في جوابات المعتقلين: بعض الخيال وكلّ الأفعال سياسة وثورة


2022-03-07    |   

في جوابات المعتقلين: بعض الخيال وكلّ الأفعال سياسة وثورة
رسم: رائد شرف

“بقالي كتير ما كتبتلوش. مراتُه بتقولّي إنت اللي بتضحّكُه جواباتك، فبقعد أرتجل، لدرجة دلوقتِ مبقتش عارف أبعتله إيه تاني..”. يقول عادل (اسم مستعار وهو أحد كوادر العمل العام – يبلغ من العمر 45 عاماً) عن مراسلاته إلى صديقه المعتقل سيّد (اسم مستعار وهو مؤسّس أحد الائتلافات الشعبية عقب ثورة 2011، يبلغ من العمر 47 عاماً). تشير حكاية المراسلات الهزلية بين عادل وسيّد، إلى وجود نوع آخر من “جوابات” المعتقلين وذويهم لا يغلب عليها الطابع الحقوقي ولا تنحصر بالاطمئنات والطمأنة عن الأحوال أو المراسلة اليومية العادية.

مع قصة الثنائي عادل وسيّد نختبر تصوّراً غير دارج لجوابات المعتقلين، كمادة للإضحاك ومساحة للتأليف. فجوابات عادل إلى سيّد تحمل تفاصيل من نسج الخيال. فهو حين لا يتوفّر لديه مادة كوميدية واقعية يضطرّ لكتابة أمور غير واقعية لم تحدث وربما لن تحدث، ﻷنّ الحقيقة والتفريق بينها وبين الخيال الآن ليس بأهمية إدخال السرور إلى قلب سيّد والمرح معه وإضحاكه. تمنحنا حكاية المراسلات بينهما جانباً آخر لممارسة نابعة من حاجة إنسانية يمكنها أن تشكّل في حدّ ذاتها فعلاً سياسياً أكثر خِفّة وإلهاماً لجوابات المعتقلين، الآن وهنا، بعد أكثر من عقد من الزمن على انطلاق الثورة. في الذكرى الحادية عشر لها نودّ توثيق وجه جديد لما يمكن أن تعنيه مراسلة النشطاء المعتقلين. نحاول رواية أمل إنّ “إحنا لسّه موجودين” ولو فقط في جوابات “كوميدية”.[1]

الواقع والخيال في الجوابات.. ماذا وكيف تنقلهما؟

يتبادل سيّد (محبوس احتياطياً منذ عامين) هو وصديقه عادل[2] المراسلات منذ إلقاء القبض على الأوّل. بالنسبة للمعتقلين فإنّ الجوابات هي مساحة التواصل المتبقّية لهم مع أحبّائهم خصوصاً في حال كان هؤلاء الأحبّة من غير المسموح لهم بزيارة المعتقل لأنّهم ليسوا أقرباء من الدرجة الأولى.
وإزاء هذا الوضع، قرّر عادل أن يضفي على جواباته إلى سيّد لوناً خاصاً بهما في رواية الأحداث عبر الجوابات. فيقصّ على سيّد حكاياته كما لو كانت مشاهد من أفلام مستعيناً بمشاهد تكون بمثابة مؤثرات صوتية وألوان من الدعابات المشتركة في شلّتهم[3].

يختار عادل الحدث الأساسي في القصة من واقع حياة أصحابهما المشتركين، من بين نشاطاتهم العملية وخطط ومشاريع شخصية، يبني عليها تسلسلاً من تفاصيل غير حقيقية، ليُكوّن قصة ممتعة، تبعث في نفس سيّد الضحك وتدفعه للتفاعل معها بخفّة الظِّل نفسها. لا تحتلّ الأخبار الجافّة أو عبارات الثناء الاجتماعي مساحة بين الصديقين، فما زال لديهما القدرة على مشاركة أحداث خيالية للتنكيت على أصحابهما. يروي عادل “أوصف له مثلاً مشهداً لأداء صحابنا في مناسبة عامّة، وحدة صاحبتنا فرفوشة فرحانة هترقص إزّاي وترفع إيدها وتعمل إيه، طب صاحبتنا التانية المحافظة اللي بالنسبة لها الرقص ده مسخرة، لمّا هتبصّ لها وتزغرلها، المقالب اللي بعملها وإزّاي“.

وبالنسبة لسيّد، ليست الجوابات مع عادل فقط فرصة للمزاح بل وسيلته للرد على أصدقاء آخرين. يروي عادل تجربة يصفها بالمؤلمة قائلاً: “في موجة راديو واحدة مسموح لهم يسمعوها بالسجن، في أحد البرامج المذاعة عليها، كان أصدقاؤنا يراسلونه بإهدائه بعض اﻷغاني، وﻷنّه ليس بإمكان سيّد الرد، كان يرسل لهؤلاء اﻷصدقاء شكره وردوده من خلال جواباتي..أحياناً تأتي ردود سيّد في صورة رسومات كرتونية على مناديل ورقية، أو أعمال فنية من المواد المتاحة لديه. “عملّي مرة سبحة ظريفة جداً من بذور الزيتون”، ردوده وتفاعلاته من داخل السجن شديدة اللطف، على حد وصف عادل.

تؤدّي زوجة سيّد دور الوسيط في المراسلات بين الصديقين، مهما كان عدد الجوابات بينهما. يدرك عادل أنّ رحلة توصيل الجواب في حد ذاتها جهد على رفيقه وزوجته، لكنّه يحرص على ألّا يثقل عليهما. ويضيف: “لو مفيش قيمة مضافة، فأريّحه شوية، بدل ما تبقى حشو”.

من ناحية أخرى، يعرف عادل أنّ افتعال الاهتمام بدون وجود شيء ذي معنى يثير شعوراً سلبياً لدى سيّد، لا يحب أن يبدو وكأنه “بستجدي اﻷحداث، لمجرّد إشراكه فيها، هو هيحسّ كده إنّي بستغبيه، وأنا مش ممكن أخليه يحس كده”. 

وبالطبع يجب أن تتضمّن جوابات عادل موضوعاً مثيراً لاهتمام سيّد ويناسب أولويّاته، ومن ضمنها البيئة والتنمية المستدامة، لذلك حينما قرّر صديق مشترك التنسيق مع المدرسة التي يعمل فيها لاعتماد الدراجة الهوائية وسيلة التوصيل منها وإليها، قرر عادل أن يحكي لسيّد باعتباره “من آباء الفكرة في المدينة” على حد وصفه. اختار رواية الحكاية عن طريق سرد الفوارق الطبقية والفكرية بين طبيعة المنتسبين لهذه المدرسة وغيرهم، وكيف تؤثر امتيازاتهم على شكل اختيارات هذا الصديق واقتراحاته كي تناسب المدرسة. 

مطاردة الذكرى

في عام 2010، بدأت العلاقة بين الثنائي بطريقة غير مباشرة، أثناء بعض الوقفات الاحتجاجية آنذاك.  أصبح وجه كلّ منهما مألوفاً بالنسبة للآخر، من دون أن تجمعهما صداقة. في فبراير 2011، تعرّفا على بعضهما بشكل شخصي. وفي حين كان عادل مؤسس إحدى اللجان الشعبية، شكّل سيّد كادراً أساسياً ﻷحد الائتلافات النشطة وقتها، انضم إليها عدد من المتطوعين من أنحاء الجمهورية، والتي قرّر عادل فيما بعد الانضمام لها.

لعب تاريخ سيّد في العمل العام الميداني ونشاطه في فترة ما بعد الثورة دوراً هاماً في لفت الانتباه إليه، ﻷنّه وفقاً لتعبير عادل “هو معمول عليه هاي لايت بحكم قدرته على التنظيم، لكن في واقع اﻷمر، هو فقد رغبته في ذلك تماماً، وخصوصاً بعد القبض على نشطاء في قضية تيران وصنافير وده عملّه هزّة، بينما اعتبره اﻷمن بمثابة عنصر إثاري، بحكم أنّ لديه قدرة على التأثير والحشد، وإن كان هو مش عايز، حتى لمّا كان طليق وله معارف وشبكة علاقات واسعة حول العالم وليس في مصر فقط، وربما ظلّ نشاطه حتى الترفيهي، مثل عزفه في حفلات المزيكا مع أجانب ونشطاء دوليين عبر اﻹنترنت مقلقاً”.

بعد 2014، انتهى عمل عادل الميداني بعدما تقلّصت شبكة متطوّعيه، وحوّل اهتمامه إلى خطط تنموية ومشاريع بحثية عن البيئة، لكن هذا لم يحل بينه وبين الاعتقال. في 2020 ألقي القبض على صديقة له وهي كادر نسائي هام، “استفزّه القبض عليها” وفقاً لتعبير عادل. كثف كتاباته عنها ونقده لحملات اعتقال النشطاء، فألقي القبض عليه هو الآخر.

ارتبط الانحسار الثوري في السنوات الماضية، بالسيطرة الكاملة للنظام، وتحجيم وجود النشطاء، وزيادة التضييق على أصحاب التأثير المعروفين بمرحلة الذروة الثورية. استمرّ ظلّ هؤلاء المؤثرين أمثال سيّد مخيفاً، حتى بعد انحسار الثورة، بصفتهم ذكرى من ماضٍ قريب، يهاب النظام الحالي تكراره. لذا أصبح السجن مصير الكثير من المشاركين في الثورة. وأصبح على رفاقهم الموجودين خارجه استحداث طريقة للتواجد معاً بصورة أخرى، تتناسب مع الوضع الحالي.

هل يمكن للمراسلات أن تكون فعلاً سياسياً؟

ترى المُنظّرة السياسية حنا أرندت أنّ الفعل السياسي يوجد في التعددية، إذ يمنح الإنسان عالمه، بصحبة الآخرين. بالنسبة لها، السياسة هي انخراط في العالم المشترك. يتمكّن الناس من الممارسة السياسية بالاجتماع مع بعضهم لمناقشة موقف مشترك والقرار بخصوصه، وبهذا يصبح اﻹنسان جزءاً من كينونة مشتركة. وعلى الرغم من أنّ أرندت تشترط الحرية لوجود الفعل، لكنّ الحرية لديها هي ألا يكون اﻹنسان منعزلاً عن اﻵخرين، بل موجوداً داخل الفضاء العام الذي هو مجال السياسة. على النحو الذي تقرّه أرندت، يتواءم عادل وسيّد مع وضعهما في الوقت الراهن. بدلاً من مواصلة التباكي على ماضي الثورة، قرّرا تضمين المرح واستبعاد السلبي من المراسلات كفعل يناسب وضعهما الحالي، في تقدير عادل. يُحقق هذا القرار  لهما قدراً من تواصل ودعم هما في أمس الحاجة إليهما، وهو في حد ذاته فعل سياسي. “ويمكن يكون في أفعال سياسية غير دول في جواباتنا، بس حالياً التواصل والدعم المتبادل هم الفعلين السياسيين الواضحين ليّا” وفقاً له.

يعي عادل أنّ الفعل السياسي يحمل ضمنياً أبعاد إنسانية واجتماعية، ويعتقد في نفسه ممارس دائم للسياسة وملء الفراغ الذي يخيم على المشهد المصري اﻵن. انطلاقاً من الوعي أيضاً يدرك عادل أنّ هناك أسباب أخرى لاختياره مراسلة سيّد على طريقة الكوميديا والخيال، وهي: اتساق هذه الطريقة مع طبيعة شخصيته الساخرة، وعدم رغبته في نقل اﻷخبار السيئة عموماً. يعزّز اعتقال سيّد من ميله إلى عدم اﻹثقال عليه “مش هزوّد همّه وهو في الضيقة دي”. يصف ما يقوم به بـ “الاختيار العاجز”. يفسر “مفيش بدائل، لو قررت أزوره مثلاً، مش هيدخلوني، ﻷنّي لست قريبه من الدرجة اﻷولى، والاحتمالية في زيارته بعد كثير من اﻹجراءات العبثية، مش هتوصّلني لشيء، اللهم إلّا هأوجع قلبي وقلبه على الفاضي، فليه”.

يرى عادل أنّ أيّ فعل يخرج عن السياسة لا يمكنه حذف صفة السياسي من أي عمل، حتى لو حمل في طياته عجزاً كالذي يعيشه الناشطون ومن شاركوا في الثورة. لكن الثورة التي أتاحت الفرصة لممارسة السياسة لا تقف عند كونها اعتصامات وهتافات فقط، هي أيضاً القدرة على خلق حيّز يواكب التغيير والتواجد والاستمرار. يعتقد عادل أنّ عملية التصنيف هي ما تجعل الناس يصبغون على فعل معيّن مثل التظاهرات صفة السياسي رغم أنّ السياسي لا يقف عند هذه التصنيفات. يتوافق ما يقوله عادل مع نظرية أرندت عن صفة السياسي الذي لا يتحدّد بموضوعه أو مضمونه فحسب ولكن بمنهجه وطريقة حركته.

الرقابة

حكى[4] الصحافي خالد داود عن قراره بالامتناع عن ذكر تفاصيل شخصية في الجوابات وقت سجنه حذراً من الرقابة المفروضة على مراسلات المعتقلين، لكن بالنسبة لعادل فإنّه حين يقرر حذف أو تعديل و”منتجة” القصص يفكر في سيّد وليس في الرقيب. يفسّر ذلك بالقول “أصلي عارف إنّه دلوقت هو معايا في النفس. في رقيب وعتيد معانا باستمرار، مش بس في الجواب”، في إشارة إلى إحكام السلطة رقابتها على كافة تفاصيل حياة المواطن. يمتدّ استبعاده لأي تفاصيل ذات أهمية سياسية أو تدعو للاستنفار اﻷمني، وجعل سيّد محل اهتمام أو مصدر قلق، يستلزم المتابعة. أحياناً يشعر عادل بحق سيد في معرفة أمور معينة، أو إحاطته بأخبار منطقة كان مهتماً بها أو بأهلها في الماضي، ولكنه لا يفعل ما لم تكن اﻷخبار قابلة لأن يحكي عنها بلطف.

تعطي القوانين واللوائح المصرية الحق لمدير السجن أو المأمور في الاطلاع وفض الخطابات التي ترد أو ترسل من وإلى السجناء والمحبوسين احتياطيّاً، مما يشكل اعتداء على الحرية الشخصية للمسجون بانتهاك حرمة حياته الخاصة، بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. يعقب عادل “أنا في مرحلة بقول فيها دع الجميع يستمتع، وعارف إني كاتب حاجة تضحك، هيشوف في الجواب اتنين رجالة محترمين مرسومين لابسين جونلة بالية، فـ هيعوز إيه، كأني بقوله اتبسط معانا، لو ده بالنسبة له مضحك، أصل هيقرر يعمل إيه مع النوع ده من الهزار!”.


[1] هذه القصة مُهداة لكل المعتقلات/ين وذويهم/ن ومن يحبهم/ن ويشاركهم/ن مطالب الثورة، من دون أن يكن لذلك إشارة من قريب أو بعيد إلى رومانسية السجن، ولكنها فقط إشارة إلى ما يمكن أن تمثله ممارسة شخصية جداً من قدرة على الفعل سياسياً، إذا ما أفسحنا لأنفسنا القدرة على تجديد واستحداث أنماط أخرى ممّا نحتاجه ونتحايل على واقعنا للقيام به.
[2] أجري الحوار معه في تاريخ 7 يناير 2022.
[3]  مجموعة أصحاب.
[4]مقالات خالد داود، موقع المنصة.
انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، محاكم جزائية ، سلطات إدارية ، حركات اجتماعية ، مصر ، احتجاز وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني