الحكم الاعتباطي أو حكومة تصريف الأعمال الاعتباطية


2021-06-15    |   

الحكم الاعتباطي أو حكومة تصريف الأعمال الاعتباطية

منذ سقوط حكومة حسّان دياب، دخل لبنان في مرحلة دستورية تحكمها الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور التي تنص صراحة على التالي: “لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”·

ويعتبر تصريف الأعمال من المفاهيم التقليدية في النظم البرلمانية، إذ أنه لا يحقّ للحكومة ممارسة صلاحياتها إلا إذا كانت خاضعة لمحاسبة مجلس النواب الذي يعود له سحب الثقة منها في حال قرر أن توجهاتها السياسية والاقتصادية لا تتوافق مع إرادة الغالبية النيابية. فالحكومة التي تتقدّم باستقالتها، أو تلك التي تعتبر مستقيلةً وفقا للحالات التي تعددها المادة 69 من الدستور، تصبح خارج محاسبة مجلس النواب السياسية لأن السلاح الوحيد الذي يملكه هذا الأخير هو سحب الثقة من الحكومة مرغما إياها على الاستقالة. وبما أن محاسبة مجلس النواب انتفت مع استقالة رئيس مجلس الوزراء، لم يعد بمقدور الحكومة ممارسة كامل صلاحياتها التنفيذية لأن المنطق الدستوري يقوم على مبدأ التلازم بين السلطة والمحاسبة، فحيث تزول المحاسبة تزول معها السلطة.

جراء ما تقدم يتبين لنا أن تصريف الأعمال هو في حقيقة الأمر حل وسطي يهدف إلى التوفيق بين أمرين:

  • وجوب استمرار رقابة مجلس النواب السياسية على السلطة التنفيذية ما يحتّم الحد من صلاحيات الحكومة عند زوال المحاسبة النيابية.
  • ضرورة الحفاظ على مصالح الدولة إذ لا يعقل أن تؤدّي استقالة الحكومة إلى شلل المؤسسات والفراغ الكامل في المرافق العامة وهو تحديدا الأمر الذي يهدف تصريف الأعمال إلى تفاديه.

وكنّا في مقال سابق لنا شرحْنا بإسهاب مفهوم تصريف الأعمال والتمييز الذي أدخله مجلس شورى الدولة بين الأعمال العادية التي يجوز اتخاذها من قبل حكومة مستقيلة والأعمال التصرفية التي لا تدخل في نطاق تصريف الأعمال. لا بل أكثر من ذلك، اعتبر المجلس المذكور أن حتى الأعمال التصرفية يمكن اتخاذها عند الضرورة التي “تفرضها ظروفا استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي”. كما أنه يجوز اتخاذ الأعمال الإدارية “التي يجب إجراؤها في مهل محددة بالقوانين تحت طائلة السقوط والإبطال”. فما يبرر توسيع مفهوم تصريف الأعمال هو “الحرص على سلامة الدولة وأمن المجتمع وعلى سلامة التشريع، وفي هذه الحالات تخضع تدابير الوزارة المستقيلة وتقدير ظروف اتخاذها إياها إلى رقابة القضاء الاداري بسبب فقدان الرقابة البرلمانية وانتفاء المسؤولية الوزارية” (قرار رقم 334/614 تاريخ 17/12/1969).

وهكذا يتبين لنا أن بإمكان الحكومة المستقيلة الاجتماع عند الضرورة من أجل اتّخاذ تدابير تخرج عن نطاق تصريف الأعمال. لا بل أنّ هذه الامكانية تصبح واجبا عندما يكون الهدف اتّخاذ قرارات من شأنها تأمين العمل المنتظم لمرافق وإدارت الدولة العامة وبغية حماية مصالح المواطنين المشروعة. وقد عرف لبنان سوابق من هذا القبيل عندما أقرّت حكومة رشيد كرامي المستقيلة مشروع الموازنة في سنة 1969. كذلك حين اجتمعت حكومة سليم الحص المستقيلة لإقرار مجموعة من مشاريع القوانين المستعجلة في سنة 1979، وأخيرا عندما أقرت حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الإنتخابات في سنة 2013.

لا شكّ أنّ أبرز تطوّر تمّ إدخاله على مفهوم تصريف الأعمال هو التعميم رقم 10/2013 الصادر عن رئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي بتاريخ 19/4/2013 عقب تقديم هذا الأخير لاستقالته. فقد استحدث هذا التعميم آلية لا سند دستوري لها إذ طلب من جميع الوزراء “في حال أن ثمة قرارا إداريا يدخل في نطاق اعمال التصرفية التي تقتضي الضرورة اتخاذه في خلال فترة تصريف الأعمال إيداع مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال بشأنه على الموافقة الاستثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الوزراء”.

وقد تكرر هذا الأمر لاحقا. فقد عمد كل رؤساء الحكومة المتعاقبين إلى إصدار تعميم مُشابه بعد استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، كان آخرها التعميم رقم 27 تاريخ 11/8/2020 والذي أصدره رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب مكرّسا في الفقرة الأولى منه آلية الموافقات الاستثنائية الصادرة عن كل من رئيسي الجمهورية والحكومة.

وفي حال وضعنا جانبا مسألة صلاحية رئيس مجلس الوزراء باتخاذ هكذا نوع من التعاميم الآمرة، ومدى دستورية الآلية المُستحدثة التي تؤدّي فعليّا إلى نقل صلاحيات مجلس الوزراء إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، يتبيّن لنا أن الموافقات الاستثنائية تفتح الباب واسعاً أمام الاستنسابية. فبفعلها، يتحوّل تصريف الأعمال من مفهوم دستوريّ يخضع لرقابة القضاء الإداريّ إلى مفهوم سياسي تحدّده السّلطة الحاكمة التي تجد فيه الذريعة الأمثل لتحقيق مصالحها وفقاً للتوازن المتقلّب بين أركانها.

فمنذ تقديم حسان دياب لاستقالته، صدرَتْ عشرات المراسيم والقرارات التي لا تدخل في نطاق تصريف الأعمال عملا بآلية الموافقات الاستثنائية. أبرزها:

  • المرسوم رقم 6881 تاريخ 18/8/2020 والقاضي بتمديد حالة الطوارئ في بيروت دون حصوله على موافقة ثلثيْ أعضاء مجلس الوزراء كونه من المواضيع الأساسية وفقا لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور.
  • تمديد حالة التعبئة العامّة لأكثر من مرّة بموجب المرسوم رقم 6929 تاريخ 3/9/2020 والمرسوم رقم 7315 تاريخ 31/12/2020 دون الحصول أيضا على موافقة مجلس الوزراء الدستورية، وما استتبع ذلك من قرارات متعددة للإغلاق العام والفتح التي صدرت بمذكرات إدارية عن أمين عام مجلس الوزراء بناء على آلية الموافقات الاستثنائية نفسها.
  • تأجيل الانتخابات الفرعية بموجب كتاب أصدره أمين عام مجلس الوزراء بتاريخ 10 أيلول 2020 سندا إلى موافقة استثنائية ما يشكل خرقا فاضحا للمادة 41 من الدستور التي تفرض في  حال شغور مقعد نيابي إجراء الانتخابات من أجل انتخاب الخلف خلال شهرين.
  • إحالة مشاريع قوانين إلى مجلس النواب دون موافقة مجلس الوزراء كمشروع القانون المعجل والمتعلق بالبطاقة التمويلية المحال بالمرسوم رقم 7797 تاريخ 26 أيار 2021.
  • عشرات المراسيم المتعلقة بنقل اعتمادات من احتياطي الموازنة أو منح سلف خزينة وهي تطلب دستوريا موافقة مجلس الوزراء.

في مقابل هذا السّخاء بمنح الموافقات الاستثنائية من أجل تقييد حريات المواطنين عبر حالة الطوارئ، أو منعهم من ممارسة حقوقهم السياسية عبر تأجيل الانتخابات الفرعية التي لا ترغب السلطة تنظيمها في الظرف الراهن، نلاحظ أن آلية الموافقة الاستثنائية تتعطل عبر التذرّع بحجج دستورية متعددة أبرزها تصريف الأعمال عندما يصبّ ذلك في المصلحة السياسية لكل من رئيسي الجمهورية والحكومة ونظام الزعماء الذي يقف وراءهما. ومن أبرز هذه المواقف:

  • رفض رئيس الجمهورية في 5 تشرين الأول 2020 إعطاء الموافقة الاستثنائية وتوقيع مرسوم إعفاء مدير عام الجمارك بدري ضاهر من مهامه بحجة أن هكذا تدبير يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء.
  • رفض رئاسة الحكومة في 26/5/2021 توقيع مرسوم تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى رغم مطالبة وزيرة العدل الحثيثة وإعدادها لمشروع المرسوم المطلوب علما أن تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى غير الحكميين يتم بمرسوم عادي وهو لا يحتاج أصلا إلى إقراره في مجلس الوزراء[1].

يضاف إليها تخلف الحكومة عن تعيين بدائل عن عضوين من المجلس الدستوري توفيا، وأيضا عن تعيين قرابة 40 قاضيا من خريجي معهد الدروس القضائية منذ قرابة سنة.

وهكذا باتتْ آلية الموافقات الاستثنائية الحجّة الأمثل لتبرير أيّ قرار اعتباطي يتستّر بلبوس تصريف الأعمال من أجل تحقيق غايات سياسية. فمن استنكاف رئيس الجمهورية عن إعفاء موظف يعتبر من المقربين إلى فريقه السياسي، وتمنّع رئيس الحكومة عن توقيع مرسوم تعيين مجلس القضاء الأعلى خشية إغضاب زعيم يجد في تعطيل المرافق العامة وسيلة للضغط على رئيس الجمهورية، تصبح ازدواجية المعايير هي المهينمة في كل ما يتعلق بتصريف الأعمال ويتحول المنطق القانوني من وسيلة لحماية الصالح العام والدفاع عن المجتمع، إلى ذريعة لحماية مصالح السلطة الحاكمة على حساب مؤسسات الدولة.

وقد اعتبر المجلس الدستوري في لبنان أن مبدأ استمرارية المرفق العام هو من المبادئ ذات القيمة الدستورية (قرار رقم 1 تاريخ 25/10/1999). وبما أن تصريف الأعمال في لبنان بعد 1990 أصبح هو أيضا من المبادئ التي يكرّسها صراحة النصّ الدستوري ما يعني أنه يتمتع بالقيمة الدستورية ذاتها لمبدأ استمرارية المرافق العامة. وعملا بمبدأ عدم وجود هرمية بين النصوص والمبادئ التي تتألّف منها الكتلة الدستورية، فإن التعارض المُحتمل بين مبدأيْن دستورييْن يفرض الاحتكام إلى قاعدة التّناسب التي تحتّم النظر إلى كل قضية في سياقها المعين، وتطبيق المبدأ الذي يحقق المصلحة العامة. وغالبا ما يتولى القضاء الدستوري أو الإداري مهمة التحكيم بين المبادئ الدستورية التي قد تتعارض ظاهريا، أي أن تصريف الأعمال ليس قيدا مُطلقا يفرض نفسه في كل الظروف، بل هو ضروري فقط بقدر ما يمنع الحكومة من الإفلات من المحاسبة السياسية. وهذا ما كرّسته المادة 28 من مجلة الأحكام العدلية العثمانية التي نصّت: “إذا تعارضتْ مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما”. فالضرر المتأتي من عدم احترام موجب تصريف الأعمال هو أخفّ بكثير من الضرر الذي قد ينجم عن تعطيل المرافة العامة، لا سيما مرفق العدالة الذي من المفترض أن يسهر مجلس القضاء الأعلى على استقلاليته وفعاليته.

ومنذ 2005، دخل لبنان في مرحلة من الأزمات السياسية المفتوحة التي باتت تتكرّر عند كل استحقاق دستوري كالفترة الزمنية الطويلة جدّاً من أجل تشكيل حكومة جديدة، الأمر الذي كان لا بدّ في نهاية المطاف من أن ينعكس على مفهوم تصريف الأعمال. فقد اعتبر مجلس شورى الدولة أن “نظرية تصريف الأعمال هي نظرية معدّة للتطبيق خلال فترة زمنية محددة انتقالية يجب أن لا تتعدى الأسابيع أو حتى الأيام. وإن تمددها لفترة أطول لا بد أن ينعكس على مفهومها برمّته حتى يستطيع تحقيق الهدف منها وهو تأمين استمرارية الدولة ومصالحها العامة ومصالح المواطنين. فإذا امتدّت الفترة الإنتقالية لعدة أشهر، فإنه يصبح من الواجب التعامل مع هذا الواقع بشكل يسمح للحكومة تأمين استمرارية المرافق العامة وتأمين مصالح المواطنين التي لا يمكن أن تنتظر لمدة أطول خاصة إذا كانت مستوفية لكافة الشروط المفروضة في القوانين والأنظمة وهي تؤمن مصالح فردية مشروعة دون أن يكون لها الطابع التنظيمي العام أو تحد من حق الحكومة المقبلة في ممارسة صلاحياتها الإستنسابية (قرار رقم 349 تاريخ 23/2/2015).

فتصريف الأعمال لفترة طويلة يؤدي إلى ايجاد وضع قانوني يختلف بمفاعيله عن اقتصار تصريف الأعمال على مهلة زمنية بسيطة كون القرارات التي سيتوجب على الحكومة المستقيلة اتخاذها ستزداد مع الوقت وهي ستصبح أكثر إلحاحا مع تفاقم المشكلات التي يتوجب على الدولة مواجهتها، لا سيما عندما يكون المجتمع يمرّ بأزمة اقتصادية خانقة.

وتظهر اعتباطية تصريف الأعمال أيضا في فقدان المجلس الدستوري لنصابه القانوني بسبب تمنع السلطة التنفيذية عن تعيين بديلين عن العضوين المتوفيين بحيث شغرتْ مراكز أعضاء المجلس تباعاً، الأمر الذي شلّ عمل هذه المؤسسة المحورية وأفقدها قدرتها على الاجتماع لممارسة مختلف صلاحياتها الدستورية. وقد سبق للمجلس الدستوري أن عالج في قرار له مسألة تعطيل عمله فأعلن التالي:

“وبما أن المجلس يرى أن هذا الحرص الدستوري الشديد على عدم إحداث أيّ فراغ في السلطتين الاشتراعية والإجرائية إنما ينسحب حُكْماً على المجلس الدستوري الذي هو أيضا سلطة دستورية مستقلّة أنشأها الدستور ونصّ على اختصاصها، وذلك عملا بقاعدة توازن السلطات، وبما أن المجلس يرى أيضا في هذا السياق أنّ نصّ الدستور في المادة 20 منه على استقلال القضاة في إجراء وظيفتهم إنما يحصّن السلطة القضائية الدستورية المستقلّة ضدّ أيّ فراغ، وبما أن المجلس لا يرى سبيلا إلى احقاق قاعدة التوازن بين السلطات في حال قدر للسلطة أن تحصّن نفسها ضدّ الفراغ وتركت أخرى دون أي تحصين لفراغ يصيبها ولو إلى حين” (قرار رقم 1 تاريخ 6/8/2005).

وهكذا يصبح جليا أن تدارك الفراغ في السلطة القضائية وتحديدا المجلس الدستوري هو موجب دستوري إذ أن الضرر الناجم عن تعطيل هذا الأخير يؤدي إلى إفلات مجلس النواب من الرقابة الدستورية بحيث يتمكن من إقرار قوانين تصبح بحكم المحصّنة ضد أي طعن، ما يؤدي عمليا إلى الإطاحة بمبدأ سموّ الدستور. فلماذا لم تجتمع الحكومة المستقيلة من أجل تعيين الأعضاء الجدد؟ ولماذا، في حال سلّمنا جدلاً بامتناع ذلك خلال تصريف الأعمال، لم يتمّ اتّباع آلية الموافقة الاستثنائية لملء الفراغ في المجلس الدستوري عملا بمبدأ استمرارية السلطات العامة؟

إن كل هذه الملاحظات تثبت بشكل قاطع أن تصريف الأعمال تحوّل اليوم إلى مفهوم استنسابي يتمّ استخدامه فقط من أجل تحقيق أهداف سياسية بينما يتمّ تجاهله بالكامل عندما تفرض مصلحة السلطة الحاكمة ذلك. فالدولة الحديثة هي أساسا نظام قانوني هدفه منع اعتباطية الحكّام عبر إرساء قواعد عامّة معروفة مسبقاً من الجميع، وهو بالتحديد الأمر الذي يتمّ تجاهله حاليا بالكامل. فبدل أن يتمّ الاحتكام إلى المبادئ القانونية من أجل تحقيق الصالح العامّ وحماية حقوق المواطنين، باتت الحجّة القانونية الوسيلة الاعتباطية التي يتبعها نظام الزعماء لحماية نفسه على حساب المجتمع.

 

  1. هذا علما أن تصريف الأعمال لم يمنع رئيس الحكومة من توقيع مرسوم اعادة تعيين رئيس ومدير عام اللجنة المؤقتة لادارة واستثمار مرفأ بيروت كذلك مرسوم تعيين أعضاء في الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا.
انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، تشريعات وقوانين ، قرارات إدارية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني