ضحايا الكوما في 4 آب: نجاة من الموت وليس من الحياة


2023-08-05    |   

ضحايا الكوما في 4 آب: نجاة من الموت وليس من الحياة
رسم رائد شرف

ثلاث سنوات مرّت على تفجير 4 آب، ولا زال هناك أشخاص عالقون بين الحياة والموت وإن كانوا قد ولدوا من جديد بعد استيقاظهم من الكوما. ليس من السّهل أن يعيش المرء حياة يحدق بها الخطر، لا يعلم هو أو حتى من هم حوله ما الذي ينتظره فيها. كلّ شيء غير متوقّع، والمرحلة التالية مجهولة. هكذا هي حياة ليليان شعيتو، وفاطمة قرياني، ويولا، بعدما استيقظنَ من الغيبوبة التي دخلنَ فيها جرّاء إصابتهنّ في التفجير. لم يعلمن في تلك الساعة ما الذي كان بانتظارهنّ. واليوم يعشنَ كلّ يوم بيومه، تحت خطر أن يكون أيّ يوم هو الأخير لهنّ في هذه الحياة. وحدها الشابة لارا الحايك، ما زالت في عالم آخر، لم تستفق بعد من سباتها، تنتظرها والدتها بغاية الصّبر من دون أن تعلم ما الذي تنتظره فعليًا. ما بعد الكوما ليس كما قبله، والعالق فيها مصيره مجهول، والخارج منها أيضًا، أمّا العون من قبل الدولة ووزاراتها ففي غيبوبة من نوع آخر، لا مساعدات متوفّرة ولا من يسألون.

في هذا المقال تتابع “المفكرة” آخر المستجدات في حياة أربع نساء دخلن في غيبوبة في 4 آب استيقظت 3 منهنّ منها. قد يكنّ نجَون من الموت، ولكنّهن لم ينجَون من قساوة الحياة.

ليليان شعيتو: بطلة محبوسة داخل جسدها تولد من جديد

بعد سنتين من العلاج في لبنان، تمكّنت ليليان شعيتو من السفر إلى تركيا، وتحديدًا إلي مدينة بورصة، لمتابعة علاجها في مركز مختصّ. ليليان التي قال الأطبّاء إنّها لن تبقى على قيد الحياة أكثر من 3 أيام، صمدت 3 سنوات ولا زالت مستمرة، تحدّت خلالهم الموت كلّ يوم وحرمانها من ابنها، الذي يبلغ اليوم من العمر 3 سنوات وشهر. وكانت ليليان قد دخلت في حالة “كوما نباتية” بعدما تعرّضت لإصابة في رأسها عندما وقع التفجير، وبحسب رئيس قسم العناية الفائقة للجراحة، ورئيس جراحة الحوادث في مستشفى الجامعة الأميركية البروفيسور جورج أبي سعد فإنّه في هذا النوع من الغيبوبة يعتبر المريض “غير واعٍ وليس ميتًا”.

بقيت ليليان سنتين في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، تلّقت خلالها علاجات مكثّفة وخضعت لعدد من العمليات، ومن بعدها كانت بأمسّ الحاجة إلى علاج فيزيائي، لكنّ عائلتها لم تتمكّن من إرسالها إلى الخارج في وقت سابق بسبب احتجاز جواز سفرها. وفي هذا السياق تقول شقيقتها نوال في اتصال مع “المفكرة”: “رغم أننا حاولنا مرات عدة أن نتواصل مع زوجها لتسهيل موضوع السفر، وتأكيد الأطباء على ضرورة هذا الأمر كي تتلقّى العلاج المناسب، إلّا أنه كان يرفض. في آب الماضي، وبعدما ساعدنا اللواء عباس إبراهيم وتدخّل شخصيًا، تمكّنا من الحصول على جواز السفر، وتوجّهنا إلى مدينة بورصة في تشرين الأول الماضي لمتابعة العلاج في مركز متخصّص كنا قد تواصلنا معه مسبقًا وكذلك قد فعلت إدارة المستشفى في بيروت. في المركز قالوا لنا “لقد تأخرتم، كان من الأفضل أن تأتوا بها إلى هنا في وقت سابق”، ذلك لأنّ الإبكار بالعلاج يساعد على تحسّن وضعها بشكل أسرع”. حالة ليليان قد شهدت تحسّنًا كبيرًا في الفترة الأخيرة، بحسب شقيقتها، هي اليوم أشبه بطفلة تكتشف الحياة من جديد بعدما كانت في عالم آخر، وباتت اليوم مدركة لما يحصل حولها، خطت أولى خطواتها، كما نطقت أولى كلماتها، ولكنّ الكرسي المتحرّك لا يزال رفيقها.

يبدأ يوم ليليان بالتمارين منذ الساعة 9 صباحًا ولغاية الساعة 5 بعد الظهر، وقد بدأت حالتها تشهد تحسّنًا بشكل كبير، قد يحتاج الأمر إلى تسعة أشهر أخرى كي تتمكّن من الوقوف على قدميها مجدّدًا، بحسب شقيقتها. “من يدري؟ لا يمكن تنبّؤ أي شيء في حالة شقيقتي، فعندما أحضرناها إلى المستشفى في بيروت، قال لنا الأطباء إنها لن تعيش أكثر من ثلاثة أيام، إلّا أنّها قد صمدت 3 سنوات، قالوا لنا إنها لن تتمكن من التكلم مجددًا، ولكن ها هي اليوم تنطق أولى كلماتها وإن كانت بسيطة”. تمارين قاسية تخضع لها ليليان لتكسب حياتها مجددًا، ورغم الوجع اليوميّ الذي تشعر به أثناء التمارين ويدفعها إلى البكاء في معظم الأحيان، إلّا أنّها تصرّ على متابعة العلاج والنهوض في اليوم التالي. “شقيقتي نجت من الموت بأعجوبة، إنّها بطلة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهي تملك من الإرادة ما يكفي لتحاول النهوض من جديد. وين كنا ووين صرنا”، تقول نوال، مضيفةً أنّ ليليان “تخضع أيضًا لجلسات للتواصل أونلاين مع الدكتورة شانتال خليل من لبنان، ساعة ونصف من التحفيز المستمرّ لإنعاش ذاكرة ليليان ومساعدتها على التعبير والتواصل من جديد”.

وفي ما يتعلّق بتكاليف العلاج، فإنّ شخصًا لبنانيًا مقيمًا في تركيا قد تبرّع وأخذ على عاتقه مهمّة تغطية تكاليف العلاج بشكل كامل، بعدما كانت مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت قد تكفّلت بعلاجها في البداية منذ لحظة الانفجار، لتطلب من بعدها من العائلة إخراجها “لأنّه لم يعد هناك داع لبقائها في المستشفى”، بحسب المستشفى. وهنا تعلّق نوال “رفضنا حينذاك طلبهم، لأنّنا نعلم جيّدًا أنّها لا تزال بحاجة إلى علاج، وعندها تواصلنا مع وزارة الصحة طالبين منهم تغطية التكاليف المالية اللازمة لاستكمال العلاج، وجاءنا الجواب من أحد المسؤولين في الوزارة “شو بدّي أعملّك؟ بقعّدلك ياها first class لإختك؟”.

 “ليليان محبوسة داخل جسدها”، تقول شقيقتها، وإضافة إلى كل معاناتها هي أيضًا محرومة من رؤية ابنها علي الذي كانت قد تمكّنت من رؤيته واحتضانه للمرة الأولى في شهر آب الماضي وهي على سرير المستشفى، بعد مرور عامين على التفجير حُرِمت خلالهما من رؤيته من قبل زوجها وعائلته وبقيت قضيّتها بحقّ الرؤية عالقة لدى القضاء المدني. ضمّت ليليان ابنها إلى صدرها بعد حملة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد على حقها في رؤية طفلها. وكانت وساطات عدة قد دخلت على خطّ المصالحة بين العائلتين ليتحقّق اللقاء. محامي عائلة الزوج، علي رحال، كان قد لفت حينها في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ “عائلة الزوج فضّلت أن يتمّ اللقاء بين الطفل ووالدته بعد إتمامه عامه الثاني، كي تنخفض نسبة إمكانية التقاطه لأيّ فيروس أو عدوى”، وهو ما لم يُذكر في أيّ حديث سابق صادر عن العائلة أو محاميها، مؤكدًا أنّ “اللواء عباس إبراهيم قد تكفّل استثنائيًا بتمديد صلاحية جواز سفر ليليان”. وبعد اللقاء الأول، اكتفى زوج ليليان بإحضار ابنه إلى المستشفى مرّتين فقط، تزامنتا مع تغطية إعلامية، بحسب شقيقة ليليان التي أضافت “عندما طلبنا منه إحضار علي إلى المستشفى مرة أخيرة قبل سفرها رفض ذلك، ولا زلنا حتى اليوم نطلب منه ومن عائلته أن يسمحوا لها برؤيته عبر video call ويُقابل طلبنا بالرفض والتعذّر عن إجراء الاتصال بحجج غير منطقية”. تحاول شقيقة ليليان قدر المستطاع عدم التحدث عن “علي” أمام شقيقتها، لتفادي مضايقتها بأيّ شكل من الأشكال، بخاصة أنّه ليس بيدها أيّ حيلة تساعدها كي تتمكّن من رؤيته. ولكنّ رغبة ليليان العميقة برؤية طفلها علي تظهر جليًا عندَ رؤيتها لطفل من عمره بالقرب من المركز الذي تتواجد فيه، وبمجرّد أن تراه تحتضنه بشدّة وكأنّما في ذلك ما يبرّد شوقها إليه.

ليليان عند لقاء ابنها لأول مرة في بيروت

الخطر يحدق بحياة فاطمة قرياني بعد عودتها من الموت

عشرون يومًا قضتها فاطمة قرياني (39 عامًا) في المستشفى في حالة كوما من لحظة وقوع انفجار 4 آب في العام 2020، حيث تعرّضت لإصابة بليغة في رأسها، عادت بعدها من الموت وانتقلت إلى موتٍ آخر. بدأ ذلك من لحظة استيقاظها ونوبة البكاء التي انتابتها بعدما رأت وجهها في المرآة وقد خسرت شعرها وجزءًا من جمجمتها، مرورًا بصعوبة العمليات التي خضعت لها، سواء عملية إرجاع العظمة إلى رأسها أو عملية ترميم أنفها وفمها من جديد، وصولًا إلى الخطر المحدق بحياتها اليوم ويمنعها من عيش حياة طبيعية.

“بعد عام ونصف من بقائي في المنزل لعدم قدرتي على العمل، عدت مجددًا إليه. وقفت على قدميّ مجددًا من أجل ابنتيّ (14 عامًا)، اخترت أن أعود إليهما قوية بدل العودة بكفن. لم يكن الأمر سهلًا، ولكن ها أنا أحاول”، تقول فاطمة في مقابلة مع “المفكرة”. فاطمة التي عاشت فترة زواج صعبة، وانكبّت على العمل لتعيل ابنتيها بعد طلاقها، عادت حية بأعجوبة من معركتها مع الموت، وأصرّت على استكمال عملها في متجر الألبسة نفسه الذي كانت تعمل به في منطقة المصيطبة أثناء إصابتها في الرابع من آب. “أستجمع قوّتي كلّ يوم، أعضّ على الجرح والأوجاع، وأتّجه نحو المحل. أعمل لأُعيل ابنتيّ، فأنا كما أيّ أم لا أريد أن تحرم ابنتاي من شيء، وإن كان ذلك على حساب صحّتي”.

اضطرت فاطمة للاستغناء عن جلسات العلاج الفيزيائي التي تحتاجها مدى العمر، بسبب عدم مقدرتها على تغطية تكاليفها، وهي اليوم تكتفي بإجراء بعض التمارين في نادٍ رياضي قريب من منزلها بشكل يوميّ، تذهب بعدها إلى العمل، وتعود لابنتيها محاربة أوجاعها التي تلازمها بشكل يوميّ في جميع أنحاء جسدها، بخاصة وأنّ عظامها باتت هشّة وضعيفة، وتدخل في نوبات صداع حادّ بين الحين والآخر. في نهاية اليوم، تعود فاطمة إلى سريرها لتواجه الوجع وتبكي بحرقة في غرفة مظلمة كي لا تراها الفتاتان، تحبس دموعها وتقول “أنا مش عايشة، بضحك على حالي ومن جوّا عم إبكي، ولكن لديّ مسؤولية أمام ابنتيّ قبل كل شيء وعليّ أن أتحلّى بالقوّة من أجلهما”. وتتابع: “الحياة صعبة، وأنا قد انحرمت من أمور كثيرة في حياتي. أبكي أحيانًا لأنّه ليس بمقدرة أحد أن يشعر بوجعي، وليس باستطاعتي أن أعيش حياة طبيعية، فأيّ حركة زائدة قد تهدّد حياتي، لذا أفضّل البقاء في المنزل تجنّبًا لوقوع أيّ مكروه. أحيانًا أكاد أن أستسلم فأقول “يا ريتني ما عشت”، من ثمّ أتراجع عن قولي هذا وأشكر ربّي لأنّه أعادني إلى الحياة لأكون إلى جانب ابنتيّ”.

يولا تعود إلى نقطة الصفر بعد الكوما: بس صير منيحة بدي فلّ

لا تذكر يولا (اسم مستعار) أي شيء، لا الانفجار ولا كلّ حياتها التي سبقته. يولا التي تبلغ من العمر 44 عامًا، كانت قد دخلت في غيبوبة لأربعة أسابيع بعد إصابتها في تفجير المرفأ، واستيقظت من بعدها بلا ذاكرة. في تشرين الثاني 2020 خرجت من مستشفى الجعيتاوي إلى مركز القرطباوي لإعادة التأهيل، لتخرج منه بعد فترة قصيرة جرّاء إصابتها بعدوى كورونا مما أثّر سلبًا على تقدّم حالتها الصحية. ورغم التحسن الطفيف بحالتها الصحية في الفترة الأولى من العلاج حيث بدأت بالمشي ببطء، تعرّضت لنوبة صرع شديدة في كانون الأول الماضي أدّت إلى تدهور حالتها مجددًا، حيث فقدت القدرة على المشي ولم يعد كلامها مفهومًا على الإطلاق، هي فقط تحفظ وجوه أفراد عائلتها الصغيرة في المنزل، ولا تذكر شيئًا على الإطلاق غير ذلك، بحسب ما أشارت إليه شقيقتها في اتصال مع “المفكرة”.

“في الفترة الأولى التي تحسّنت خلالها كانت تطرح سؤالًا واحدًا باستمرار “لماذا أنا هكذا؟ ما الذي حصل لي؟”، لم أستطع أن أخبرها الحقيقة، كنت أكتفي بالردّ قائلة “إنّ شيئًا كبيرًا قد حدث وجعلك على هذا الحال”. أشعر بانزعاجها جرّاء ما تعانيه، بخاصة وأنّها تتمتّع بشخصية مستقلّة ومعتادة على إنجاز أمورها بنفسها. يصعبُ عليّ جدًا أن أراها تتألم وتبكي وتعاني من نوبات وانهيار نفسي”، تقول شقيقة يولا، وتتابع “حين استعادت قدرتها على النطق بشكل بسيط قبل النوبة الأخيرة، قالت لي: بس صير منيحة بدّي فلّ، ما بدّي ضلّ هون”، بهذه الجملة لخّصت يولا نقمتها ورغبتها بالرّحيل رغم فقدانها لذاكرتها، وكأنّما تريد أن تبدأ حياة جديدة ومن الصّفر في مكان آخر يستحّقها، تقول شقيقتها وتضيف بصوت غلبه الحزن “أنا متت من جوّا، بس مجبورة كمّل ورح ضلّ حدّها لو شو ما صار”.

تخضع يولا لعلاجات عدة بشكل مستمرّ، وقد تولّى مركز متخصّص في مستشفى أوتيل ديو علاجها، أما الدولة ومؤسساتها “فلا حياة لمن تنادي”، بحسب شقيقتها التي تسأل “عن أي دولة يتحدث الجميع؟ نحن متروكون وحدنا من دون أي مساعدة من الدولة والوزارات الرسمية، ولم يدقّ أحد منهم بابنا”.

في غيبوبة تامة… لارا الحايك والمصير المجهول

ثلاث سنوات مرّت على التفجير الذي قلب حياة اللبنانيين رأسًا على عقب، ولا تزال لارا الحايك في حالة غيبوبة تامة في مستشفى بحنّس. لارا التي كانت مفعمة بالحياة، خُطفت منها الحياة في لحظة ملعونة من دون أيّ ذنب كغيرها من الضحايا، ومنذ ذلك الحين تعيش والدتها نجوى على ذكرى تفاصيلها في كلّ زاوية من المنزل، وإيمان بأنّها تشعر بها رغم عدم قدرتها على التعبير والإتيان بأيّ حركة.

بعد مرورها بتجربة زواج غير سهلة تنقّلت خلالها بين لبنان ولندن، اختارت لارا الطلاق والتركيز على عملها وطموحاتها وتحقيق أحلامها الكثيرة التي تضمن لها ولوالدتها حياة كريمة. ورغم حبّها الكبير للحياة واصرارها على الاستمرار، جاء انفجار مرفأ بيروت ليضع حدًّا لحياتها. “كنت في العمل في ذلك اليوم، اتصلت بي لارا وأبلغتني عن وصولها إلى المنزل، وأنها سوف تخلد إلى النوم قبل أن تذهب لمساعدة صديقتها في الصيدلية”، تخبر والدة لارا، السيدة نجوى في مقابلة مع “المفكرة”، وتتابع بعدما خانتها دموعها “لا أنسى أبدًا جملتها الأخيرة: ماما أنا تعبانة، بدي نام… ونامت هيديك النومة”. غرفة لارا لا تزال على حالها، صورها تملأ الغرفة حيث كانت نائمة عندما دقّت عقارب الساعة المشؤومة، وتؤنس والدتها في وحدتها. فبعدما توفّي زوجها وسافر ابنها إلى الخارج، كانت لارا ابنتها وصديقتها والروح التي تملأ حياتها. واللافت أنّ لارا كانت تعرّضت لإصابة بعينها وبرأسها، ولم تفقد وعيها إلّا بعدما وصلت إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، حاول الأطباء إسعافها، إلّا أنّها دخلت في غيبوبة لم تخرج منها… “وراحت لارا”، تقول والدتها بحرقة تغلّبت على كلّ محاولاتها لتمالك نفسها. 

مشاعر متخبّطة بين الحقيقة والإنكار سيطرت على والدة لارا “في أول شهرين كنت أشعر بها، وكان هناك شيء ما دفعني الى تصديق أنّها تسمعني وستعود للحياة قريبًا”، تقول وتتابع “رزيلة. بعرفها ما بتعملها وممكن ترجع، بتخايلها فايتة عالبيت”. حاولت بشدّة أن تبرد قلبها بهذه الفكرة على مدى شهرين، ولكنها فقدت الأمل بعدما أعلمتها المستشفى أنّهم لم يعد بإمكانهم استقبالها لديهم، مشيرين إلى أنّه من الصعب أن تعود للحياة مجددًا وأنّها إن فعلت فبالتأكيد لن تعود كما كانت. “في هذه اللحظة بالذات ضاقت بي الدنيا. يا محلا ساعة الموت قدّام هاللحظة اللّي خسرت فيها الأمل”، تقول والد لارا، وتتابع “رغم أنّ عددًا كبيرًا من الأطبّاء يتابع لارا أثناء وجودها في مستشفى بحنّس الذي يستقبل حالات مشابهة لها، إلا أنّ حالتها لم تشهد أيّ تحسّن، وهي لا تتجاوب مع العلاج نهائيًا”. فهي في غيبوبة كلّية ولو أنّها تفتح عينيها أحيانًا ولكنها لا تتفاعل مع أي حركة أمام وجهها، أي أنّها حرفيًا تنظر ولا ترى وتتغذّى من خاصرتها.  

مستشفى بحنّس غير متعاقدة مع وزارة الصحة، وبالتالي تتحمّل عائلة لارا تكاليف العلاج الباهظة مع مساعدات مالية بسيطة من إحدى الجمعيات، وكان قد سبق لأحد أصحاب الأيادي البيضاء في الكويت أن ساهم في تغطية جزء من تكاليف العلاج لفترة وجيزة. واليوم تتكبّد العائلة دفع مبلغ يزيد عن 2000 دولار في الشهر الواحد، يغطّي مصاريف المستشفى ويضاف إليه كل ما قد تحتاجه لارا من أدوية ومستلزمات شخصية. تشير السيدة نجوى إلى أنّها قد طلبت من مدير مسؤول في وزارة الصحة التوسّط لهم للحصول على مساعدات، ولكنّ الجواب كان دائمًا “لا يوجد مال في الوزارة”، وكذلك قد تواصلت مع مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزيف الحلو الذي حاول أن يساعدها من خلال تواصله مع المستشفى، ولكنّ الأمر لم يجد نفعًا. وتضيف: “حاول أحد الأشخاص إيصال رسالة إلى نائب يقطن بالقرب من منزلنا في الأشرفية وأخبره عن حالة لارا، فكان جوابه “ما معي خبر فيها”، ولم يحرّك ساكنًا”.

 في ظلّ كل ذلك، تمرّ الليالي قاسية على والدة لارا “أحيانا أجد نفسي أبكي ليلًا بمجرّد عودتي إلى المنزل. أجلس وأتحدّث إليها، الوضع صعب جدًا! كيف خطفوا ابنتي منّي بلمح البصر؟ حصل ما حصل ولم يدقّ أحد باب منزلي، كنت بحاجة إلى إنسانية أكثر من المال”. تعيش والدة لارا على أمل رؤية ابنتها في عطلة نهاية الأسبوع، تنتظرها بفارغ الصبر كي تذهب إليها وتطفئ نار قلبها برؤيتها، وتعرب عن رغبة يتيمة قائلة “إنني أدعو ربي أن أبقى بصحة جيدة كي أتمكّن من البقاء بقربها كي لا تحتاج إلى أحد”. كل ما تريده نجوى هو أن ترى ضحكة ابنتها، أن تسمع صوتها وتشعر بها، فهي اليوم تعيش مع لارا “غريزة الأمومة” فقط لأنّ لا قدرة لها على التعبير ولا تدري إن كانت كلماتها بالفعل تصل إلى ابنتها.

الدكتور جوزيف الحلو أعرب من جهته عن حزنه الكبير على لارا وعائلتها، بخاصة أنّ ما تمرّ به ليس سهلًا أبداً، واعتبر أنّه كان لا بدّ ومباشرة بعد التفجير من إنشاء صندوق خاص لعلاج المصابين لأنّه كان من الواضح أنّ مسار العلاج ىسيكون طويلًا ومكلفًا، فموازنات الوزارة والجهات الضامنة الرسميّة لن تكون وفي ظلّ الانهيار الاقتصادي قادرة على تحمّل تكاليف رحلات العلاج. وأضاف أنّه اقترح إنشاء هذا الصندوق مع إقرار موازنة خاصة به، وطلب إدراجه كبند ضمن القانون الذي أُقرّ والمتعلق بضحايا تفجير الرابع من آب، إلّا أنّ الأمر لم يحصل، وتعليقًا على حالة لارا الحايك قال في مقابلة مع “المفكرة”: “حالتها محزنة جدًا، ونحن نحاول أن نفعل كل ما باستطاعتنا من أجل مساعدتها”.

من جهة أخرى، أشارت مديرة برنامج حقوق الأشخاص المعوّقين في وزارة الشؤون الاجتماعية، هيام فاخوري، إلى أنّ تصنيف الكوما كإعاقة يحتاج إلى تشخيص واضح بوجود شلل، فيكون التصنيف مرتبطًا بدرجة القدرات الحركية والسمعية والبصرية والذهنية، ففي حال كان الشخص في حالة كوما ولا وجود لتشخيص واضح لإحدى هذه القدرات، لا يكون بالإمكان إعطاءه بطاقة معوّق. والجدير بالذكر بحسب فاخوري أنّهم في وزارة الشؤون الاجتماعية قد طالبوا منذ مدة تصنيف الكوما كإعاقة باعتبار أنّها انعدام كامل بالحركة والفكر، ولكنّ ذلك لم يتمّ. وتضيف “إنّنا في وزارة الشؤون نعمل على سحب ملفّ الإعاقة من ملف الطبابة، فعندما نتحدّث عن حالات 4 آب على سبيل المثال، نرى أنّه من المفترض أن يتمّ إنشاء وحدة متابعة لضحايا الانفجار بغضّ النظر عمّا إذا كانت إصابتهم ظاهرة أم لا، حيث نجد الكثير من الأشخاص الذين تضرّروا نفسيًا جرّاء التفجير وهؤلاء ليس هناك من يساعدهم، حتى أنّ بعضهم غير مدرك بشكل فعليّ لتدهور حالته النفسية”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الصحة ، حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة ، لبنان ، مقالات ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني