“رأيي مش جريمة”: وقفة حرية جديدة


2023-08-11    |   

“رأيي مش جريمة”: وقفة حرية جديدة
صورة من اللقاء الذي عقد في 8 آب 2023 لاطلاق الحملة

أطلقتْ منظمة العفو الدولية بالتعاون مع “تحالف حربّة الرأي والتعبير” أمس حملةً تحت عنوان: “رأيي مش جريمة”، وهي حملة تهدف إلى إلغاء تجريم الذم والتشهير ومعه قوته الرادعة، على أن يحاسب أي تجاوز لحدود الحرية بصورة مدنية، أي من خلال التعويض عن الضرر الذي قد يكون تسبّب به. 

هذه المبادرة تستدعي الملاحظات الآتية: 

مبادرة البحث عن الزمن المهدور

أول ما نلحظه هنا أن توجّه هذه المبادرة ليس جديدا وإن حجبَ النسيان المواقف السابقة التي كانت ذهبت في الاتجاه نفسه. وفي هذا الإطار، يهمني أن أذكر بشكل خاص بموقفين تم تسجيلهما في الهيئة العامة لمجلس النواب في 1970 أي منذ 53 سنة، وذلك في سياق مناقشة مشروع قانون عفو عامّ عن جرائم المطبوعات. وكانت الحكومة اللبنانية قدّمت هذا المشروع في أول عهد الرئيس سليمان فرنجية بعدما كان المجلس النيابي أقرّ 4 قوانين عفو عامّ مشابهة في السنوات السابقة في عهد الرئيس السابق له شارل حلو.  

هذان الموقفان صدرا تباعا عن النائبيْن الراحليْن رينيه معوض وسميح عسيران، وقد ورد فيهما حرفيا الآتي: 

رينيه معوض: “أريد أن أذهب أيعد من ذلك (أي أبعد من العفو العام)، والسبب هو أن جميع الحكومات المتعاقبة على الحكم تأتينا من وقت إلى آخر بعفوٍ عن جرائم المطبوعات حفاظا منها على الصحافة وعلى تمكينها من المهمة الموكولة إليها. لذلك أرجو أن يوافقني المجلس على حذف كلّ ما يسمى جرائم المطبوعات وأن يلغى أيّ نص قانوني يتعلق بعقوبات جرائم المطبوعات بعد اليوم. بل نكتفي بالمحافظة على الحقوق الشخصية والعطل والضرر كما هي (الحال) في البلدان الراقية كإنكلترا حيث تبلغ (التعويضات المحكوم بها) أرقاما تتناسب مع القدح والذمّ”.

سميح عسيران: “لماذا مجلس النواب يريد أن يعفو عن الجرائم الصحفية؟ أعتقد أن هذا إيمانًا منه بإعطاء الحريّات الكاملة عملا بالنظام الديمقراطي. أما والحال على ما هي عليه، فإنني أقترح حتى لا نضيع الوقت كل يوم، في البحث بإصدار عفو عن جرائم المطبوعات، أن نلغي الجريمة نهائيا ونلغي عقوبة الجسد والحبس عن الصحافيين، وتنحصر فقط بالتعويضات الشخصية. ولا يمكنني أن أفسّر أن هذا الأمر رشوة للصحافيين، معاذ الله، باعتبار أن الحاكم يمكنه كلّ يوم أن يمنحهم هذا العفو، وبذلك يربح هذه الأقلام التي في هذه الحال لن تكون حرة فيما بعد. فالأفضل أن ننتهي من هذه القصة، خاصة وأن البلدان الراقية تمنع السجن وتمنع الحبس الجسديّ عن رجال الفكر. فإنني أقترح أن يعلّق البحث في هذا المشروع ريثما يتمكن وزير الأنباء أن يقدم تعديلا بإلغاء قضية العقوبة الجسدية عن الصحافيين والاكنفاء فقط بقانون المطبوعات بأن ينحصر في التعويضات الشخصية وأن تكون هذه التعويضات متروكة لأمر وتقدير المحاكم اللبنانية”. 

نستشفّ من هذين الموقفين ليس فقط قناعة صاحبيْهما بوجوب إلغاء العقوبات الجزائية في التعامل مع الصحافة إنما أيضا وجود شعور متنامٍ في أوساط القوى السياسية الحاكمة آنذاك (الحكومات والمجلس النيابي) على عدم ملاءمة الحكم بهذه العقوبات أو على الأقلّ تطبيقها، بدليل استصدار عدد من قوانين العفو العام تباعا. بالطبع، بقيت هذه التوجّهات والمواقف محصورة في ما يتصل بالمواد المنشورة في المطبوعات، على اعتبار أن المطبوعات كانت تحتكر آنذاك النقد وكشف الحقائق، في زمن سابق للزمن الإلكتروني. وللأسف، ابتدأت حرب 1975-1990 قبل أن يتسنّى لهذا التوجه أن يشق طريقه في التشريع.            

مبادرة مهمّة في توقيتها

تأتي هذه الحملة من حيث توقيتها بمثابة ردّ على تنامي الملاحقات ضدّ ناشطين مدنيّين وسياسيّين على خلفيّة انتقادهم مسؤولين سياسيين أو أحزابا سياسية، وبخاصة ابتداء من أوائل نيسان 2023. كما تأتي في زمن تعرّض فيه الشعب اللبناني لانتهاكات جسيمة وشاملة طالت الغالبية الكبرى من المواطنين، من دون أن تثمر أي من جهود المحاسبة. فكأنما هي تأتي لإعادة الاعتبار للحرية والمساءلة، في اتّجاه يناقض تماما الاتجاه الذي تتّجه إليه عجلات الدولة. وليس أدلّ من ذلك شيطنة الحرية في الندوة التي انعقدت في منبر نقابة المحامين في بيروت بحضور وتمثيل 3 وزراء تحت راية شعار ما فتئ نقيب المحامين ناضر كسبار يكرره: “كم من الجرائم ترتكب باسم الحرية؟” 

ويُشار إلى أنه بخلاف ما كان يحصل في فترة ما قبل الحرب حيث كانت الصحافة والمحرّرون فيها محور معركة الحرية، فإن محور هذه المعركة اليوم هي وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعة من الناشطين الذين يعبّرون عن اعتراضاتهم لسياسات السلطة الحاكمة والطبقة السياسية المهيمنة. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أنّ معارك الحريّة في مجال المطبوعات نجحَتْ في تحقيق مكاسبَ كبيرة أهمّها إلغاء التدابير الفوريّة التي يمكن للنيابة العامّة أو القضاء أو السّلطة التنفيذيّة اتّخاذها بحقّ المطبوعات والمحرّرين العاملين فيها قبل انتهاء المحاكمة، وهي مكاسب لا يستفيد منها الذين يعبّرون عن آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

شعار الحملة: رأيي مش جريمة

ما هي فوائد إلغاء تجريم أفعال الذمّ والتّشهير؟ 

بقي أن نحدد الفوائد الناجمة عن إلغاء تجريم أفعال الذمّ والتشهير، وأبرزها ثلاث: 

أولا، عدم استخدام السلطة العامة في معارك الكرامات الشخصيّة: 

الفائدة الأولى والناجمة عن إلغاء التجريم عن الذمّ هي التسليم أنّ الذمّ أو التشهير يمسّ حقوقًا فردية (الحقوق بالكرامة) من دون أن يبلغ مبدئيا من الخطورة ما يستدعي تدخّل المجتمع. وعليه، ترمي المبادرة عمليا إلى تجريد النيابة العامة (التي تمثل حقوق المجتمع وتدافع عنها) من إمكانية استخدام سلطتها العامة للدفاع عن كرامات الأشخاص الذين طالهم الذمّ أو التّشهير، وتاليا إمكانيّة فرض سقف على ممارسة حرية التعبير.  فأيّ ادعاء بالتشهير إنما يضع وجها لوجه حرية التعبير (وحدودها) والحق بالسمعة، ويفرض الموازنة بينهما من قبل المحكمة المختصة دون أن يكون للنيابة العامة (أو بشكل أعم السلطة) أن تنحاز أو تتدخل لدعم الحق بالسمعة في مواجهة حرية التعبير. وتزيد الفائدة المرجوة من هذه المبادرة بفعل عاملين إثنين: 

  • النظام السياسي القائم والذي يتمثل في إعلاء مقام الزعامات، بحيث يصوّر أي مسّ بها أو بمن يتصل بها على أنه مسّ بالطائفة التي يمثلها، كل ذلك في نظام يقرب إلى الأوليغارشية ويبعد عن الديمقراطية. وهذا ما توسعت المفكرة القانونية في تبيانه في عدد كامل حول حرية التعبير حمل عنوان: “القمع ليس حيث تنظر: نظام المقامات”. وليس أدلّ على ذلك من المواجهة التي شنتها القوى السياسية تبعا للادعاء على عدد من الوزراء السابقين وكبار الموظفين في قضية المرفأ، على خلفية الدفاع عن كرامات هؤلاء، إلى حدّ تعطيله بالكامل. ومن هذا المنظار، يسهم إلغاء التجريم عن  المسّ بالمقامات في تحجيمها وفي تعزيز مقومات البناء الديمقراطي.  
  • ممارسات النيابة العامة التمييزية التي تحولت بما لها من وسائل وسلطة عليا على مجمل النيابات العامة إلى سند للمقامات ضدّ أي تعرض لها، بما يضع بخدمتها أعلى مراكز النيابة العامة وأقواها. ففيما يفترض أن النيابة العامة التمييزية تحقق فقط في الجرائم الأكثر خطورة، شهدنا في العقود الأخيرة لجوء القوى السياسية بانتظام إليها لتقديم شكاويهم على خلفية ما اعتبروه تعرضا لسمعتهم. وبدل أن تضع النيابة العامة التمييزية حدا لهذه الممارسة على خلفية أن التعرض للسمعة ليس من بين الجرائم الأكثر خطورة، فإنها على العكس من ذلك انسجمت معها مخصصة جزءا هاما من طاقاتها ومواردها للتحقيق في هذه الشكاوى. وهذا الأمر هو الذي دفعنا إلى إطلاق تسمية جديدة على النيابة العامة التمييزية وهي النيابة العامة الامتيازية، بمعنى أنها النيابة العامة التي يملك أصحاب النفوذ وحدهم “امتياز” اللجوء إليها بهدف الحصول على انخراط أعلى ممثلي حقوق المجتمع بدعم شكاويهم في مواجهة من يتجرأ على التعرض لهم.      

ثانيا، لا تدابير أو عقوبات فورية 

الفائدة الثانيّة لإلغاء التجريم هو الحؤول دون تجريد السلطة العامة (ممثّلة بالنيابة العامة) من إمكانية اتخاذ تدابير أو عقوبات فورية. وهذا ينطبق بشكل خاصّ على الجرائم التي لا يشملُها قانون المطبوعات، حيث يبقى التوقيف الاحتياطيّ ممكنا. هذا فضلا عن الممارسات المعتمدة داخل المخافر حيث يتم التلويح بإمكانية التوقيف الاحتياطي حتى في الحالات التي لا تزيد العقوبة فيها عن سنة حبس، أي في الحالات التي لا يكون فيها التوقيف الاحتياطي ممكنا سندا للمادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة. وهذا ما تمّ توثيقُه في عدد من الاستدعاءات الحاصلة مؤخّرا حيث تمّ وضع ناشطين نقابيين أو سياسيين (نسرين شاهين وجينا شماس) أمام خيار الاعتذار أو حذف تعليقاتهم موضوع الملاحقة أو على الأقل التعهد بعدم التعرّض مستقبلا تحت طائلة توقيفهم احتياطيأ. وقد نقل بعض هؤلاء التهويل الذي اعتمده المحققون حول ظروف الاحتجاز في النظارات. بمعنى أن هؤلاء الناشطين وضعوا بفعل تجريم الذم والتشهير أمام واجب الاختيار بين حريتهم بالتعبير وحريتهم الشخصية بشكل يستبق ما قد يتوفر لهم من وسائل وحجج دفاع إبراءً لمسؤوليتهم. ولا نبالغ إذا قلنا أنهم وضعوا بفعل ذلك في وضعية “ابتزاز” وتهويل.

وعلى نقيض ذلك، يكون في حال نجاح المبادرة، بإمكان الشخص موضوع الملاحقة أن يدافع وهو بصحبة محامٍ عن أحقيته بقول ما قاله أمام المحكمة من دون أن يستشعر أيّ ضغط فوري على حريته الشخصية، هذا فضلا عن أن من شأن إلغاء العقوبة الجزائية أن يحرره من تهديد عقوبة الحبس أيضا. 

ثالثا، أن تصبح العقوبة متناسبة مع الضرر الجدير بالحماية 

الفائدة الثالثة من إلغاء التجريم والتي يجدر لفت النظر إليها هي أنّ من شأنه أن يؤدّي إلى جعل العقوبة متناسبة مع الضرر، علما أن الضرر الوحيد الذي يؤخذ بعين الاعتبار هو الضرر الجدير بالحماية وفق قواعد القانون المدني. بهذا المعنى، لا يحضر المدّعى عليه وحده إلى المخفر فيما قد يبقى المدعي في برجه العاجي، بل تنعقد المحاكمة بحضور الطرفين، لتصبح بمثابة مبارزة بين من يدافع عن حريته وأحقيته بقول ما قاله (وعمليا بأن ما قاله يدخل ضمن حدود حرية النقد المباح) ومن يدلي بحصول اعتداء على كرامته وسمعته بما يتجاوز هذه الحدود. وبفعل هذه المبارزة، سيكون بإمكان المدّعى عليه حسن النيّة أن يحوّل في سياق دفاعه عن نفسه المحاكمة إلى فرصة جديدة للمجاهرة برأيه وانتقاد المدعي والكشف عما لديه من وثائق تدعم ما قاله وتبرره، من دون أن يستشعر أي ضغط. وستكون تاليا مهمة المحكمة الموازنة بين حرية التعبير والحق بالكرامة، وهي مهمة تفرض عليها بالدرجة الأولى النظر فيما إذا كان الدفاع عن المصلحة العامة يبرّر التضحية بالحق بالكرامة، وتاليا النظر فيما إذا كان القول موضوع المحاكمة ردة فعل محقة ضد ما فعله المدّعي نفسه، مما يجعله قانونيا مسؤولا عن الضرر الذي أصابه ويفقده أي حماية قانونية.  

فضلا عن ذلك، يقود تغيير طابع العقوبة من عقوبة جزائية إلى عقوبة مدنية المحكمة إلى النظر بحجم الضرر الذي يدلي به المدعي على فرض صحة دعواه. ومن شأن ذلك أن يخفّف من لجوء الشخصيات العامة إلى المحاكم طالما أن بإمكان هؤلاء الذين لديهم سهولة وصول إلى منابر عدة أن يلغوا الضرر أو يخففوه من خلال توضيح وجهات نظرهم ودحض الانتقادات الموجهة ضدهم على هذه المنابر. ومن شأن ذلك أن يقود المحكمة إلى تحديد التعويضات المحكوم بها على ضوء قدرة المتضرر من الوصول إلى المنابر، وعمليا إلى تخفيض قيمة التعويضات بالنسبة إلى مجمل الشخصيات العامة، بما يعزز ممارسة حرية التعبير ويخفف العوائق أمامها.          

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني