عندما تُستَعمَل “الحرب على الفساد” أداةً لتصفية المعارضة


2024-04-19    |   

عندما تُستَعمَل “الحرب على الفساد” أداةً لتصفية المعارضة

“هؤلاَء المجرمين المتورّطين في التآمر على أمن الدولة الخارجي والداخلي، وهذا بالإثباتات، وهم من يقفون وراء هذه الأزمات المُتّصلة بتوزيع السلع والترفيع في الأسعار. عصابات منظمة تأتمِر بأوامر هؤلاء الخونة والمرتزقة”؛ هذا تصريح رئيس الدولة قيس سعيّد لوزيرة التجارة كلثوم بن رجب بتاريخ 14 فيفري 2023، أي بعد ثلاثة أيام من انطلاق الإيقافات ضدّ عدد من المعارضين، فيما تُسمّى قضية التآمر على أمن الدولة“. تصريح جاء حينها في سياق تبرير رئيس الدولة، أمام الرأي العام، للإيقافات في هذه القضية التي لم يُخفِ إشرافه الشخصي على إدارتها من مقرّ وزارة الداخلية. وتباعًا، تَضَمّنت لائحة التهم في قرار فتح البحث التحقيقي بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب جريمة “الإضرار بالأمن الغذائي والبيئة بما يُخلّ بتوازن المنظومات الغذائية…”، وهي إحدى الأفعال الإرهابية الواردة في قانون مكافحة الإرهاب ومَنع غسل الأموال (الفصل 14).

وفي نفس اليوم الذي التقَى فيه وزيرة التجارة -وكانت حملة الإيقافات مستمرّة- تَوجَّهَ رئيس الدولة إلى سوق باب الفلّة بالعاصمة لـ”الاستماع إلى مشاغل التجار والمواطنين”. إثرها نشرت صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فايسبوك مقطعا مصوّرا تضمّن، في جلّه، مَشَاهد احتفاء المواطنين برئيس الدولة الذي أكّدَ لهم مضيّه في تطهير البلاد ومواجهة شبكات الاحتكار.

وقبل أسبوع من انطلاق الإيقافات، أي في بداية فيفري 2023، عقد الرئيس سعيّد اجتماعًا مع رئيسة الحكومة ووزيرة التجارة آنذاك حول “أسباب فقدان عدد من المواد الغذائية أو ندرتها”، وقد أرجعها رئيس الدولة في المجمل “لأسباب غير طبيعية”. وأفاد أنه “لم يعُد يخفى على أحد أن من يقف وراء تواصل هذه الظاهرة يسعى بكلّ الطرق إلى تأجيج الوضع الاجتماعي حتى يستفيد سياسيًا”.

كَانت الصورة واضحة. اعتقاد راسخ وقديم لرئيس الدولة بوجود جهات لهَا غايات سياسيّة تقف وراء أزمة فقدان المواد الأساسية وارتفاع الأسعار. تعزّزت بذلك الحاجة إلى أجهزة الدولة، بإيعاز من السلطة السياسية، من أجل إثارة قضية تآمر ضدّ معارضين سياسييّن تمّ تقديمهم كمسؤولين عن سرقة قوت الشعب. هذه القضية لا تهدف فقط إلى تحويل اعتقادات الرئيس إلى ملفات قضائية، ولكن أيضًا توظيف ورقة دعائية للإيهام بتعرّض الشعب لحرب من “الخونة والمرتزقة”، خاصة وقد بدأ يَتبيّن وقتها ضعف أداء السلطة في إدارة الملف الاجتماعي والمعيشي في البلاد.

اتهامات مُرسلة دون إثباتات

سَمحَ رئيس الدولة لنفسه بالتصريح علانية، وبصفة قطعية، بوجود ما سمّاها “إثباتات” حول وقوف المعارضين المعتقلين وراء أزمة فقدان المواد الأساسية وارتفاع الأسعار. جَزم رئاسي يَتقاطع مع سابق جزمه بالإدانة، حتى قبل تعهّد النيابة العمومية بملفّ قضية التآمر. حيث توجّه إلى وزيرة العدل قائلا: “إنه من غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم”[1]. بيد أن الإثباتات المزعومة حول تورّط الموقوفين لا سندَ لها. والمرجّح أن العلاقة المزعومة بين الموقوفين وملف الأسعار مصدرها الوحيد هو ما ورد في بطاقة أمنية حول تطرّق اثنين من المعارضين السياسيين خلال لقاء لهما على “العمل على ترفيع الأسعار”[2]. ادّعاء مجرّد لا يستند إلى أيّ قرينة أو دليل إثبات.

وما يُعزّز خواء الادّعاء مطلقًا هو عدم مواجهة المُعارِضَين المعنيّين به خلال استنطاقِهما من قاضي التحقيق، ممّا يدلّ على أن هذا الادّعاء يَندرج ضمن سياسة محاولة تثقيل لائحة التهم على الموقوفين. كما لم تُثبِت أعمال التحقيق الممتدّة على ما يزيد عن عام، ولو قرينة بسيطة حول وجود أي علاقة، وإن غير مباشرة، بين المعارضين الموقوفين من جهة وملف فقدان المواد الأساسية وارتفاع الأسعار من جهة أخرى. وربّما أكبر دليل حاسم على انتفاء أية علاقة هو عدم انفراج أزمة فقدان المواد الغذائية وارتفاع الأسعار إثر إيقاف المعارضين المتّهمين “رئاسيًا” بأنهم كانوا يقفون وراء أزمة لا علاقة لهم بها، واقعًا، من قريب أو بعيد.

لم تُثبِت أعمال التحقيق وجود أي علاقة بين المعارضين الموقوفين وملف فقدان المواد الأساسية

شعار مكافحة الفساد والخطاب المؤامراتي

عَمِل الخطاب السياسي للسلطة على توظيف شعار مكافحة الفساد، وبالخصوص الربط بين المعارضة وأزمة المواد الأساسية وارتفاع أسعارها، لتجييش الرأي العام ضد المعارضين الذين انتصَبَت ضدّهم المحاكم الشعبية، مع مَا لحقهم من وصم ومَساس من السمعة. آلة الدعاية الرئاسية وجدَت في وصم المعارضين بالفساد، بعد 25 جويلية 2021، وصفة جاذبة للإيهام بأن المحاكمات المُثارة غايتها مكافحة الفساد وليس استهداف الحريات والتضييق على نشاط المعارضة السياسية.

غير أن الاتهامات الرئاسية المتكرّرة للمعارضة تؤكّد عدم جدّيتها لتفسير تراجع الموارد المعيشية الرئيسية ومعدلات التضخم المرتفعة، ممّا دَفعَ الرئيس لتوسيع دائرة الاتهام لاحقا لتشمل من “تسللوا للإدارة” حسب تعبيره. هذا التوسيع في دائرة الاتهام أدّى إلى استدعاء خطاب تطهير الإدارة الذي يتبع خطاب “تطهير البلاد”. وهذا “التطهير” دائمًا ما يسوّغ لاتخاذ إجراءات استثنائية.

ومحاولة ربط رئيس الدولة بين المعارضة وأزمة المواد والأسعار تُمثّل، في الواقع، حالة نموذجية للتفسير المؤامراتي للأحداث، وإجمالًا لخطاب المؤامرة المتواتِر لدى السلطة. يقوم هذا الخطاب على اتهام أصحاب ضمائر الغائب بالوقوف وراء الأزمات المعيشية أو الاحتكار أو تعطّل المشاريع الحكومية، وأنهم إجمالًا يقفون صدًا منيعًا دون تحقيق أحلام الشعب.

هذا النوع من التفسير يقدّم وصفة بسيطة وقابلة للابتلاع لدى العموم بأنّ “أعداءهم” هم الذين يقفون وراء مآسيهم. تتعلّق الصورة أيضًا بحالة تنفيس الكراهية ضدّ الفاعلين السياسييّن السابقين على وجه الخصوص. ولكن هذا التفسير المؤامراتي أيضًا يَسمح للحاكم بإبعاد المسؤولية عنه وتحويل عبئها لـ”هؤلاء”. في هذا السياق يُصبح الحاكم هو الضحية، ويتحوّل معارضوه إلى مجرمين أمام الرأي العامّ، سواء من خلال العمل على شيطنتهم عبر الخطاب السياسي، أو عبر قضايا “التآمر” المُثارة بإيعاز من الحاكم. هذه القضايا لا تستلزم إلا وشاية من شخص محجوب الهوية، أو بطاقة إرشاد أمنية، حتى يتم التأسيس للائحة تهم تصل عقوبتها إلى الإعدام.

تهمة الفساد سيف على رقاب القضاة المعفيين

القضاة المعفيون المَشمولون بمجزرة الإعفاءات، ممّن شملتهم الملاحقات القضائية المثارة كيديًا ضدّهم، لم يكونوا خارج دائرة الاتهام الرئاسي بالفساد أيضا. رئيس المجلس الأعلى للقضاء يُوسف بوزاخر الذي تصدّر قائمة المعفيين، بعد أن تَصدّي لوضع السلطة يدها على القضاء وامتنع عن تجيير المجلس لتبييض العَبث القانوني والقضائي وقتها، شمِلَه تتبع قضائي كيدي أمام قطب الفساد المالي والاقتصادي. هذا التتبّع قوامُه شكاية غير مضمّنة ولا مُمضَاة قدّمها نائبٌ سابق ضدّه بشأن انتفاع المعني بترقيات غير مستحقة واقتناء سيارة وظيفية بصفته رئيسًا للمجلس الأعلى للقضاء. والحال أنه سبق وأن تعهدت النيابة بالشكاية وأجرت التحريات وقررت في شأنها الحفظ لعدم وجود جريمة،  خاصة أن بوزاخر لم يكن رئيسًا للمجلس الأعلى زمن إقرار اقتناء السيارة الوظيفية. ولكن بعد مجزرة الإعفاءات، أذنت النيابة العمومية مجددًا وبتوجيه مباشر من مدير ديوان وزيرة العدل بفتح البحث مجددًا ضد بوزاخر لدى القطب المالي. قاضي آخر من المعفيين تمّت إحالته بدوره على قطب الفساد المالي على أساس بطاقة أمنية تَنسِب إليه الإثراء غير المشروع. قامت النيابة العمومية في مرحلة أولى بتوجيه البطاقة لفرقة أمنية لسماع محرّريها، لكن سرعان ما تمّ التراجع عن هذا الإجراء من أجل فتح بحث تحقيقي.

كان الفساد مُسوِّغًا أساسيًا في خطاب رئيس الدولة حينها لإعفاء قضاة من دون احترام أدنى الضمانات القانونية، وفي مقدمتها تكريس مبدأ المواجهة وحق الدفاع. ولم تكن الغاية من القضايا المثارَة لاحقًا في باب الفساد إلا محاولة أمام الرأي العامّ لتبرير وصم القضاة بالفساد، وبالخصوص تبرير عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بتوقيف تنفيذ أمر الإعفاء. والمسألة لا تتعلّق في جوهرها بعدم وجود قضاة متورّطين في الفساد، ومن الأمثلة على ذلك أن عددًا من القضاة المعفيين هم أنفسهم من قادوا حملة “نحن الموقعون” التي طالبت بمحاسبة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب مع احترام الضمانات القانونية. ولكن المعضلة في توظيف تهمة الفساد لوضع اليد على القضاء عبر إبعاد قضاة لم يرضخوا لتعليمات السلطة السياسية. مجددًا، الحرب على الفساد تؤسّس لسلطويّة قوامُها، في هذا السياق، الاستيلاء على ضمانات استقلال القضاء.

التفسير المؤامراتي يَسمح للحاكم بإبعاد المسؤولية عنه وتحويل عبئها لـ”هؤلاء”

الفساد دائمًا في اتجاه واحد

في الأثناء، فإن سلطة الرئيس سعيّد التي تسمح لنفسها بتوزيع اتهامات الفساد يمنة وشمالا -بل وإصدار الأحكام الجازمة أمام الرأي العام- تنزعج من توصيف أفعالها أحيانًا من قبيل الفساد نفسه: الفساد الإداري والمالي وليس السياسي المحض. بداية عام 2023، اعتبرَ رئيس هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين العياشي الهمامي رفض وزيرة العدل ليلى جفال تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإيقاف تنفيذ قرارات الإعفاء مقابل صرف منح مالية لهم من قبيل ممارسة الفساد. يعتبر الفصل 10 من قانون المحكمة الإدارية أن عدم تنفيذ قراراتها هو “خطأ فاحش معمّر للسلطة الإدارية المعنية بالأمر”. كما يعدّ “تعطيل قرارات السلطة القضائية” و”سوء التصرف في الأموال العمومية” من صور الفساد طبق الفصل 2 من قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين. وعلى هذا الأساس، تَقدّمَت هيئة الدفاع بشكاية جزائية ضد الوزيرة من أجل الفساد، لكن لم تتخذ النيابة العمومية أي قرار بشأنها، منذ أكثر من عام، ممّا يؤكّد تجيير القضاء لخدمة السلطة لا تطبيق القانون. في المقابل، فإن تصريح رئيس هيئة الدفاع العياشي الهمامي كان كفيلًا بإحالته، بطلب من وزيرة العدل، على التحقيق طبق المرسوم 54 الذي تصل العقوبة بشأنه للسجن مدة عشر سنوات. هكذا يتبين أن الفساد تُهمة يسيرة الاستعمال، سواء في خطاب السلطة أو في محاكماتها السياسية، ولكن في الوقت نفسه تُعطّل السلطة توجيه هذه التهمة إلى أدواتها والموالين لها.

نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لقراءة الملف بصيغة PDF


[1] بلاغ رئاسة الجمهورية بتاريخ 10/2/2023 بمناسبة استقبال رئيس الدولة لوزيرة العدل.

[2] بعد الاطلاع على تقرير أعدّته هيئة الدفاع على الموقوفين السياسيين وزّعته في ندوة صحفية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني