فاجعة مركب جرجيس: الوجه الآخر للأحداث


2023-02-21    |   

فاجعة مركب جرجيس: الوجه الآخر للأحداث

عقدَ ممثّلو حراك منطقة جرجيس في بداية فيفري 2023 ندوة صحفية، أشاروا خلالها إلى أنّ قضية المهاجرين النظاميين المفقودين في سواحل جرجيس منذ سبتمبر المنقضي ما زالت محاطة بالتعتيم الرسمي بخصوص مصير العديد منهم والأسباب التي أدّت إلى غرق مركبهم. وقد شدد قادة الحراك بجرجيس على أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد يستعرض معطياتٍ مغلوطة من أجل إيقاف الأبحاث وطمس معالم الجريمة، وأن عمليات التمشيط لم تُسفر عن وجود المركب عكس ما أشار إليه سعيّد في آخر خطاب له. تعيد المفكرة القانونية في هذه المناسبة قراءة الأحداث الحاصلة في جرجيس وبخاصة لجهة انزلاقات رئاسة الجمهورية في التعامل مع هذا الحدث (المحرّر).

منذ يوم 26 سبتمبر 2022، نظّمَ المجتمع المحلّي البحّاري تحت إشراف جمعية البحّار التنموية البيئية بجرجيس عمليات تمشيطيّة بحريّة للبحث عن المفقودين والمفقودات. وإلى حدود كتابة هذه الأسطر لم يتمّ العثور إلاّ على سبع جثث من بين 17 فقيدا وفقيدة. ولم يقتصر دور جمعيّة البحّار فقط في البحث عن الجثث، بل عملَت أيضا رفقة الاتحاد المحلي للشغل بجرجيس على تأطير الحركات الاحتجاجية وتوجيهها وتحديد أهدافها والمتمثّلة أساسا في إيجاد المفقودين والمفقودات والكشف عن ملابسات غرق قارب الهجرة غير النظامية بمنطقة جرجيس ليلة 21 سبتمبر 2022.[1]

تطوّرَت عمليّات البحث الأهلية عن المفقودين إلى حراك احتجاجي لم يتوقّف تقريبا منذ سبتمبر 2022، واجهته السّلطة بالإنكار وشيطنة الحراك والضغط على قادته. وفي آخر خطاب ألقاه رئيس الجمهورية قيس سعيّد، قال بأن المركب تعرّضَ إلى عملية إغراق مقصودة ومدبّرة، مُتّهما أطرافا لم يسمِّها بالتورّط في هذه العملية. كما ألمحَ الرئيس في الخطاب نفسه إلى أنّ المحتجّين تلقّوا أموالاً من أجل تأجيج الأوضاع في المدينة.

في هذا السياق يحاول هذا المقال البحث في مضمون الرواية الرسمية ومقارنتها مع الوقائع وشهادات بعض الفاعلين في حراك جرجيس. 

الرئاسة تنخرط في سياسة تضليليّة

في سياق تصاعد الاحتجاجات، صدر عن رئاسة الجمهورية بيان يوم 14 أكتوبر 2022 وردَ فيه: “جدّد رئيس الدّولة إسداء تعليماته لقوّات جيش البحر وللسلطات الجهوية بضرورة مزيد تكثيف عمليات البحث عن الغرقى” مضيفا: “يتوجّه رئيس الدولة بالشكر للأهالي وخاصّة لأصحاب المراكب على ما بَذلُوه من جهد لمعاضدة القوات العسكرية والأمنية وأعوان الحماية المدنية”. ولكن التعليمات الرئاسية وتثمين المجهودات الأمنية شكلت نقيضا للوقائع المحليّة. في هذا السياق، يقول رئيس جمعية البحار التنموية البيئيّة شمس الدين بوراسين: [2]

“ما لاحظناه هو غياب الدولة وغياب السياسيين المسؤولين وغياب الأمن في عمليات البحث والتمشيط. ونحن نستنكر هذا…الدولة لم تدعَم عمليات البحث التي قام بها البحارة ولم تقم حتى بالتنسيق معنا وبالإرشاد.”

في الاتجاه نفسه يوضح الكاتب العام في جمعيّة البحار التنموية البيئية مجيد عمر:[3] “طالب الأهالي بطائرة للتمشيط منذ الأيام الأولى. لكنّها جاءت متأخرة تقريبا يوم 26 سبتمبر 2022… كما أنّ الحرس البحري لم يكن في حجم المسؤولية وفي حجم الهبّة المواطنيّة.”

بالتزامن مع استمرار الحراك الاحتجاجي المحلّي، أصدر رئيس الجمهورية بيانا يوم 17 أكتوبر 2022 أكدّ فيه على “أنّ عديد القرائن تضافرت وتُثبت تورّط جهات بعينها في الإتجار بالبشر”. ولكن الملاحظات الميدانية والروايات المحليّة تثبت عكس هذا.[4] فقارب 21 سبتمبر يندرج ضمن “الحارقُون الهواة” (مهاجرون غير نظاميين هواة) Haraga amateurs، فهي رحلة هجريّة لم تنخرط ضمن الشبكات المتوسطة أو العابرة للقارات، بل مُوّلَت بموارد ذاتية من قبل المهاجرين والمهاجرات أنفسهم، فهم من وفرّوا الموارد من مال وقارب وقبطان، وحشدُوا لتلك الرحلة عن طريق شبكات الحي وأبناء البلدة الواحدة، فأغلبهم من حي السواحل بجرجيس، وهنا لا يمكن الحديث عن شبكات المتاجرة بالبشر.

المرور إلى القمع والملاحقة الأمنية

بعد الإضراب العام المحلّي بجرجيس يوم 18 أكتوبر 2022، استقبل رئيس الجمهورية يوم 20 أكتوبر في قصر قرطاج وزيرة العدل ليلى جفال وأكدّ في لقائه على “متابعته المستمرة لملف جرجيس”. وفي يوم 25 أكتوبر 2022 جَرى لقاء بين رئيس الجمهورية ووزير الداخلية توفيق شرف الدين والمدير العام للأمن الوطني مراد سعيدان، وتطرّق لقاؤهم إلى حادثة غرق مركب جرجيس. وفي 07 نوفمبر 2022، وبعد لقائه بوزير الداخلية، بيّنَ سعيّد “متابعته اليومية لهذا الملف مؤكّدا على ضرورة تحميل كلّ الأطراف مسؤوليتها وعلى إماطة اللثام عن كلّ من كان وراء هذه الفاجعة”.

إثر التصريحات الرئاسية الواعدة بكشف الحقيقة من دون التحوّل إلى برنامج فعلي، قرّرَ المجتمع المحلي يوم 18 نوفمبر 2022 تنظيم مظاهرة سلمية نحو جزيرة جربة والتي تبتعد عن جرجيس حوالي 47 كلم، وذلك بالتزامن مع انعقاد القمة الفرنكوفونية بمدينة جربة. ولكن في ذلك اليوم، أقدمتْ جحافل من البوليس في المفترقات الرابطة بين جرجيس وجربة على قمع الاحتجاج السلمي الذي قرّرَ الأهالي تنظيمه لإيصال أصواتهم المطالبة بكشف الحقيقة عن الفاجعة البحرية، حيث تمّ استعمال قنابل مُسيّلة للدموع منتهية الصلاحية استهدفت حتّى النساء والقصّر وتمّ إيقاف العشرات من الشباب وقادة الحراك ومقايضتهم بعودة الأهالي إلى جرجيس. وتأتي هذه السياقات القمعية في اليوم الذي صَرّح فيه رئيس الجمهورية قائلا: “صبرًا يا أهل جرجيس، فالحقيقة آتية.”

لم تنتبهْ الدولة إلى الإشارات الحقوقية والإنسانية. وكانت استجابتها منعدمة وأحيانًا بطيئة. ولكنّها حضرَت وبقوّة في المقاربة الأمنية والقمعية. بعد القمّة الفرنكوفونية، شدّد رئيس الجمهورية في لقائه مع وزير الداخلية توفيق شرف الدين في قصر قرطاج يوميْ 22 و24 نوفمبر على “ضرورة التسريع في الأبحاث وتعزيز الفرق التي تحوّلت إلى ولاية مدنين حتّى يعلم أهالي الضحايا والشعب التونسي الحقيقة كاملة.”  في اليوم العالمي للمهاجرين (18 ديسمبر 2022)، نظّم الفاعلون المحليون يوما احتجاجيا أمام مقرّ السلطة المحليّة (المعتمدية) في جرجيس. وفي إثر ذلك، تعرض البعض منهم إلى الاستجواب. وفي هذا السياق، صرّح لنا وليد، أحد صغار البحارة[5] الذي وفّر وقته على حساب  عمله اليومي من أجل البحث عن المفقودين والمفقودات، قائلا:

“لقد تمّ استجوابي مرّتيْن في منطقة الحرس البحري في جرجيس من قبل فرق أمنية قادمة من تونس العاصمة، وتمّت هرسلتي (الضغط علَيَّ) من خلال الأسئلة الغريبة التي لم أجد لها جوابا… هي أسئلة في مجملها تدور حول علاقتي بالبحث عن المفقودين والمفقودات وعلاقتي بالحركة المحليّة… وكأنهم يريدون إبعادنا عن الحركة وعن القيم النبيلة والمواطنية”.

لم تنحصر هذه المضايقة بوليد، بل تعرّض بعض الشباب إلى مضايقات أمنية وصلتْ إلى حد العنف. في السياق نفسه يوضّح وليد: “لقد تمّ استجواب بعض الشباب، ومنهم من تعرض إلى عنف جسدي داخل منطقة الحرس البحريّ، وقاموا بابتزازهم وطلبوا منهم عدم المشاركة مجددا في الحركات الاحتجاجية”.

“المؤامرة” عوضًا عن الحقيقة

بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الحراك، لم تستَطِعْ الدولة التونسية والفرق الأمنية كشف الحقيقة. واختار حينها رئيس الجمهورية ليلة 28 ديسمبر 2022 تقديم مبرّرات لا دلالة ولا مبنى ولا معنى لها، حيث ورد في تصريحه:

“الأيام القادمة ستكشف حقيقة هؤلاء الذين لا تهمّهم الأرواح. القارب الذي انتقل عليه المهاجرون والمهاجرات ليلة 21 سبتمبر لفظه البحر وكان مثقوبا ولا يتّسع إلاّ لسبعة أشخاص. ومع ذلك أصر منظّم الرحلة على خروجه رغم أنّ بعض البحّارة قالوا له أنّ الأحوال الجوية لا تسمح بالإبحار…ودفنوا بعض الجثث دون تشريح وذلك لتأجيج الأوضاع…وجاءت مائة مليون من فرنسا ورقم الحساب البنكي موجود…ولو كانوا وطنين لأعطوا الأموال للفقراء. وهناك رقم آخر بـأربعة مئة ألف دينار…هؤلاء (المهاجرون والمهاجرات) هم في حساب الشهداء لأنّه تمّ إغراقهم، وهؤلاء (المتورّطون). تهمهم خياناتهم وتجويع الشعب والتنكيل بهم.”

 عوضا عن البحث عن الحقيقة وكشف الملابسات والحيثيات وفرمَلة الهجرة غير النظامية من خلال مقاربات حقوقية، باتَ رئيس الجمهورية يستند إلى بنية خطابية جافّة ومن دون دلالة، مرتكزا إلى ثنائية الخير والشرّ. وفي سياق انعدام الحلول وعدم إقراره بفشله، اعتمد الرئيس سعيّد على أسلوب التعويم والتكرار حدّ المبالغة أحيانا في خطبه، على نحو يذكّرنا بالمقولة الألمعية لشارل تاليران، وزير خارجية نابليون وأسطورة الدبلوماسية الفرنسية، عندما قال: “كلّ ما يُبالغ فيه هو أمر غير ذي أهميّة”.

لم يُساهم التعاطي السياسي الرسمي مع الفاجعة في تطويق الاحتجاجات، بل ساهم في تأجيجها نظرا لطابعه التلفيقي، وبخصوص هذا التعاطي السياسي يقول مجيد:

“إنّ الموقف السياسي تجاه هذه الفاجعة هو موقف مخزٍ وهزيل ولا يرتقي لما عليه الوضع، لقد رأيت الأمل في منظومة 25 جويلية، ولكن حينما نرى بطء الإجراءات يصيبنا الاستياء”.

 في السياق نفسه يقول شمس الدين: “يوم 25 جويلية 2021 كان لدينا أمل لأنّ قطاعنا البحري كان مُهمّشا. وكانت لنا رغبة في التغيير لأنّه كانت هناك شعارات “مع الشعب”، ونحن من هذا الشعب ورغبنا في أن تشملنا قرارات شعبيّة ويتّجه القطاع البحري نحو التحسّن. ولكن التمشّي الأمني ظلّ كما هو…ويتبيّن هذا من خلال حادثة حيّ التضامن، وحادثة المطاردة ومقتل شاب من قبل الحرس الديواني في ساحة الجمهورية بتونس العاصمة…ونحن في الحقيقة قد أصابنا الاستياء، ويجب على رئيس الجمهورية أن يُراجع حساباته ويستيقظ حتى لا يفوته القطار”.

إلى حدود الآن، يلوح أنّ التعاطي الرسمي مع فاجعة جرجيس ما زال يُحافظ على طابعه التضليلي. فقد دشّن الرئيس سعيّد تصريحاته بوعود عامّة حول الكشف عن الحقيقة، ليستقرّ على رواية تتّهم أطرافا غير معلُومة بالضّلوع في إغراق المركب وتتهم المشاركين في الحراك بتلقي أموالا لتأجيج الأوضاع.


[1] – لقراءة كرونولوجيا الأحداث وديناميكية الاحتجاج واستجابة الدولة وعنف الحدود وعبث الدفن يمكن للقارئ العودة إلى:

– طبابي، (خالد)، “جثث عائمة وأرواح هائمة عبث الدفن ودولة الاحتقار: مأساة شبه الجزيرة الجريسيّة”، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2022.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني