عودة في ذاكرة الانتقال الديمقراطي (1): من “سنوات الطين” إلى “سنوات الرمل”


2024-03-23    |   

عودة في ذاكرة الانتقال الديمقراطي (1): من “سنوات الطين” إلى “سنوات الرمل”

صدر في 2023 كتاب في 492 صفحة لأستاذ التاريخ المعاصر والناشط السياسي عدنان المنصر، عنوانه: “سنوات الطين: تونس من الديمقراطية الكسيحة إلى الاستبداد الشعبوي 2019-2023″، من منشورات سوتي ميديا. كان الكاتب وجها من وجوه الانتقال الديمقراطي حيث نشط في صفوف حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ثم حراك تونس الإرادة. وتولى إدارة الدائرة الثقافية ومنصب الناطق الرسميّ باسم رئاسة الجمهورية ثم مدير الديوان الرئاسي في عهد الرئيس منصف المرزوقي، الذي  أدار حملته الانتخابية في رئاسيات 2014. ثم أعلن عن مغادرته الحياة الحزبية في سبتمبر 2018 ليختم بذلك سنوات طويلة من النشاط السياسي.

الكتاب ككل كتاب حمّال أوجه، يُعيي مُتأوليه وقارئيه. لكن يبدو أنّ الكاتب قد سعى لوضع حدّ أدنى ذي دلالة لا يمكن تجاهلها. أورد عدنان المنصر في تصدير الكتاب أنّ “عليك بالصدق وإن قتلك، ولئن يضعني الصدق أحبّ إليّ من أن يرفعني الكذب”. ليس هيّنا على الكاتب أن يورد رمزية أخلاقية عُمَرية تكررت كثيرا على لسان الرئيس قيس سعيّد في خطاباته. ينزل الكاتب منزلا صعبا صنع رئيس الجمهورية له فيه “أسطورة” أكّد الكاتب أنه يسعى إلى تنسيبها (ص15)، وذلك بوضعها في سياق يضبط دلالاتها. هذا المنزل الصعب تطلّب من الكاتب أن يُعلن أنّه يتوخى الصدق قبل أن يقول مقولته حول مرحلة حساسة من التاريخ الجمعي، وهي في نفس الوقت تاريخه الشخصي وتجربته الفردية. صدقٌ يسعى له في ضوضاء “السحل الأخلاقي للشعبوية”. وهو ما نعتبره أصعب وطأة من القول نفسه لأن المعادلة الإيتيقية للديمقراطية الحديثة المأمولة في المعمورة منذ قرون قد افترضت أنّ كلّ قول ممكن “أخلاقيا” إلى أن يثبت العكس. ويبدو أنّ الكاتب يتمسّك بهذا المعيار الأخلاقي تنصّلا ورفضا لـ”الدرس الأخلاقي” للشعبوية التونسية. بل يحضر “درس أخلاقي” مقابل طيلة صفحات الكتاب، ولا يمكن تجاهله حول السقوط الأخلاقي للفاعل السياسي، دون أية استثناءات، خلال فترة الانتقال الديمقراطي. ويطرح تساؤلا مُلحّا عن أسبابه، وهو الصادر عن أحد الناشطين والوجوه التي تصدّرت الساحة السياسية في مرحلة من مراحل قريبة في تاريخ البلاد.
الكتاب هو ثاني إثنين بعد “سنوات الرمل”، الذي سيكون محل قراءة أخرى قريبا. يتقدّم الثاني في هذه القراءة على الأول ليس لأفضلية المفضول في وجود الأفضل، لكنّ طين الفترة القريبة يُلحّ على القارئ والمتابع والناشط قبل الرجوع والعودة في ذاكرة الإنتقال الديمقراطي أكثر إلى الوراء.

“التوافق” عنوانا لتحالف سياسي لا أخلاقي

دلالة الطين في كتاب “سنوات الطين” تفرض نفسها لأنه يبدو أننا أمام طين موحل يبتعد بنا، في هذه الأجواء الرمضانية، عن دلالة الطين المخلوق على صورة الربّ قبل أن تُنفخ فيه الروح ليُبعث حيّا. الطين لدى عدنان منصر منذ البداية طينٌ نغرق فيه وغرقنا فيه من قبلُ. هو ليس مادة تُشكّل كيانا ما عنّا على صورة الديمقراطية، لأنّ “روح الأخيرة” ومعها “روح الثورة” تضمحلان بعيدا مع التقدم في قراءة كل سطر.

في سؤال المنهج، يبدو الكاتب مُتخفّفا من الصرامة العلمية الشكلية لقواعد المنهج التاريخي. لم يكن الكاتب متلهّفا لتعريف المفاهيم والمصطلحات والتصريح بالإشكالية أو المصادر لكنها جميعا تتبدى خلال النص بسلاسة أسلوب الكتابة السردي، ما جعل النص خفيفا في التناول والقراءة. في المقابل، ثمّة انضباط بشروط منهجية بخلفية تاريخية أكاديمية حيث يمكن ملاحظة أننا بصدد متابعة تسلسل تاريخي للأحداث، واعتماد مصادر لكتاب وناشطين آخرين بالإضافة إلى لقاءات مع ناشطين، ودون أن نُغفل أنّ للكاتب مصادره الخاصة. خلق الكاتب بينه وبين القارئ مسافة تأويلية تحكمها هذه الضوابط لينأى بنفسه عن تهمة الذاتية رغم أنّ للبعد الذاتي حضورا لا يمكن ولا يجب على القارئ أن يتناساه. فالكاتب قد أعلن منذ البداية عن تحدّي أخلاقية الكتابة والتأريخ للشأن العام، وهو الذي كان جزءًا منه. بل أيضا يتردد البعد الأخلاقي في طيات الكتاب بشكل مثير للانتباه. ما يُعطي انطباعا عن أنّه هاجس شخصيّ لديه.

بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام. أولها مُعنون “انتخابات 2019 التشريعية: قرع أجراس الانتقال الديمقراطي”، وهو مكوّن من ثلاثة أبواب. غطى القسم الفترة الممتدة من 2014 إلى 2019 تاريخ الانتخابات التشريعية. وهو بذلك يشير إلى تبنيه منهجا يتجاوز التحقيب الزمني لصالح متابعة الأحداث والمتغيرات المؤثرة في الحدث الرئيسي للانتخابات وتبعاتها. يضع الكاتب مجهره على سياسة التوافق بعيْن الملاحظ المشارك من دون أن يتردد في الاستشهاد بمراجع أخرى من المذكرات السياسية والدراسات العلمية. هذه المسافة من الأحداث تُدخل القارئ في مساحة تأويلية مع الكاتب بناء على منهج الكتاب. وهو ما يُحسب له.

من خلاصات القسم الأول الذي غطّى سياسة التوافق بتفصيل من داخل دينامياته، أنّ الممارسة السياسية خلال تلك الفترة هي سياسة حلقات ودوائر تضيق وصولًا إلى الزعامات المُتحكّمة في المشهد. الزعامات منها محلّ المركز، وتتحكم بمنطق نفوذ يتجاوز المؤسسات والهياكل سواء الأحزاب أو المؤسسات السياسية في الدولة. كان كلّ من راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة والباجي قايد السبسي مؤسّس نداء تونس ورئيس الجمهورية بين 2014 و2019، قادريْن على تطويع التناقضات في الساحة السياسية في الهياكل الحزبية التابعة لهما أو في البرلمان. بل وباستغلال الخزان الانتخابي قبل الانتخابات عبر خطاب حدّي (ضد النداء/ضد النهضة) يُخفي التوافق الضمني بين رأسيْ التيارين لفترة طويلة. ذاك الاتفاق “التوافقي” الذي طغى على الساحة رغم أنّ لا أحد يعرف تفاصيله، ولا يمكن العثور على وثيقة مكتوبة له خوفا من “التسريبات”. منطق التوافق نفسه حمل فيه باثولوجيا الممارسة السياسية في تونس، حسب الكتاب.

من هنا يظهر التحدّي الأخلاقيّ الذي طرحه الكاتب. فتأويليته للأحداث من 2014-2019 معيارية أخلاقية قد أكّدت على أنّ الزعامات جعلتْ من التوافق عمليّة تقاسميّة لا أخلاقية وبراغماتيّة للسّلطة ومنافعها بين الحزبين. و”خطيئة” التوافق، كما يؤكد الكاتب، هي إجهاض العدالة في مسار العدالة الانتقالية بمرجعيّتها الثورية لصالح المصالحة في القانون برهاناتها وحساباتها السياسية. وهو ما يشهد عليه التعامل مع هيئة الحقيقة والكرامة وإنشاء صندوق الكرامة. يحيلنا الكاتب على تفاصيل العرض والطلب والتفاوض واللجوء للشارع في تلك المرحلة، والتي تموقع الفاعلون حسبها مُصرّين على إرسال رسائل سياسية للخصوم والأنصار حسب استراتيجيات محسوبة بشكل جيّد. لكنها في النهاية كانت غير أخلاقية ذلك أن هدفها كان غلق ملفات رجالات النظام القديم. وتعامل معها كلّ طرف حسب مصالحه الضامنة لموقعه وتأثيره خاصة في سياق ما بعد انقلاب 2013 في مصر.

حمئة التوافق وتغذية الشعبوية

أشار الكاتب إلى ظروف استنبات الشعبوية في تونس. منها ما أورده عن رؤية وتقييم الفاعل السياسي للحركات الاحتجاجية الشبابية. هذا الفاعل يؤوّلها سياسيا على أنها واجهة معارضة حزبية وبرلمانية (ص. 46). وللقارئ هنا أن يلاحظ أنّ مرجعية التأويل والتقدير للفعل السياسي ضيقة الأفق بشكل خطير. فهي منغمسة في حسابات توافق غذّى الزبونية السياسية داخل الأحزاب ومؤسسات الدولة، فأعماها أو تعامتْ بها عن أنه احتجاج شبابي له عمقه الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الثوري. تتأتّى مرجعية التأويل لدى الفاعل في تلك الفترة من الموقع والإستراتيجية وغياب المرجعية المعياريّة للديمقراطيّة التي تفترض تأويلا موسّعا لكل تفاصيل الشأن العام. لم يعبّر عن هذا المعيار سوى الحركات الاحتجاجية الشبابية باعتبارها صدّرت دائما القيمة الأخلاقية للثورة (ص. 48). في المقابل، لم تكن سياسة التوافق إلا حجر الركن في تدعيم سلطة الغنوشي والمجموعة الملتفّة حوله على هياكل الحزب ومنها في الدولة والساحة السياسية. وذلك هو شأن نداء تونس الذي دخل في مرحلة هدر انحدارية للهيكل والسياسة الحزبية داخل الزبونية السياسية، والتي منها ظهر فاعلون آخرون على أنقاضه. وهكذا تتواصل الحلقات بإرث السياسة السياسوية تعميقا لحالة اليأس المُعمم من نخب الانتقال بل ومن الانتقال الديمقراطي نفسه. تشكّلت مقبولية 25 جويلية حسب الكاتب منذ ذلك التاريخ، وهي الخطة التي تمّ الإعداد لها “بعناية ودقة على مستوى ما أُعلن عنه من إجراءات وعلى مدى أشهر طويلة” (ص8).

ارتدّ سهم السياسة التوافقية اللاأخلاقية على راميه، وهو حال حركة النهضة ونداء تونس خلال فترة حساسة وصعبة على مستويات عدة. شأنها في ذلك شأن الأحزاب الأخرى، وبالعموم كل النخب السياسية ووراءها تجربة الانتقال الديمقراطي. ارتبط الفاعل السياسي خلال الفترة الانتقالية بالممارسة الأبوية للسياسة وما يحفّها من ممارسات زبونية ومغالطة وحسابات واجتماع وفرقة حسب معايير لا أخلاقية بعيدة عن تلك التي من المفترض أن تحكم ديمقراطية، من  إجراءات ومؤسسات وعلاقات تهدف للاستجابة لواقع عموم الشعب. ويشير الكاتب أن هذه السياسة ذات الخلفية الأيديولوجية في رسم التوازنات بين الفاعلين قد تركت المكان لمعادلة أخرى أكثر خطورة. أصبح الاستقطاب بين اليائسين من الديمقراطية والناقمين على الانتقال الديمقراطي من جهة، وبين آخر المدافعين عنه لأنه، حسب تقدير الكاتب، “ضمانة ريع ديمقراطي” (ص. 68-69)، في مقابل حالة انفصال تام بين عموم الشعب والفاعل السياسي سواء في الحكم أو المعارضة. أنتج ذلك ظهور فاعلين شعبويين على يمين حركة النهضة (ائتلاف الكرامة) صعّدوا في تسويق الخطاب الديني كبديل عن السردية الأخلاقية المُنتهية لأكبر الأحزاب الإسلامية. في المقابل، أنتج الطيف المُضاد، من حطام انهيار نداء تونس، قلب تونس الذي مارس اتصالا شعبويا مركّزا سمح له بأن يبقى الوحيد بمرشحه نبيل القروي ضدّ قيس سعيد، في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية. سعيّد الذي وجد فيه لفيفٌ هامّ من الشباب المحتج، من عائلات سياسية عدة، البديل عن حالة الفشل المُعمّم، فكان “أفضل مرشح ممكن في أسوأ وضع ممكن” (ص96).

يقدّم الكتاب إضاءات مهمة على طبيعة الممارسة السياسية، منها الفترة الممتدة من 26 جوان إلى 25 جويلية 2019 خلال عهدة الرئيس الباجي قايد السبسي وفترة مرضه. يتحدث الكاتب عن أنّ هذه الظرفية جعلت من “الانقلاب” خيارا ممكنا على حساب الشروط القانونية والمؤسسية للانتقال الديمقراطي. وتمّ اللجوء فيها للتدليس والمغالطة. الأمر الذي عزّز أكثر حالة اليأس التي أنتجت تغييرا في السلوك الانتخابي للمواطن التونسي. وغيّرت المعادلات السياسية وأضافت فاعلين آخرين تسرّبوا إلى البرلمان. أصبح الأخير مسرحا للاستعراض الشعبوي من خارج المعادلات الحسابية والتقنية لحجم الكتل. كان أغلبه شعبويا وفي مركزه حركة النهضة التي حرصت على إدارة التوازن داخله وإدارة صراعها مع القطب الشعبوي الثاني في رئاسة الجمهورية. يبقى أنّ للأخيرة أسبقية مهمة على غيرها بالنظر إلى حالة الانهيار الداخلي للبرلمان وتماهي الرأي العام معه ضدّ ما أصبح يمثل حقيقة قائمة لانتقال فاشل وفاقد للمصداقية.

بين الصفحتين 106 و107، بدأ الكاتب بتقديم صورة الشعبوية في السياق الذي يتصدّى لتحليله. فهي شعبويات وليست شعبوية واحدة، مُنقسمة حسب المصالح والمواقع وتوظف السياقات والمؤسسات. وقد انتهتْ إلى أن سيطرت في نهاية الأمر بحدث 25 جويلية. هي ليست حكرا على طرف دون آخر، ولها ظروفها وسياقاتها الذي بدأ الكتاب ببسطه منذ البداية عبر التعرض للفترة من 2014 إلى 2019 لضرورة التحليل وربط المتغيرات والأحداث ببعضها البعض. لكن يبرز الخيط الناظم للكتاب ومحوريته في تأويلية الكاتب للفترة موضوع الكتاب عبر اختيار الأحداث فيما يفيد متابعة هذا الخيط. لذلك نجد أنه اختار عناصر السياق ومتغيراته المناسبة بدءًا بالفاعل السياسي واستراتيجياته والأحداث المهمة بدءًا بالانتخابات وصولا الى المؤسسات في الدولة. ثم يضيف لها في القسم الثاني المعنون “الزعيم الشعبوي من الاحتجاج الجذري إلى الرئاسة المعارضة” نقدا للفاعل الحزبي من الداخل. ولعلّ العبارة التي تشدّ الانتباه وتدفع القارئ لمتابعة القراءة هو ما عبّر عنه الكاتب صراحة: “لقد رأيت بأم عيني أشياء كثيرة من هذا القبيل، ووصلت أنا أيضا لنفس القناعة الأليمة: لم نكن إذا نختلف عن الآخرين في شيء” (ص180). وهي من المرّات القليلة التي يشير إليها الكاتب إلى نفسه وتجربته الخاصة، ويبدو ذلك حرصا منه على المسافة الموضوعية بينه وبين القارئ في تناول الأحداث وتأويلها. غير أنها جاءت عبارة مليئة بالمرارة وقاسية جدا.

انغراس الشعبوية بين الداخل والخارج على حساب الحراك المجتمعي

حافظ القسم الثاني بدوره على الاعتبار الأخلاقي مما حصل. ليؤكد أنّ الأحزاب كانت جزءًا من توازن داخلي ودولي، لا يستثني رئاسة الجمهورية. فبسط بخصوصه تحليلا للعلاقات مع عدة دول عربية وأوروبية وتحليلا لوثائق اللقاءات في مقر الاستخبارات المصرية. ليربط السلوك السياسي بتوظيف الموجة الشعبوية بعمقها الباثولوجي في الحياة السياسية. حاول الكاتب تقديم قراءة عن الحركات الاحتجاجية الشبابية، وتحليل المبادرات والمرشّحين المستقلّين في الانتخابات البلدية والرئاسية، بالإضافة إلى صفحات مهمة في تحليل اعتصام الكامور. وقد اعتمد فيها تحليلا سياسيا مستندا إلى بحوث أكاديمية في الغرض. ما يمكن للقارئ أن يستشفّه من هذا القسم هو تلك المفارقة المؤلمة بين مثالية الثورة وبؤس الواقع ومثالية ردة الفعل على ما حصل، والتي استعادت البعد الأخلاقي الثوري. والكاتب من الأشخاص الذين يؤكدون على الحاجة إليه لكنه يشير أيضا إلى أن الظرف ككل قد أدى الى تغذية الشعبوية. فكأننا به يقول أننا قد تأرجحنا من مُثُل الثورة إلى المطلب الأخلاقي بسرعة رهيبة فقدنا خلالها كل شيء، الثورة والمطلب الأخلاقي وما بينهما .

في هذا الصدد، استعرض الكاتب مثلا دور الحركات الأفقية وأهميتها، مؤكدا أنها بقيت رغم كل شيء على هامش رؤيتنا لما حدث وتحتاج إلى مزيد الدراسة والفهم. فرغم ما لها من خصائص وامتياز مخالفة السائد من حيث المرجعيات وأشكال التنظُّم لكنها كانت عاملا في ترسيخ الفكرة الشعبوية (ص187). فهي رغم ما هي عليه من نقاء التحدي الأخلاقي واعتمادها أشكال تنظُّم مغايرة وخاصة إحداثها لقطائع وتحولات مفاهيمية مع الطرح الفكري والأيديولوجي الحزبي لصالح قضايا بعينها، ينتهي القارئ بشأنها إلى الانطباع بأنها بأفقيتها قد انفصلت عن السماء لصالح امتداد أرضي. لكنها في النهاية لم تمنع السماء عندما فشلت في توظيف هذه الحركات من أن تُغيّر مكانها، وتواصل تأثيرها. فالمآلات سلبية من حيث النتائج خاصة بتغذية الشعبوية التي استدانت منها كل أخلاقيتها لصالح فعلها السياسي الخاص. هي جزء من ظرف وسياق معقّد وفّر غطاء الثورية الأخلاقي للشعبوية التونسية. في تحليل الكاتب للأخيرة، لم يتوجّه لشخوصها مباشرة بقدر ما ربط فاعليها (قوى تونس الحرة، رموزها وأدبياتها القليلة) بالسياق ككل، والذي ضمن نجاحها لتصبح قمّة الجبل وتكثيفه. انبرى الكاتب لتحليل “خصوصية الشعبوية التونسية” (ص. 222) من هذا المدخل الذي سمح له بتقديم قراءة للسلوك السياسي للرئيس قيس سعيد في السلطة. ويبدو منه أنّ الحال اليوم امتداد لمسار كامل يجعل  الأحداث وتواريخها في ترابط منطقي داخلي وتتابع مثير، يصل الطروحات الفكرية وامتداداتها المحلية والأوروبية (صلب اليسار على وجه الخصوص) بالأدوات القانونية والانتخابية والسلوك السياسي للأستاذ وأنصاره. من هذا “السديم الشعبوي” وصل الكتاب إلى تحليل دور قصر قرطاج توسيعا لفهم صناعة الزعامة الشعبوية السلطوية وتوضيح دليل استخدام الشعبوية في القسم الثالث.

الشعبوية: سلطويتها من غيرها، إليها فمنها

عنون الكاتب القسم الثالث كالتالي: “الشعبوية السلطوية: دليل الاستخدام”. من نقاط قوة الكتاب أنّ الأفكار في جميع الأقسام والأبواب والفصول تشي بترابط مضموني ومنهجي يؤكد على محافظة الكاتب على منهجه التأويلي لعل أهمها بالمدخل التحليلي لحدث 25 جويلية كلحظة شعبوية وكلحظة شميتية (نسبة إلى كارل شميت). ما يلاحظ هنا أننا نجد تنسيبا للطرح القاعدي في علاقة بالشعبوية اليسارية، فالغموض المفاهيمي والنظري هو السمة الغالبة عليه، وما يبقى منه أنه يمثل تطبيقا لمشروع يتحكّم فيه طرف واحد مستفيدا من كل التقاطعات والانتماءات في دائرة الأنصار. أما السياق العام، على تهافت محاولات فهمه التي تنطلق من مدخل الشعبوية اليسارية، فيبقى رهين متغيّرات ساعدت على تحقّق حدث 25 جويلية، وهي أساسا الأزمة بمختلف جوانبها واستعداد الرأي العام. أما العنصر الأكثر أهمية في الكتاب فهو تحليل المتغير الخارجي في صناعة 25 جويلية. تجتمع من العناصر ما يسمح بالقول بأن 25 جويلية ليس حدثا موضوعيا لما سبق فقط، بل هو خطة واضحة المعالم وتمّ الإعداد لها، كما ورد في الكتاب منذ البداية.

يعكس هذا القسم تحليل الكاتب للشعبوية في الأقسام السابقة بحيث تبدو من سياقها وصولا إلى الفاعل الذي أجاد امتطاء موجتها قد استهلكت كلّ شيء في الأزمات، بدء بالمواقف والهياكل والحركات الاجتماعية والمؤسسات في الدولة والسياق الوبائي. خلقت الشعبوية السلطوية سرديتها من حطب نار غيرها لكنها كانت قادرة على خلق نارها ضمن استراتيجية واعية حددت حتى التوقيت، كما يشير الكاتب. فلها أهدافها الخاصة لكنها استفادت من التعاطف الشعبي وتهرئة مسار الانتقال الديمقراطي. سريعا بدأت في تطبيق برنامج حكم فردي استبدادي بتفكيك المشهد الديمقراطي عبر استهداف ممنهج للأحزاب والنخب. بل لنا أن نتابع في استثمار الأقسام السابقة في هذا القسم بحيث نرى مع الكاتب أنّ المواقف الحزبية الملتحقة بالشعبويّة “طبيعية” في مجرى الأحداث وصولا إلى حدث 25 جويلية وما بعده. لكنها كانت فعليا كغيرها قد تحوّلت في المسار الذي لفظها ليصبح بيد طرف واحد، إلى قطع في مربعات رقعة الشطرنج. وهي في ذلك من دون أيّ أثر حقيقي. فالشعبويّة السلطوية قد تقدّمت في صياغة التمثيلية من جديد من أجل  شعبها الذي شكلته جوهريا ثم غرائزيّا على مراحل. ولا يكتمل لذلك إلا بالمناورات الموجودة في كل مكان ضمن بروباغندا (ص437) تخلق تحفيزا عاطفيا وتحافظ على بارانويا متواصلة دائما. حافظت الشعبوية السلطوية على طبيعة علاقتها بالقانون والمؤسسات. فكما أوّلته دائما كما تريد (تعطيل المحكمة الدستورية، تأويل الخطر الداهم والحالة الاستثنائية، الأوامر والمراسيم الصادرة)، لم تسلم المؤسسات سواء التشريعية أو القضائية أو الأجهزة الصلبة في الدولة. دخلت جميع المؤسسات في مرحلة تفكيك ممنهج وواعٍ لصالح المؤسسات الجديدة. ولأنها في كل ذلك جاءت من رحم ما سبق. فهي من طبيعة الأرضية التي استنبتتها فهي تشتغل بمنطق تاريخ السلطة وفكرها في السياق التونسي، لأنها على الرغم من كل ما تدّعيه مطلقة، عمودية وتعيد إنتاج الزبونية من جديد. إنها شعبوية تريد ريْعا جديدا شرعنته وحدها ولها، ولها سلطويتها الخاصة حتى على من ينضوي تحتها.

يختم الكاتب بما بدأ، بإعلان أخلاقي محمول على الجميع مسؤولية استرجاعه. لا بدّ من استرجاع المصداقية المفقودة رغم صعوبة المهمة، كما يؤكد. هي مصداقية ممارسة الديمقراطية وروحها التي تتحدى أسوأ ما في الفاعل وتاريخه ومحيطه، وتفترض أنه سيكون على مستوى هذا التحدي، وليس أن ينساق وراء المصالح الذاتية والضيّقة ولحسابات التموقع والنفوذ. كما يجعل من رهان السيادة والاستقلالية إزاء الخارج مطلبا ملحا وذا أولوية. لعله يبدو لنا أنه يقول ما نعتبره تحصيل الحاصل الطبيعي بالنسبة لأي ملاحظ أو فاعل سياسي مهتم بالشأن العام. لكنّ هذا المعطى على بداهته صعب جدا وغير متاح حاليا. فالفاعلون أنفسهم دون تغيير حقيقي، مع حفظ الاستثناء، ولا يزيد استفحال القمع وسجن المعارضين على اختلاف مشاربهم، خصوصا خلال السنة التي أعقبت صدور الكتاب، هذا الاستحقاق إلا صعوبة. ينتهي الكتاب إلى تأكيد صورة الطين الموحل، بين تعسُّر تشكيله على صورة ما وبين غياب الحدّ الأدنى الأخلاقي لتأسيس وممارسة الديمقراطية. في المقابل، يؤكد الكتاب على أنّ القادم غير مختلف بالمرّة. لو استعرنا من اللهجة المصرية سلاستها، في أجواء العروض الرمضانية، ونلتحق بمرارة التجربة الانتقالية فرديا وجماعيا، لجاز القول أنّ العنوان الفرعي الضمني للكتاب هو “مطيّنة بطين”، كما تفيد به العبارة من اللهجة المصرية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني