصحافيين إلى الدفاع عن مبادئ الديمقراطية وحرّيّة الإعلام والصحافة الهادفة وبناء إعلام متقدّم بدون أن يكونوا في وضعيّة مادّية جيّدة. ثلاث سنوات من العهدة لا تكفي لتحقيق جميع المطالب ولكنّها كافية لتحديد التمشّي العام والبدء في العمل”. أفرزت الانتخابات كذلك فوز المصوّر الصحافي سامي الناصري الذي أكّد أنّ المصوّرين الصحافيين يسعون منذ الانتخابات الماضية إلى انتزاع مكان لهم ضمن المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين. وشدّد على أنّ أهمّ الأسباب التي دفعته إلى الترشّح هو الوضعيّة المزرية للصحافيين والمصوّرين، حيث يُعدّ العاطلون عن العمل في هذه الاختصاصات بالمئات في حين يُضطرّ آخرون إلى امتهان وظائف أخرى خارج اختصاصهم.

حمل النفس الشبابي للمكتب الجديد طابعاً صدامياً مع رئاسة الحكومة منذ بداية عهدته. فقد أعلنت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في 28 أكتوبر 2020 تعليق مفاوضاتها مع رئاسة الحكومة بخصوص الوضع في قطاع الإعلام قبل أن تدخل في سلسلة من التحرّكات الاحتجاجية طيلة الشهرين اللاحقين. ويفسّر الجلاصي أسباب هذا التوتّر بسياسة الممطالة التي تنتهجها الحكومة قائلاً: “جاءت تحرّكاتنا نتيجة هذه المماطلة. ونحن لم ندعُ إلى هذه التحرّكات إلّا بعدما قمنا بالعديد من المحاولات والدعوات التي لم تحقّق أيّ نتيجة”. وأضاف “الدعوة إلى التحرّكات الاحتجاجية والإضراب جاءا بعد سلسلة من الاتّصالات العقيمة مع الجانب الحكومي”.

تبدو مرتبة تونس في الترتيب العالمي لحرّيّة الصحافة متقدّمة مقارَنةً بدول أخرى عدّة في محيطها الإقليمي، لكن هذا المؤشّر لا يعكس الصورة الحقيقية لواقع القطاع. فالصحافة التونسية تواجه تحدّيات كبيرة سواء على صعيد معضلة التشغيل الهشّ وغياب التغطية الاجتماعية وضمان الأجور المُحترَمة للصحافيين، أو مواجهة العنف والانتهاكات المُسلَّطة على مهنيي القطاع، ليُضاف إليها سعيُ بعض الأطراف السياسية إلى تقديم مبادرات تشريعية تشكّل خطراً على مكتسبات حقبة ما بعد 14 جانفي 2011 على مستوى حرّيّة الإعلام والتعبير.

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مجلة ، مؤسسات إعلامية ، تشريعات وقوانين ، تونس ، حراكات اجتماعية ، مجلة تونس ، جائحة كورونا



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني