شوارع تونس المُحاصَرَة بالحواجز الأمنية(قصّة صحفية مُصوَّرة)


2023-12-15    |   

شوارع تونس المُحاصَرَة بالحواجز الأمنية(قصّة صحفية مُصوَّرة)
شوارع تونس- تصوير أحمد زروقي

صور: أحمد زروقي 

مُنذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أكتوبر الماضي، كانت السّفارة الفرنسية وسط العاصمة التونسية أحد الأماكن التي تجمهَر أمامها المتظاهرون للتّنديد بالموقف الحكومي الفرنسي المؤيّد لدولة الاحتلال. أجابَت السّلطات الأمنية التونسية بغلق كامل محيط السفارة، وتطويقِها بالحواجز الأمنية من جهاتِها الأربع، رغم أنها تحظى بحراسة أمنية مُشدّدَة منذ ثورة 2011. سَاهمَ هذا التّشديد الأمني الإضافي في إغلاق أجزاء جديدة من شارع الحبيب بورقيبة وبعض الأنهج المحيطة به، وتعطَّلَت بذلك حركة مرور الأشخاص والسيارات والنقل العمومي، إذ ظَلت محطّات مِترو المدينة المُتاخِمة للشارع الرئيسي مَفصولة عن بعضها لأيام مُتواصلة.

يأخذُنا هذا الغَلق الأمني الجديد إلى إعادة التطلّع في حركة الحواجز الأمنية المتنامية، التي أصبحت تُسيّج مساحات لا بأس بها من الفضاء المَديني وسط العاصمة. مشيًا على الأقدام من ساحة القصبة -أين يوجد مقر رئاسة الحكومة- مرورا بمنطقة باب بْحَر، وصولا إلى آخر شارع الحبيب بورقيبة من الجهة المحاذية لمحطة الخط البحري الشمالي، يُمكِن ملاحظة -على امتداد كيلومترات- الحجم الهائل للحواجز التي تُطوّق بعض الشوارع من اليمين واليسار، أو تمنَع الوصول إلى بعض الأنهُج والساحات، على غرار ساحة القصبة وساحة النصب التذكاري لعبد الرحمان ابن خلدون.

ساحة النصب التذكاري عبد الرحمان ابن خلدون

شارع الحبيب بورقيبة وساحَة القصبة: الرُّهَاب السّلطوي من الاحتجاج

لم تَكُن حرَكة نصب الحواجز السياسية مفصولة عن حركة الاحتجاج السياسيّ في المدينة منذ ثورة 2011، بل جاءت لتُواكِبها وتُطوّقها. وداخل شارع الحبيب بورقيبة وساحة القصبة تتكثّف هذه الدلالة السياسية والأمنية. تَحوّلَ شارع بورقيبة طيلة السنوات الفارطة إلى ساحة معركة بين المتظاهرين والقوات الأمنية. وفي كل مرّة تفتكّ الإدارة الأمنيّة مساحات جديدة منه عبر آلية الحواجز الأمنية، وكلّ حاجز جديد يُزرَع لا يتمّ التراجع عنه، بل يُصبح جزءا من المنطقة الأمنية الممنوعة. وفي الآونة الأخيرة حاولَت السلطات الأمنية إخفاء هذه العسكَرة الصارخة، عبر تغطية الحواجز الأمنية المقابلة لوزارة الداخلية بمُعلّقات (بوستارات) تتضمّن صورا للعلم التونسي وصورا أخرى يُفهَم منها التّرويج لمشاهد سياحية مبتذَلَة. ولكنّها في نهاية المطاف لم تتخلَّ عن الحواجز، بل زينّتها. ويلُوح أنّ هذا الإجراء التمويهي جاءَ إثرَ تذمّر الرئيس قيس سعيد من قلّة النظافة وانعدام مظاهر الزينة وسط المدينة.

إلى حدود اليوم، أفلحَت الإدارة الأمنية في السيطرة على حركة المرور والاحتجاج داخل شارع بورقيبة. وأصبح بالإمكان التحكّم في مسَار حركة المتظاهرين التي تنفَذ إلى الشارع، من خلال دفعِها نحو ساحة المسرح البلدي ومحيطها الصغير، وفي بعض الأحيان يَجري تطويق هذه الساحة -المسموح بالتظاهر أمامها إلى حد الآن- بالحَواجز الأمنية أيضا.


ساحة القصبة

لقيتَ ساحة القصبة، أين يقع مقر رئاسة الحكومة، نفس مصير المَنع. بدأ الإغلاق تدريجيا منذ السنوات الأولى للثورة من خلال تسييج واجهة المقر الحكومي بجدار حديدي ومُراقبة أمنية مكثفة. وطالما أن مقر رئاسة الحكومة شكّلَ منذ عام 2011 منطقة للاحتجاج والاعتصام، فقد سَعت السلطات الأمنية إلى تطويق كامل محيط المقر الحكومي بالحواجز الأمنية، وتم إغلاَق ساحة الحكومة المُطلّة على مقر بلدية تونس بالكامل. وهكذا أصبح تقريبا من الصعب تواجد أعداد كبيرة من المتظاهرين داخل فضاء مُطوَّق بالكامل بحواجز أمنية تُشرف على حِراستها دوريات أمنية قارة.

محيط مقر السفارة الفرنسية وسط العاصمة، والواجهة الأمامية للكاتدرائي

المدينة في قبضة الأمن

إن تتبّع أماكن الحواجز الأمنية، في وسط العاصمة، يُشير أيضا إلى أنّها مرتبطة بمقرات أمنية وحكومية وسفارات أجنبية. وقد كان لتواجد مقر وزارة الداخلية في قلب العاصمة دور كبير في توسيع رقعة الحواجز الأمنية. حتى المراكز الأمنية الصغيرة المحيطة بشارع بورقيبة تمّت إحاطتها بالحواجز، ضمن سياسة توسيع مساحات الحماية الأمنية. شَمل الإغلاق أيضا كاتدرائية القدّيس فنسون دو بول بتونس، التي تُعدّ الكنيسة الرئيسية للرومان الكاثوليك في تونس، حيث أصبحت واجهتها الأمامية والخلفية مُطوّقتين بالحواجز. أمّا ساحة عبد الرحمن ابن خلدون فقد أصبحت منذ 25 جويلية 2021 تحت حراسة دبابة عسكرية.

ساحة القصبة، من الجهة التي تؤدي إلى شارع باب بنات

هذه العسكرَة المكثفة تُسوّغ لنفسها في معظم الأحيان من داخل فكرة “مكافحة الإرهاب”. ولكن اتساع رُقعَتِها الجغرافية وارتباطها بسياق المنع السياسي العام الذي باتت تشهده البلاد، سَاهم في تحويل وسط المدينة إلى حالة من “الأمنَنَة” الشاملة، ولم يعد فضاءً اجتماعيا للتّعايش والعُبور والتلاقي من دون الإحساس بثقل الرقابة وصعوبة المرور.

ساهَمت هذه الهندسة الأمنيّة في إعادة تشكيل وجه المدينة، لتأخذ الأسلاك الشائكة والحواجز الأمنية والأسمنتية حَيزًا لا بأس به في بنائِها المعماري. إذ تمَّ تَغييب العديد من الأنهج الفرعية المحيطة بوزارة الداخلية ضمن مُخطّط المنع، على غرار نهج الحسين بوزيان. كما أن المقاهي والمحلاّت المحاذية لوزارة الداخلية تم عَزلها عن الشارع الرئيسي بفعل الحواجز الأمنية. وبعض محطات المترو المُتاخمة لشارع بورقيبة أُغلِقَت وأصبحت خارج الخدمة، على غرار محطتي شارع باريس وشارع الحبيب ثامر.

مجلس النواب، باردو

25 جويلية والسيطرة على حركة التعبئة

واكبَت حركة الحواجز الأمنية التغيّر السياسي الذي شَهِدته البلاد، إثر الانقلاب الدستوري الذي نفذه الرئيس سعيد في 25 جويلية 2021. ومنذ ذلك التاريخ، تلاَزمت دعوات الاحتجاج السياسي مع إجراءات أمنية مُشدَّدة تَعمد إلى إغلاق شارع الحبيب بورقيبة أو التضييق على الوصول إليه من خلال نقاط التفتيش الأمني المحيطة به، وفي أهون الأحوال يتمّ دفع المتظاهرين للالتزام بالتظاهر أمام المُحيط الصغير للمسرح البلدي.

كانت سياسة السلطة الجديدة واضحة منذ البداية بخصوص التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة، إذ عَمدَت إلى منع المتظاهرين في 14 جانفي 2022 من الوصول إلى الشارع، باستخدام الهراوات وقنابل الغاز، وقامت باعتقال العديد منهم. وانسجامًا مع هذه السياسة، أشار والي تونس السابق ووزير الداخلية الحالي، كمال الفقي، إلى أن شارع الحبيب بورقيبة سيتمّ تخصيصُه للتّظاهرات الثقافية ولن يُسمح بالتّظاهر السياسي داخله. ومن المفارقة أن كمال الفقي برّرَ هذا المنع بحجة “تعطيل السير العادي للشارع”، في حين أن الحواجز الأمنية التهمَت أكثر من نصف مساحة الشارع، وأدخلت أجزاء كبيرة منه في حالة من العطالة الكلية.

شارع الحبيب بورقيبة

في المُحصّلة أدت الحواجز الأمنية دورَها في التضييق على الاحتجاج السياسي وَسط المدينة، وخصوصا في شارع الحبيب بورقيبة، وهو ما يُمكن ملاحظته في حالة الضعف التي باتت تشهدها التعبئة السياسية والمَدنيّة. إذ عمِلت السلطة الحالية في أكثر من مرة -على لسان الرئيس سعيد- إلى التقليل من القيمة التعبوية لخصومها السياسيين، وإظهارهم بأحجام صغيرة. ولكن العسكرة الأمنية لوسط المدينة، لا ترتبط فقط بالصراع السياسي المباشر في البلاد، وإنما تحمل دلالة مستقبلية تؤشّر لعودة الرؤية الأمنية القديمة، التي تَنظر للفضاء العام بوصفِه موضوعًا مشبوهًا للسيطرة والضّبط والرقابة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني