هرمية النيابة العامّة التي ما فتئت “المفكرة” تحذر منها: “الحقّ العامّ” بيد شخص واحد


2021-05-03    |   

هرمية النيابة العامّة التي ما فتئت “المفكرة” تحذر منها: “الحقّ العامّ” بيد شخص واحد

في قضية تهريب الأموال، شهد الرأي العام اللبناني أحد تجليّات الممارسات الهرمية داخل النيابة العامّة. وقد تمثّل هذا التجلّي في القرار الذي أصدره النائب العامّ التمييزي غسان عويدات بإعادة توزيع الأعمال في دائرة النيابة العامّة في محافظة جبل لبنان، بما يؤدّي عملياً إلى كفّ يد النائبة العامّة في هذه المحافظة غادة عون عن التحقيق في قضية تهريب الأموال أو في أي قضية مالية أخرى. ويخشى طبعاً أن ينتهي ذلك إلى لفلفة الملف وحفظه من دون مزيد من التحقيق كما حصل في العديد من قضايا الفساد الكبرى. وفيما تولّدت عن هذا القرار مشهديّة فاقعة بالنظر إلى أهميّة القضية وإبلاغ القاضية القرار وهي في معرض تنفيذ مهمّتها، فإنّ الممارسات الهرميّة غالباً ما تنتج مفاعليها بعيداً عن الأضواء وتؤدّي إلى انحسار الحق العام وإفلات الاعتداءات الكبرى على حقوق المجتمع من أي مساءلة. فبفعل الهرمية، يكفي أن يضمن نظام الحكم ولاء شخص واحد ليتحكّم في النيابات العامّة التي تتولّى تحريك الحق العامّ. هذا ما فعله نظام الوصاية السورية من خلال النائب العام التمييزي الأسبق عدنان عضّوم، وهذا ما فعله نظام المحاصصة ما بعد 2005 من خلال خلفه الأسبق سعيد ميرزا وما يحاول تكراره مع الخلف الحالي عويدات.  

وفي 2018، نشرت “المفكرة القانونية” ورقة بحثية عن النيابات العامّة استعرضت فيها تنظيمها والممارسات فيها قبل قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد (2001) ومن بعدها وذلك ضمن إطار عملها على اقتراح قانون جديد لاستقلال القضاء العدلي. وهي تُعيد هنا التذكير بأعمالها المنشورة في هذا الشأن وذلك إغناءً للنقاش العام وتصويباً له. وما يزيد من أهمية إعادة نشر هذه المادة أسباب ثلاثة: (1) أنّ المعلومات المنشورة في هذا الخصوص تبقى شحيحة و(2) أنّ المجاملة تغلب عموماً المساءلة في مقاربة شؤون النيابة العامّة التمييزية، بفعل قربها من أغلب وسائل الإعلام وكونها المصدر الأساسي للمعلومات في الملفات القضائية، و(3) الأهم أنّ خطورة احتكار الخطر العام في يد شخص واحد تبقى عموماً مغيّبة عن الخطاب العام، تماماً كما كانت خطورة احتكار رياض سلامة لوضع السياسة المالية والنقدية مغيّبة عن الخطاب العام فلم يعِها الرأي العام إلّا من خلال التداعيات الناجمة عنها والتي تمثّلت في أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية والمالية في تاريخ العالم الحديث. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تغييب هذه المسألة الخطيرة عن الخطاب العام غالباً ما دفع الرأي العام إلى اتجاهات لا تتوافق بالضرورة مع الصالح العام أو على الأقلّ من دون اطّلاع كافٍ على المخاطر المتمثّلة في مسك النيابات العامّة من قبل شخص واحد. هذا ما حصل في إطار التجاذب حول التشكيلات القضائية وبدرجة أقلّ مؤخراً بشأن التجاذب في قضية تهريب الأموال إلى الخارج. 

توثيق حقبة عضّوم: تشريع الممارسات الهرمية 

في 2018، عملتْ الزميلة جويل بطرس في ثلاثة مقالات، على توثيق حقبة عدنان عضّوم في النيابة العامّة التمييزية، التي شهدت توسيعاً لافتاً لصلاحياتها سواء بفعل ممارسات عضّوم أو من خلال تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية في تلك الفترة. وقد بلغت الهرمية في ولاية عضّوم درجة عالية دفعت كثيرين إلى تلقيب القضاء بـ “القضاء العضّومي”. ويلحظ أنّ عضّوم سلّم في العديد من الحالات بضرورة تخطّي القانون في حالات معيّنة لحماية الدولة والمجتمع. فوفق عضّوم: “المصلحة الوطنية العليا ليست عملاً قضائياً صرفاً إنّما عمل قضائي وسياسي. هناك ضرورات تبيح المحظورات… وهناك بعض الإجراءات يمكن أن تتّخذ لتجنّب الوقوع في محاذير كبيرة معيارها الحكمة” (6 تموز 1995). كما أقرّ في مكان آخر أن ما يميّز النيابة العامّة “عن غيرها من فروع القضاء هو تمثيلها مصالح الشعب والدولة في آن واحد. ولا يخفى أنّ السلطة التنفيذية هي جزء أساسي من الدولة. وبالتالي، فمن البديهي والمنطقي أن تحكم علاقتهم أواصر التنسيق والتعاون القائم بين أي وكيل وموكّله… ويتجلّى هذا الأمر ببعض التدابير التي تتّخذ أحياناً لمصلحة الدولة والنظام العام وهذا ما تعارف على تسميته Raison d’Etat المصلحة الوطنية العليا”. وقد فسّر عضّوم هذه المصلحة بضرورة حماية الوفاق الوطني والسلم الأهلي والعيش المشترك، أي الشعارات التي استخدمها عهد لحّود لقمع أيّ تحرّك معارض له. فبعد إقفال محطة أم.تي.في. في عام 2002 على خلفية ممارستها الإعلان في الانتخابات الفرعية 2002، اعتبر أنّ “مصلحة الدولة العليا هو الحفاظ على الوفاق الوطني”.

توثيق تعاميم ومواقف النوّاب العامين ميرزا وحاتم وحمّود

في إثر تحوّلات 2005، تمّ تعيين سعيد ميرزا محلّ عدنان عضّوم. وهنا كان من اللافت أنّ فريق 14 آذار الذي كان أعضاؤه الأكثر انتقاداً لصلاحيات عضّوم المضخّمة وبخاصّة في ظلّ حملات المحاسبة التي انطلقت في أولى سنوات الرئيس إميل لحود، قد بات الأكثر تأييداً لهذه الصلاحيات بعدما انتقلت مرجعية النيابة العامّة التمييزية إليه. وقد وثّقت “المفكرة القانونية” تباعاً أبرز التعاميم والمواقف العلنية للنوّاب العامّين التمييزيين ميرزا وحاتم ماضي وسمير حمّود، وإن سجّلت تراجعاً لديهم أقلّه في عقد المؤتمرات الصحافية أو الظهور في الإعلام. كما سجّلت “المفكرة” تحوّل النيابة العامّة التمييزية إلى نيابة عامّة امتيازية بحيث أنّها أصبحت المرجع الذي يلجأ إليه مجمل أصحاب النفوذ في ملاحقة خصومهم، حتى في القضايا قليلة الشأن كقضايا القدح والذم.   

وقد سجّلنا في معرض توثيق ولاية ماضي، التعاميم غير القانونية التي أصدرها هذا الأخير لكفّ يد بعض المحامين العامّين ومنع الضابطة العدلية من العمل بإشاراتهم. وقد عاد ماضي فيما بعد عن هذه التعاميم بطلب من مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل.

ومن اللافت أنّ حاتم ماضي صرّح مؤخّراً في معرض دفاعه عن قرار عويدات بكفّ يد عون، أنّ النيابة العامّة التمييزية هي الذراع الأمني والقضائي للحكم، وأنّ قيامها بدورها يوجب عليها ممارسة “السلطوية” على مجمل النيابات العامّة (برنامج نهاركم سعيد، 19 نيسان 2021). 

عويدات يعلن نفسه سيّداً مطلقاً في قضايا الفساد والشأن العامّ

بعد أقلّ من أسبوعين من تعيين عويدات نائباً عامّاً تمييزياً، أصدر في 23 أيلول 2019 تعميماً على جميع أعضاء النيابات العامّة بوجوب إعلامه قبل القيام بأي إجراء بجميع الملفات المتّصلة بالإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديات واتّحادات البلديات، وعملياً بكلّ ما يتّصل بالقطاع العام وضمناً الفساد فيه. فضلاً عن ذلك، فرض النائب العام التمييزي في تعميمه وجوب إعلامه بكلّ ما يتّصل بقضايا “الشأن العام”. دفع هذا الأمر “المفكرة” للتعليق على هذا الموضوع للفت النظر لخطورة الممارسات الهرمية، مبيّنة أنّ عويدات ذهب في هذه المناسبة حدّ توسيع السلطة الهرمية الواسعة أصلاً من دون أن يجد حرجاً في مخالفة القانون أو أحكام الاتفاقية الدولية بمكافحة الفساد.

وقد تجسّدت هذه الهرمية في مناسبات عدّة لاحقة: 

  • تدخّل عويدات لإجهاض الملاحقة التي باشرتها غادة عون ضدّ رئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي ورفاقه على خلفية الإثراء غير المشروع. وقد شكلت هذه الدعوى أوّل حالة تطبيقية لقانون الإثراء غير المشروع بعد 66 سنة من إقرار صيغته الأولى. وقد ترافق موقف عويدات آنذاك مع فرض عقوبة مقنعة على غادة عون قوامها منع أيّ من عناصر الضابطة العدلية الالتزام بالإشارات الصادرة عنها. وقد شكّل هذا التدخّل عاملاً أساسياً في فرملة الادّعاءات بالإثراء غير المشروع، 
  • إصدار عويدات أوامر تعميماً بوجوب إحالة جميع الملفات المتّصلة بالاعتداء على ناشطي الثورة إليه، وبخاصّة بما يتّصل بالاعتداءات الحاصلة في بيروت. وعليه، فإنّ الهجوم الذي شنّه أنصار أحزاب السلطة في 29 تشرين الأوّل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى العديد من الاعتداءات التي حصلت فيما بعد، 
  • تدخّل عويدات لإرغام النائب العام المالي علي إبراهيم على تجميد قرار منع تصرّف المصارف وأعضاء مجالس إدارتها بعقاراتهم وأسهمهم، تمهيداً لاحتكار النظر في الشكاوى المقدّمة ضدّ المصارف. وقد انتهى هذا الاحتكار إلى عقد تسوية مع المصارف قوامها تشريع ممارستها في تقييد حقوق المودعين من دون أيّ نصّ قانوني، 
  • احتكار عويدات ملفّات الاعتداء على الأملاك البحرية. وهو الأمر الذي أدّى إلى تقاعس النيابة العامّة وتخلّيها عن ممارسة دورها في إخلاء الأملاك البحرية المعتدى عليها رغم إعراض العديد منها عن تقديم طلب معالجة ضمن المهل القانونية، 
  • تعميم عويدات الذي أصدره بتاريخ 4 آب 2020 ليس فقط للنيابات العامّة بل أيضاً لقضاة التحقيق والحكم بخصوص كيفية تفسير النصوص المتّصلة بحصانات الموظفين العامّين. وقد أصدرت القاضية المنفردة الجزائية لارا عبد الصمد بتاريخ 14/4/2021 قراراً بإهمال هذا التعميم بعدما ذكرت أنّ “التدقيق في القانون لا يظهر أيّ صلاحية لجانب المرجع مصدر التعميم في التعميم على قضاء الحكم، الذي ينطق أحكامه وقراراته باسم الشعب اللبناني، لا بل أنّ القانون ينصّ على خلاف ذلك، مكرّساً أنّ جانب النيابة العامّة خصم في الدعوى العامّة، وبالتالي فلا يجوز أن يعمّم الخصم في الدعوى على الحكم ما يجب فعله، وإلّا زالت استقلالية القضاء من جذورها”.
  • تدخّل عويدات في قضية مكتّف وبخاصّة من خلال قراره المؤرّخ في 16 نيسان 2021 والذي يرشح عن مخالفات قانونية جسيمة. 

الأسباب الموجبة لقانون استقلالية القضاء العدلي وشفافيته

أعدّت “المفكرة القانونية” اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي وشفافيته الذي قدّمه 9 نواب إلى مجلس النوّاب في أيلول 2018. ولا يزال هذا الاقتراح قيد الدراسة لدى لجنة مصغّرة منبثقة عن لجنة الإدارة والعدل. وقد تضمّن الاقتراح تعديلات هامّة على تنظيم النيابة العامّة، في اتجاه حصر الهرمية فيها ولجم الخطورة التي ترشح عنها، وذلك تيمّنا بالممارسات الفضلى المعمول بها في دول ديمقراطية. 

تمهيداً لتقديم هذا الاقتراح، نشرت المفكرة” عدداً خاصّاً تحت عنوان: “على أنقاض الاستقلالية”. وقد سعينا في هذا العدد إلى الكشف عن الممارسات المخلّة باستقلال القضاء والنيابات العامّة في موازاة توضيح تداعياتها. وقد نشرنا بشكل خاص بما يهمنا هنا مقالاً حول تنظيم النيابات العامّة وأدائها.

هذا ما أردنا لفت النظر إليه فلا تبقى مسألة احتكار الحقّ العامّ وشخصنته مغيّبة عن الخطاب العام. فلنتابع. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكمة عادلة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني