عبير موسي: الرابح الأكبر أم الخاسر الأكبر؟


2022-05-24    |   

عبير موسي: الرابح الأكبر أم الخاسر الأكبر؟
من صفحة عبير موسوي

ربما لا يوجد دليل أوضح على انتكاسات الثورة التونسية من المكانة التي تحظى بها عبير موسي -زعيمة الحزب الدستوري الحرّ- في المشهديْن السياسيّ والإعلامي. الأمينة العامة المساعدة في آخر مكتب سياسيّ لحزب بن علي، التجمع الدستوري الديمقراطي، استطاعت في غضون عشرية من الزمن أن تشقّ طريقا في مستنقع الحياة السياسية في تونس، نقلها من الموت السياسي شبه المؤكد إلى حياة سياسية جديدة منحتها فرصة أن تكون واحدة من أهم الفاعلين في الساحة التونسية اليوم.

“المصير المذهل”

 سلكت زعيمة الحزب الحرّ الدستوري (يجد المرء صعوبة في استحضار أسماء قياديين آخرين في الحزب، عبير هي الحزب والحزب هو عبير، وهذا ليس بالغريب على التقاليد العريقة لل”دساترة”) طريقا صعبا متكئة على ثلاث دعامات أساسية: “العزة بالإثم” والعدوانية واستثمار فشل نخب ما بعد 14 جانفي.

لم تكن عبير موسي قبل 2011 معروفة لعموم التونسيين، لكن النخب الحاكمة وحتى المعارضة آنذاك كانت تعرفها جيدا. فلقد خدمت النظام الديكتاتوري بحماس منقطع النظير سواء من خلال دورها كمحامية تجمعيّة تكافح من أجل إخضاع عمادة المحامين أو ك”مناضلة سياسية” كثيرا ما أُرسلت لإفساد اجتماعات المعارضين في الخارج خاصة. هذه السيرة الزاخرة مكّنتها من أن تصبح أمينة عامة مساعدة في الحزب الحاكم (مكلفة بشؤون النساء) في جانفي 2010 وهي في سنّ ال 34 فقط. لكن فرحتها لم تدمْ كثيرا، حيث اندلعت انتفاضة ديسمبر 2010/ جانفي 2011 لتطيح ببن عليّ وحزبه.

كان يُفترض بهذا الزلزال السياسي أن يكون نهاية المسيرة القصيرة للمحامية التجمعية لكن شخصية المرأة وتعثرات المسار الثوري وانحرافات مسار “الانتقال الديمقراطي” منحتها “فرصة ثانية”. خاضت موسي أول معركة في حياتها السياسية الثانية بعد أسابيع قليلة من جانفي 2011 عندما لعبت دور “محامي الشيطان” في قضية حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي التي رفعها المحامي اليساري الراحل فوزي بن مراد. كانت عبير موسي الصوت الأعلى في فريق الدفاع عن حزب بن علي. ولم تكتفِ بالترافع عنه أمام القضاء، بحيث اتّهمها بن مراد ومحامون آخرون بأنها اعتدتْ -في رحاب المحكمة- على فريق الادّعاء بالغاز المُشلّ للحركة. خسرتْ موسي هذه المعركة قضائيا إذ قضت المحكمة يوم 9 مارس 2011 بحلّ الحزب وتصفية أملاكه، لكنّها حفرت صورتها في أذهان التونسيين وربحت أول معركة إعلامية. فجرأتها أو “وقاحتها” في ذلك الوقت الذي اختفى فيه أغلب “الدساترة” من المشهد (وفيهم حتى من “قلب الفيستة”[1] كما يقول التونسيون) وكان شباب الثورة يملؤون ساحات البلاد شعارات وحماسا، تركت أثرا ما، ستستثمره وتنميه تدريجيا بعد سنوات.

بعد المعركة الأولى، غابت موسي عن المشهد السياسي لمدة سنتين أو ثلاث ربما لأسباب شخصية أو لحسابات سياسية عقلانية تتعلق بالمرحلة “الثورية”. ومن “الصدف” أن عودتها إلى العمل السياسي تزامنت مع تعفّن الأوضاع في تونس أواخر سنة 2013 -زمن حكم “الترويكا”- مع تتالي العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية واحتدام الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي-الاقتصادي، وصولا إلى أزمة صيف 2013 وتوافق الشيخين والحوار الوطني. في تلك الفترة، تم تأسيس حزبين جديدين في تونس من قبل قياديّين عُرفا بتاريخهما الطويل في الحزب الذي كانت عبير موسي أمينته العامة المساعدة ذات يوم: نداء تونس بقيادة الباجي قايد السبسي والحركة الدستورية بقيادة حامد القروي. اختارت موسي حزب القروي ربّما لأنه لا يضم عناصر يسارية ونقابية ومعارضين سابقين لحكم “الدساترة” ولأن اسمه يحمل هوية واضحة لا لبس فيها.

خلال الفترة 2014 – 2016، بدأت موسي في تثبيت أقدامها تدريجيّا في الحزب خاصّة وفي المشهد السياسيّ عموما. لم تفلح في دخول البرلمان في تشريعيات 2014 لكنها استفادت من الظهور الإعلامي خلال الحملة الانتخابية، واستطاعت أن تقوي موقعها في الحزب حتى ظفرت برئاسته (الموقع الثاني بعد الأمانة العامة) في أوت 2016 خلال المؤتمر الذي شهد تغيير اسم الهيكل السياسي ليصبح “الحزب الدستوري الحرّ” في انتساب واضح إلى الحزب الدستوري الحرّ الذي حكم تونس طيلة أكثر من نصف قرن. لم تصبر موسي كثيرا لتصبح رقم 1 في الحزب إذ استطاعت بعد شهرين فقط من المؤتمر إزاحة الأمين العام المنتخب ثم عملت على تهميش وإخراج كل الوجوه المعروفة لتصبح الزعيمة الوحيدة للحزب ابتداء من 2017.

ضعف الحركات والأحزاب الأخرى المنتسبة لل”عائلة الدستورية”، وبداية تفتّت حزب نداء تونس بداية من 2016 وخسارته لرصيد هام من شعبيته في إثر تحالفه الحكومي مع حركة النهضة الإسلامية، مثّلت عوامل مساعدة لموسي حتى تحتّل تدريجيا موقع زعيمة الحركة الدستورية في البلاد. موقع ستعمل على تعزيزه عبر استغلال كل فرصة لتمجيد النظام السابق والانتقاص من ثورة 2011 والهجوم على نخب ما بعد جانفي 2011 وتحميلها مسؤولية كل مآسي البلاد. استهدف خطابها الهجومي الإسلاميين بشكل أساسي ومستدام، لكنها لم تكن تفوّت فرصة لإطلاق النار نحو أحزاب وتيارات أخرى. وهذه الاستراتيجية كان تقصد بها تصوير نفسها وحزبها كالمنقذ الوحيد من حكم الإسلاميين والبديل الأنسب لتولي السلطة.

خلال سنتي 2018 و2019، كثّفت موسي نشاطها السياسيّ الميداني وجالتْ في البلاد وبدأت شعبيتها تتنامى بسرعة خاصة مع تنامي نقمة التونسيين على الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية وحنين جزء منهم للنظام القديم الذي كان “يطعمهم” من جوع و”يأمنهم” من خوف.  في خريف 2019، حقّقت عبير موسي أول انتصاراتها الكبيرة حيث حلّت ثامنة في الانتخابات الرئاسية بأكثر من 130 ألف صوت، ونجحت خاصة في الدخول إلى مجلس النواب الشعب رفقة 16 عضوا من حزبها لتترأس خامس أكبر كتلة برلمانية بعد أن احتلّ حزبها المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية من حيث عدد الأصوات، وتفرض نفسها كلاعب أساسي في المشهد السياسي الجديد. ثقل التاريخ الديكتاتوري الذي تنتسب اليه الكتلة وتوتّر علاقة زعيمتها بأغلب أطياف المشهد السياسي جعل كتلتها خارج تحالفات الحكم والمعارضة لتحتّل مكانا فريدا: كتلة معارضة متصادمة مع الكلّ، بخاصة الإسلاميين.

منذ اليوم الأول في عمل المجلس النيابي الجديد، دخلتْ موسي في حملة انتخابية مبكرة وجعلت من عملها النيابي استعراضا يوميّا مفتوحا -تبثّه بشكل مستمرّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي- يشبه السيرك-تؤثثه رفقة نواب آخرين بخاصة من كتلتيْ حركة النهضة وائتلاف الكرامة. نجحتْ موسي في تحويل البرلمان إلى جحيم لحركة النهضة وحلفائها، واستهدفتْ بشكل ممنهج رئيس المجلس راشد الغنوشي ممّا زاد في شعبيتها.

حتى الوباء وما فرضه من حجر صحيّ وعطالة سياسيّة ومنح الحكومة صلاحيات تشريعيّة واسعة، لم يؤثر كثيرا على صعود موسي السياسي وشعبيتها. فقد استغلّت فشل حكومة هشام المشيشي في توفير سبل التوقي من الوباء وعلاج آثاره، وتزايد نقمة الكثير من التونسيين على حركة النهضة وحلفائها (ائتلاف الكرامة وقلب تونس) لتزيد من حدّة هجومها على خصومها وتعزز موقعها في المشهد السياسي وتكثّف عملها الميداني. مثلا في نوفمبر 2020، نظّم أنصار الحزب اعتصاما استمرّ لأشهر أمام مقر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين المحسوب على تنظيم الإخوان المسلمين مطالبين بإغلاقه. ثم أطلقت موسي في 19 ديسمبر 2020 “ثورة التنوير” من مدينة المنستير مسقط رأس الحبيب بورقيبة، معلنة عزمها على تنظيم مسيرات واجتماعات شعبية في مختلف مناطق البلاد.

بالتوازي، واصلت موسي رفقة أفراد كتلتها البرلمانية ترذيل مجلس النواب وتعطيل جلساته ب “الشراكة” مع خصومها في ائتلاف الكرامة وكتل أخرى، وتعرضت للاعتداء أكثر من مرّة، ممّا جلب لها قدرا من التعاطف ورسّخ صورتها كامرأة قوية وشجاعة تتصدى للإسلاميين وحلفائهم بمفردها. كما اتقنتْ موسي الاسترزاق من “الإرث البورقيبي” وتصوير نفسها كحاملة لواء الحداثة والتنوير، ولعبت على صورة السياسية التي بقيت ثابتة على مبادئها ولم تتنكّر لتاريخها رغم كل شيء. ولم تتوانَ حتى في استثمار ورقة “الجهويات” بالحديث دائما عن أصولها “الباجية” (محافظة باجة، الشمال الغربي) ونشأتها “الجمّالية” “الساحلية” (محافظة المنستير، الوسط الشرقي).

خلال نفس الفترة، لم تدخل موسي في صراع مباشر مع رئيس الجمهورية. كانت تنتقد أدائه من حين لآخر لكن لم تكن توليه اهتماما كبيرا مقارنة براشد الغنوشي وحزبه، ربما لأن صلاحيّات الرئيس، كما يضبطها دستور 2014، محدودة. 

كل هذه العوامل ساهمت في تمكين موسي من احتلال مرتبة مميّزة في قائمة الشخصيات السياسية الأكثر شعبية وبدت قريبة من قطف ثمار نجاحها: في بداية جويلية 2021 احتلّ الحزب الدستوري الحر المرتبة الأولى في نوايا التصويت في التشريعيات واحتلّت زعيمته المرتبة الثانية في نوايا التصويت للرئاسيات. كان الطريق شبه معبّد أمامها للعب أدوار أكبر لولا الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيد في 25 جويلية 2021.

هذه الإجراءات التي جمّعت كل السلطات تقريبا في يد الرئيس وعطلت الحياة السياسية العادية، اعتبرها الكثيرون ضربة موجعة وحتى قاضية لعبير موسي وحزبها. فالمبادرة لم تعدْ في يدها ورأسمالها السياسي المبني على معاداة حركة النهضة والنفور من نخب ما بعد جانفي 2011 افتكّه قيس سعيد مما يسلبها جزءا كبيرا من المتعاطفين معها وحتى الداعمين المؤثرين، المحليين والإقليميين (كثيرون يعتبرون موسي “حليفا” للإماراتيين في تونس). هل هذا صحيح؟ ربما.. لكن استطلاعات الرأي (مع كل التحفّظات على منهجيات وغايات هذه الأدوات) تقول عكس ذلك. في أواخر أفريل 2022، حلّ حزب عبير موسي أوّلا في ترتيب نوايا التصويت ب 35 بالمئة[2] أي أكثر ب16 نقطة من “حزب قيس سعيد” (غير موجود بل طُرح كسيناريو) و20 نقطة من حركة النهضة التي حلت ثالثة بنسبة 15 بالمئة. وحلّت عبير موسي في المرتبة الثانية في نوايا التصويت في الرئاسيات بقرابة 10 بالمئة[3] من الأصوات لكنها بعيدة جدا على الرئيس الحالي الذي يحوز قرابة أكثر من 60 بالمئة من نوايا التصويت. كيف استطاعت موسي الحفاظ على أسبقيّتها وشعبيّتها رغم كل ما حدث في الأشهر العشرة الأخيرة؟

سياسة المراحل

لم تكن موسي من المتحمّسين للدعوة التي اطلقت في شبكات التواصل الاجتماعي للتظاهر يوم 25 جويلية 2021، ودعت في “نقطة تنويرية” (هكذا تسمي خطاباتها المباشرة التي تبثّها عن بعد إلى جمهور أنصارها) بتاريخ 17 جويلية  أنصارها صراحة إلى عدم النزول معبّرة عن توجّسها من الجهات الداعية ونواياها: “تجنيد مجموعات فايسبوكية للدعوة لإسقاط كلّ الأحزاب وسبّ وشتم عبير موسي وحشرها ضمن مكونات الحكومة الفاشلة والدعوة لإزاحتها وإبعاد الدساترة بدعوى أنهم الوجه الآخر للإخوان يدخل ضمن مخطط التخلّص من الحزب الدستوري الحرّ ورئيسته لفرض شخصيات تدعي الاستقلالية وتقبل بمنظومة ربيع الخراب والدمار التي تهدف للإبقاء على الخوانجية في المشهد السياسي”. بعدها بأيام، تحديدا في 21 جويلية، خصّصت موسي “نقطة تنويرية” لمهاجمة الرئيس والسخرية من عجزه عن التدخّل بنجاعة في الأزمة السياسية والوبائية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك مذكرة إياه بأنه ليس معارضا بل رئيس جمهورية ورئيس مجلس الأمن القومي وعليه مسؤوليات وله صلاحيّات. وطالبته بفتح ملفات الاغتيالات والجهاز السرّي لحركة النهضة والتمويل الأجنبي للجمعيات والأحزاب وتبييض الأموال، الخ. ثم أتى يوم 25 جويلية الطويل الذي انطلق بمظاهرات شعبية في عدة مدن تونسية وانتهى بإعلان قيس سعيد سيطرته على السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفي مواجهة صدمة الإجراءات الاستثنائية التي اعتبر الكثيرون أن النهضة ليست ضحيّتها الوحيدة وأن الحزب الدستوري الحرّ هو أيضا من كبار الخاسرين -بما أنّ سعيّد سحب من تحته البساط وهو في أوج شعبيته- يبدو أن عبير موسي استلهمت تكتيكات الأب الروحي للدساترة الحبيب بورقيبة الذي عرف بتفضيله لسياسة المراحل وافتكاك المكاسب الجزئية عوض خوض الصراعات العنيفة والبحث عن الانتصار الكامل والسريع. فلقد تدرجت في تعاملها مع سلطة قيس سعيد عبر ثلاث مراحل أساسية:

  • الانحناء (قليلا) للعاصفة.

لم تتأخر عبير موسي في التفاعل مع إجراءات 25 جويلية. فبعد سويعات من الإعلان بثّت “نقطة تنويرية” للتعبير عن موقفها. الخطاب كان موجّها لأنصارها أولا لطمأنهم أن جهودهم لن تضيع وأن ما فعله سعيّد لا يعني نهاية حزبهم وتجربتهم؛ ثانيا للمتعاطفين وعموم التونسيين لتذكيرهم بأن ما فعله سعيّد ما كان ليحصل لولا جهود موسي وحزبها وصراعهم مع حركة النهضة وحلفائها طيلة سنوات وللتأكيد على أنها في صفّ الشعب: “لن نسمح بالالتفاف على فرحة التونسيين ولن نخذلهم مثلما حصل بعد الثورة”. كما وجّهت رسائل إلى قيس سعيّد مفادها أنها لا تثق فيه كثيرا ولا يمكنها أن تكون مساندة له – فهو من جهة لا يكنّ لحزبها أي ودّ ومن جهة أخرى ليست له رؤية واضحة- لكنّها في نفس الوقت لن تعارضه بشكل جذري إذا حقق بعض المطالب التي طالما نادت بها.

بعدها بأيام، طالبتْ موسي الرئيس بوضع خارطة طريق للخروج من الفترة الاستثنائية. ويمكن القول أنّ الموقف كان براغماتيا وذكيّا بشكل كبير باعتبار طبيعة المرحلة. فهي من جهة لم تهاجم الرئيس وهو في أوجّ شعبيّته مما قد يتسبّب لها في خسارة جزء مهمّ من أنصارها ويشكّك في نواياها في محاربة الإخوان والإطاحة بهم، ومن جهة أخرى حاولت تثبيت وجودها وحزبها في المشهد السياسي الذي أصبح تحت ظلّ رئيس الجمهورية.

كان من الواضح أنّ الهدف الأول لموسي هو امتصاص الصدمة وتخفيف الخسائر والتعويل على الزمن حتى تتضح الرؤية أكثر. انشغلت في الأسابيع التالية بتنظيم المؤتمر الانتخابي لحزبها الذي منعت من عقده بشكل حضوري فالتأم عن بعد يوم 13 أوت (التاريخ ذو الرمزية السياسية والتاريخية الكبيرة فهو يوم عيد المرأة في تونس وتاريخ المصادقة على مجلة الأحوال الشخصية في 1956) وأفرز عن فوزرها برئاسة الحزب مجددا. لكنها لم تغفل تماما عن نقد سعيّد والتشكيك في قدرته على فتح الملفات الثقيلة بخاصة التي تمسّ اسلاميي حركة النهضة وحلفائها. حتى أنها اعتبرت في 7 أوت 2021 أن ما فعله رئيس الجمهورية ليس إلا تنفيسا لأزمة النهضة وإعادة صياغة للنظام يسمح لها بالعودة إلى الحكم من دون محاسبة. وقد حذّرت من نوايا أنصاره قائلة: “إللي تراو فيهم الكل بش ينفذوا ربيع الخراب و الدمار في نسختها الثانية، اليوم يلزمكم تحطوا في بالكم يا توانسة إللي المنظومة فهمت إنو النسخة الأولى انتهت و فهمت شكون دمرلهم منظومتهم و عرفوا نقطة الضعف وين و هذاكة علاش بش يحاولو بكل الوسائل شيطنة المعارضة الحقيقية الحزب الدستوري الحر والترويج بقوة لفكرة لا نريد الأحزاب لإفراغ الساحة السياسية”.

  • المعارضة الصريحة:

لم تدم الهدنة النسبية إلا بضعة أسابيع. فبداية من شهر سبتمبر 2021، أصبحت موسي أكثر شراسة في مهاجمتها لرئيس الجمهورية خاصة بعد إصداره الأمر الرئاسي 117 في 22 سبتمبر 2021 الذي أرسى دعائم نظام رئاسوي يضع السلطة المطلقة بين أيدي ساكن قصر قرطاج، والذي انتقدته موسي بشدة واعتبرتْ أن سعيّد أصبح “الحاكم بأمره”. هذا التصعيد مرتبط بعدة عوامل. النشوة وحالة الاستحسان الشعبيتان اللتان رافقتا الإعلان عن إجراءات 25 جويلية بدأتا تختفيان تدريجيا تاركتيْن المكان للشكوك وحتى خيبات الأمل مع تخبّط الرئيس وبطء حركاته، مما يعني أن مهاجمة قيس سعيد أصبح لها ثمن شعبيّ أخفّ. كما أن نفور الرئيس من الأحزاب واستخفافه بها ووضعها كلّها في نفس السلّة يعني ضمنيا أنه لن يفتح معها حوارات جدية ولن يشركها في القرار السياسي أو على الأقلّ في وضع التصورات للخروج من الأزمة. لم يُقم سعيّد حسابا لأحزاب ساندته في مراحل مختلفة مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب فما بالك بالحزب الدستوري الحرّ الذي يعتبره الرئيس أحد أسباب الأزمة. كما أنّ عبير موسي وحزبها لديهما رصيد شعبي قد يتلاشى تدريجيا كلما بقي الحزب وزعيمته في الظلّ ودون دور مؤثر في الحياة السياسية، بخاصة أن حركة النهضة وحلفاءها استطاعوا أن يتجاوزوا ذهولهم من صدمة 25 جويلية وبدأوا في تنظيم صفوفهم واستجلاب “حلفاء” آخرين وإعادة التموقع في المشهد السياسي كمعارضة، وهذا تهديد لل”مجال الحيوي” للحزب. دون أن ننسى أنّ موسي وحزبها من الأهداف الأكثر عرضة للقصف من أنصار الرئيس. وعقب مراسم تنصيب حكومة نجلاء بودن، وأدائها لليمين الدستوري، هدّدت موسي بمقاضاة الرئيس لأنه استعمل في الجلسة صورا لنواب يتعرضون للعنف أو يمارسونه لتبرير إجراءاته والاستهزاء بالمجلس والحال أنّه لم يتحرّك لمنع الممارسات العنيفة وتوفير الحماية للبرلمانيين المعنّفين. في نفس الشهر، اتّهمت موسي سعيّد بتنويم وتخدير الشعب في حين أن هناك مخطّطات لتفكيك البلاد. كما اتهمته بعدم الجديّة في مجابهة الإسلاميين ومحاسبتهم. وكثفتْ موسي في خريف 2021 زياراتها الميدانية ونقاطها التنويرية بشكل جعلها لا تغيب تقريبا عن المشهد.

  • الصدام:

منذ شهر نوفمبر كرّرت زعيمة الحزب الدستوري مطالبتها الرئيس بحل البرلمان وإعلان تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها وانتقدت مرارا سياساته في مكافحة الفساد وما اعتبرته تباطؤا وعدم جدية في محاسبة المتورطين في الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية وشبكات تسفير الجهاديين إلى الخارج وغيرها من التهم. ولم تكن الطرف السياسي الوحيد الذي طالب بإنهاء حالة تجميد البرلمان، لكن الرئيس سعيد كان له رأي آخر توضّح في خارطة الطريق التي أعلنها منتصف ديسمبر 2021: استشارة الكترونية ثم استفتاء شعبي على تغيير النظام السياسي ثم انتخابات تشريعية أواخر 2022 بعد تغيير القانون الانتخابي. ويبدو ان هذه الخارطة كانت القطرة التي أفاضت كأس موسي وحزبها، فلقد أصبح من الجلي أن الرئيس سيصوغ بمفرده ملامح النظام السياسي الجديد وفق رؤاه وتصوراته وعلى مقاسه. نظام رئاسي صريح مع برلمان يُنتخب عبر الاقتراع على الأفراد لا القائمات الحزبية ممّا قد يشكل ضربة قاصمة للحزب وللرصيد الشعبي الذي راكمه طيلة سنوات وهو على مسافة قريبة من جني الثمار. وكان من الطبيعي في ظل هذه المعطيات الجديدة أن تمرّ موسي إلى السرعة القصوى وتترك جانبا الحسابات التكتيكية الصغيرة لتدخل في صدام صريح مع رئيس الجمهورية. فتارة تتهمه باضطهاد الشعب التونسي، وتارة أخرى تندّد بتسخيره الأجهزة الأمنية والعسكرية لقمع خصومه، مع الحديث دائما عن تساهله مع “الخوانجية” (الإخوان المسلمون) وانتقاد سياساته الاقتصادية التي أدّت حسب قولها إلى ارتفاع الأسعار وشحّ المواد الاستهلاكية وانكماش الاقتصاد. لم تكتفِ موسي بمهاجمة سعيد في نقطها التنويرية وتدخّلاتها في وسائل الإعلام: فقد نظّمت رفقة حزبها جملة من التحركات الميدانية أهمها عودة الاعتصام أمام مقر الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ومسيرتي 13 مارس و15 ماي 2022. وتسعى موسي من خلال كل هذه المداخلات والتحرّكات إلى تحجيم قوة سعيّد وضرب شرعيته من جهة، وتكريس نفسها كقوة معارضة أساسية متمايزة عن الجبهة المعارضة التي تقودها حركة النهضة من جهة أخرى. من اللافت للنظر أيضا أن عبير موسي التي لم تخفِ يوما سخطها على دستور 2014 الذي اعتبرتْ أنّه دستور الإسلاميين وأنه إقصائي يخدم مصالح مجموعات بعينها ويحتوي فصولا ملغمة وحمّالة أوجه، أصبحت في الأشهر الأخيرة من أشد المدافعين عن نفس الدستور والمطالبين لرئيس الجمهورية باحترام بنوده. وكما يقال “إذا عُرف السبب بطل العجب”، هذه الغيرة المفاجئة على الدستور تتعلّق بفصل واحد أو فصلين يتعلقان بتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها والآجال الدستورية الواجب احترامها. هنا مربط الفرس: موسي كانت تريد من رئيس الجمهورية حلّ البرلمان والإعلان عن انتخابات مبكّرة قد تمكنها من أن تصبح القوة السياسية الأولى في البلاد. لكن قيس سعيّد كان له رأي آخر: حلّ البرلمان اعتمادا على الفصل 72 “ضبابي” الذي يمكن تأويله بألف شكل. وهكذا ارتاح رئيس الجمهورية من “صداع” البرلمان وواصل السير في نفس خارطة الطريق.


[1]  مقولة بالعامية التونسية مفادها قلب سترته بمعنى تنكر لمبادئه وانتماءاته واستبدلها بأخرى.

[2] الباروميتر السياسي، معهد إمرود كونسلتينغ لاستطلاع الرأي

[3] استطلاع رأي قامت به مؤسسة سيغما كونساي

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، حرية التعبير ، حرية التجمّع والتنظيم ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني