رفع السّرية المصرفية يصطدم بجدار نيابي


2022-04-08    |   

رفع السّرية المصرفية يصطدم بجدار نيابي
رسم رائد شرف

أنجزتْ لجنة المال والموازنة في جلستها المنعقدة في 11/10/2021، دراسة اقتراح قانون رفع السرية المصرفية عن المسؤولين والعاملين في القطاع العام، بعدما ردّه رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب عملا بصلاحياته منذ 19 حزيران 2020. وكان هذا الأخير توقّف بشكل خاص عند وجوب منح القضاء وبخاصة النيابات العامة إمكانية رفع السرية المصرفية في جميع الجرائم، تمكينا لها من أداء دورها في ممارسة الحق العام. ورغم أن الهيئة العامة للمجلس انعقدت مرات عدة بعد ذلك آخرها في 29 آذار الماضي، فإن مكتب المجلس أعرض عن إدراج هذا الاقتراح على جداول أعمالها. وكان رئيس لجنة المال النّائب ابراهيم كنعان تساءل في مُداخلة يتيمة في جلسة 21 شباط عن سبب عدم طرح الاقتراح، فلم يلقَ ردّا واضحا من رئاسة المجلس. في المقابل، فإن أيّاً من النواب ولا حتى كنعان أثار هذه المسألة في الجلسة الأخيرة التي انعقدت في 29 آذار الماضي.

فهل قرّر المجلس إنهاء ولايته من دون التطرّق إلى الاقتراح الذي وُصف بأنه أحد أهم القوانين الإصلاحية، أم أنّ الجلسة الأخيرة التي يتردّد أنها ستُعقد لبتّ قانون الكابيتال كونترول وقوانين أخرى تتعلّق بخطّة التّعافي التي اتفق على خطوطها العريضة مع صندوق النقد، ستشهد إقرار القانون الذي طال انتظاره؟ وما يزيد هذا السؤال إلحاحا هو أن إحدى توصيات الصندوق تمثلت في “موافقة البرلمان على مراجعة قانون السرية المصرفية بما يتماشى مع القانون الدولي ومعايير محاربة الفساد وإزالة العوائق أمام هيكلة فعّالة للقطاع المصرفي والرقابة عليه، وعلى إدارة الضرائب، والتحقيق في الجرائم المالية، واسترداد الأصول”. ولكن، بمعزل عن تاريخ التصويت على هذا الاقتراح، فإن التمعّن في مضمونه يظهر أنّه ليس إصلاحياً كما يسوّق له وأنّه لا يُقدّم، رغم تضمينه شعارات وعناوين كبيرة، أيّ قيمة مضافة بالنسبة إلى القوانين سارية المفعول. وهو حكماً لا يلبي الشروط التي طالب بها صندوق النقد.

وتعكس هذه المعطيات وجود ممانعة نيابية واسعة حيال رفع السرية المصرفية أو التضييق من مجالها، وهي ممانعة تندرج عموما بشكل أو بآخر تحت عقيدة ما زالت تعدّ المس بهذه السرية بمثابة مؤامرة ضد لبنان. 

رفع السرية “مؤامرة”      

بحسب المعطيات التي رافقت الملف منذ سنتين حتى اليوم، يبدو أن عبارة نائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي، الذي سبق أن اعتبر أنّ رفع السرّيّة المصرفية يشكّل انقلابا على المصلحة العليا  و”مؤامرة” ضدّ لبنان (4 تشرين الثاني 2020)، لا تزال تُعبّر عن عقيدة أهل السلطة، الذين لطالما احتموا بالسرية المصرفية.

التحذير من المؤامرة، قولاً وفعلاً، لا يعني سوى أن المجلس النيابي يريد الاستمرار بحماية الجرائم المالية، التي عادة ما تنشط في الدول التي لها قانون صارم وحازم بشأن سرية المعاملات المصرفية، والعكس صحيح. وعلى الرغم من أن السرية المصرفية تُشكّل      عقبة في وجه مكافحة بعض الجرائم المالية وعمليات تبييض الأموال، فإن لبنان ما زال يتشبّث بالمحافظة على هذه السرية، بما يضمن استمرار حماية الجرائم المالية. علماً أن الحريصين على السرية المصرفية بوصفها من مميزات لبنان يتغاضون عمداً عن حقيقة أن القانون لا يطال كل الناس ولا يُؤثّر على المودعين الخارجيين، كما يُحاول البعض الإيحاء في معرض اعتباره أن القانون سيجعل هؤلاء يُحجمون عن إيداع أموالهم في لبنان. فهو يطال بأحكامه الموظفين العموميين أو المتعاملين مع الدولة، إضافة إلى الشخصيات المعرّضة سياسياً، أي المستفيدين من المال العام.

وكان من اللافت أنّ المجلس النيابي قد برّر في  جلسته المنعقدة في 28 أيار 2020 رفضه منح النيابات العامة أيّ صلاحية في رفع السريّة المصرفيّة عن هؤلاء بأنّ القضاء مسيّس وغير موثوق. وقد      سجلت المفكرة آنذاك وجود ما يشبه الجوقة النيابية لإبراز هذه الحجة حيث أثنى أكثر من نائب على كلام النائب أبو فاعور بقوله: “أننا لا نثق بهذا القضاء”، كما أيده النائبان أنور الخليل وهادي حبيش وآخرون طالبوا بنزع صلاحية رفع السرية المصرفيّة من القضاء. وبناء، عليه، جرد القضاء من أي صلاحية في رفع السرية ليعاد تأكيد حصرها بهيئة التحقيق الخاصة مع إعطاء صلاحية طلب رفعها إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (التي لم تكن موجودة آنذاك). وقد أدّى ذلك إلى إفراغ اقتراح القانون تماما من مضمونه وجعله بمثابة لزوم ما لا يلزم.

حق القضاء في رفع السرية؟

في 19 حزيران 2020، ردّ رئيس الجمهورية عملا بصلاحياته الاقتراح، مُعتبراً أنه لا يجوز استبعاد القضاء عن حق طلب المعلومات المصرفية، انطلاقاً من أنه السلطة الضامنة للمتقاضين وحقوقهم وحرياتهم، كما حقوق المجتمع عليهم. ولذلك، رأى في كتاب الرد أنه لا بد من إعطاء النيابات العامة صلاحية طلب المعلومات المالية المتعلقة بمختلف أنواع الجرائم، لا سيما أن ثمّة جرائم لا تدخل في اختصاص هيئتي مكافحة الفساد والتحقيق الخاصة.

مرّت سنتان تقريباً منذ إقرار القانون ثم رده، من دون أن يُعرض على الهيئة العامة لمجلس النواب. علماً أن مرسوم الردّ شدّد على وجوب إجراء تعديل وحيد على القانون الذي سبق أن أُقرّ، وهو متعلّق بصلاحية القضاء رفع السرية المصرفية، بما يتعارض تماما مع ما ذهبتْ إليه الهيئة العامة لمجلس النواب. استغرق النظر في هذه الملاحظة سنة ونصف تقريبا، وهي مدة تظهر الحرج الذي وقعت فيه لجنة المال والموازنة، والتي يرأسها نائب ينتمي إلى التيار الوطني الحرّ.

فكانت اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال قد عقدت ثلاث جلسات بين 29/4/2021 و7/7/2021 لدرس مرسوم إعادة القانون المتعلق بتعديل قانون سرية المصارف. وبحسب تقرير لجنة المال الصادر في 21/10/2021، اعتبر رئيس اللجنة ابراهيم كنعان أن وجود المراجع الثلاثة في القانون (القضاء والهيئة التحقيق الخاصة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد). هو من أجل توسيع الرقابة، وخاصة في الظروف الراهنة وما تعانيه كافة القطاعات، ما يتطلب تشريعات وتشدد رقابي، وبالتالي الهدف هو توسيع الرقابة على الموظف العمومي. لكن التدقيق في النص الذي خلصت إليه لجنة المال والموازنة إنما يظهر أنّ هذه الرقابة لم تشدّد قط. بل بإمكاننا القول بأن الصيغة التي خلصت إليها هذه اللجنة لا تعدو كونها صيغة ديبلوماسية تمنح بالظاهر القضاء صلاحية رفع السرية المصرفية إرضاء لرئيس الجمهورية، من دون أن تمنحه (أي القضاء) صلاحية فعلية ذات شأن.

فبحسب تعديلات لجنة المال المقرّة في جلستها التي عقدت في 11/10/2021، أضيف إلى الفقرة الثالثة من المادة الأولى، التي تشير إلى الجهات التي لا يجوز للمصارف رفض طلباتها برفع السرية المصرفية، وهي:

  • القضاء المختص، فيما يخص جرائم الإثراء غير المشروع وفقاً للإجراءات المنصوص عليها في القانون رقم 189/2020 (قانون الإثراء غير المشروع) وجرائم تمويل الحملات الانتخابية.
  • هيئة التحقيق الخاصة المنشأة بموجب بموجب القانون رقم 318/2001 (قانون مكافحة تبييض الأموال)، فيما خص الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 44/2015.
  • الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، المنشأة بموجب القانون رقم 175/2020، وفقاً للآليات المنصوص عليها فيه.

ماذا يعني ذلك؟ ببساطة يعني أن التعديل يخلو من أي إضافة ذات شأن. إذ أن القوانين الحالية تعطي القضاء صلاحية رفع السرية المصرفية فيما يخص جرائم الإثراء غير المشروع بموجب المادة 7 من قانون السرية المصرفية وذلك منذ تاريخ إقراره في 1956. أما ما يتعلق بجرائم تمويل الحملات الانتخابية، فهذه صلاحية تقتصر على عدد محدود جدا من الجرائم المحددة ولا تشمل عمليا إلا الرشاوى التي يستبعد جدا حصولها من خلال الحسابات المصرفية.

كذلك لا قيمة للإشارة إلى صلاحية الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كون هذه الصلاحية رُبطت ب”الآليات المنصوص عليها” في قانون إنشائها. وهذه الآليات تعني ببساطة أن الهيئة لا يُمكنها أن تطلب من المصارف رفع السرية مباشرة، بل يتطلب الأمر موافقة هيئة التحقيق الخاصة أيضاً. فالمادة 19 من القانون رقم 175/2020 تنص على أنه “إذا ارتأت الهيئة خلال الاستقصاءات التي تقوم بها أنه من الضروري التحقيق في حسابات مصرفية معينة، لها أن توجه طلباً معللاً إلى «هيئة التحقيق الخاصة» الـمنصوص عليها في القانون الـمعجل رقم 44/2015 الـمتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب لتمارس هذه الاخيرة صلاحياتها الـمنصوص عليها في القانون الـمذكور. في حال قررت هيئة التحقيق الخاصة رفع السرية الـمصرفية عن الحسابات الـمعنية، يتم ذلك أيضاً لصالح الهيئة”.      

خلاصة

بالمحصلة، يتبين أنه في حال أقر المجلس الاقتراح بصيغته الأخيرة أو لم يقره، فإن الأمر سيّان، لأن عملية رفع السرية المصرفية ستبقى محصورة بهيئة التحقيق الخاصة. علماً أن صلاحيات هذه الهيئة كانت واسعة وأعيد توسيها بعد تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال في عام 2015، ليشمل التحقيق في كل ما يندرج تحت عنوان “الأموال غير المشروعة” والتي تتخطى جرائم تمويل الإرهاب وتبييض الأموال لتصل إلى جرائم الفساد، بما في ذلك “الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع والسرقة وإساءة الائتمان والاختلاس والاحتيال”. وهذه الصلاحية تشمل إجراء التحقيقات وتقرير مدى جدية الأدلة والقرائن على ارتكاب الجرائم واتخاذ القرار المناسب بشأنها ولا سيما التجميد الاحترازي المؤقت للحسابات و/ أو للعمليات المشتبه فيها.

لكن، بحسب التجربة فإن هذه الهيئة لا تستعمل إلا نادرا هذه الصلاحيات. فهي سبق أن رفضت طلب الكشف عن حسابات الهبات، بالرغم من أن هذه الحسابات هي حسابات عامة (أعلن رئيس لجنة المال ابراهيم كنعان رداً على سؤال للـ OTV، في 16 تشرين الثاني 2020 أنه “راسل شخصياً مصرف لبنان أكثر من 20 مرة للاطلاع على حسابات الهبات وسواها، وكنا في كل مرة نواجه بالسرية المصرفية”). ورفضت طلب المدعي العام التنفيذي لائحة بأسماء الذين حوّلوا أموالاً بعد 17 تشرين. ورفضت طلب “نادي القضاة” التجميد الاحترازي لحسابات كل السياسيين والموظفين الكبار والقضاة وكل من يتعاطى الشأن العام وشركائهم والمتعهدين وهو الطلب الذي …كما رفضت طلب النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون برفع السرية المصرفية عن الأشخاص المتورطين في قضية سوناطراك.

باختصار، يتضح مما سبق أن رفض منح القضاء صلاحيات واسعة لرفع السرية المصرفية لإعادة حصرها في هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، إنما يعني عملياً نسف أساس الاقتراح ومعه أي إصلاح مرجو منه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، البرلمان ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، مصارف ، تشريعات وقوانين ، استقلال القضاء ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني