شيطنة الحرية على منبر نقابة المحامين: “حذار الجرائم التي ترتكب باسمها”


2023-05-11    |   

شيطنة الحرية على منبر نقابة المحامين: “حذار الجرائم التي ترتكب باسمها”
جانب من الندوة

نظّمت “لجنة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان” في نقابة المحامين في بيروت، ندوة تحت عنوان “الحقّ والحريّة قيمتان وجوديّتان مسؤولتان”. ندوة يوحي عنوانها بأنّها ستناقش مواضيع ترتبط بالحرية والحقوق، مواضيع أثارت جدلًا في الآونة الأخيرة، وبشكل خاص التعديلات التي أقرّها مجلس نقابة المحامين على نظام آداب المهنة والتي وضعت تحت خانة كمّ أفواه المحامين، وتعميما وزارة العدل للقضاة اللذان وضعا في خانة كم أفواه القضاة، أو أيضًا حريّة الإعلام في ظلّ حملة الاستدعاءات الأخيرة وما يتعرّض له الصحافيون من انتهاكات.

أيّ من هذه المواضيع لم يُناقش في الندوة، مع العلم أنّ المتحدثين الذين تمّ اختيارهم معنيّون بشكل مباشر بها، بدءًا من وزراء العدل هنري الخوري والثقافة محمد مرتضى والداخلية والبلديات بسام المولوي (مثّله محافظ بيروت مروان عبود) وصولًا إلى نقيب المحامين في بيروت ناضر كسبار. ومن المتحدثين أيضًا رئيس لجنة الدفاع عن الحريات في النقابة عبدالله عبد الساتر وعضو مجلس النقابة الكسندر نجار الذي كان جالسًا على منصة المتحدثين من دون أن يكون له أيّ مداخلة. وكان نجّار ذكر في الدعوة الموجّهة إلى المحامين المتدرّجين وكونه رئيس محاضرات التدرج، أنّ الحضور إلزامي لهم على أن تحتسب المحاضرة بمثابة محاضرتين، ما أوحى أيضًا أنّ الندوة ستحمل نقاشات ومعلومات ذات أهميّة حقوقية أو قانونية فائقة.

بدت الندوة التي لم يُفتح خلالها المجال لأيّ نقاش مع الحاضرين، مزيجًا بين أمسية شعرية ومحاضرة أكاديميّة نظريّة. أمسية استعار مقدّمُها المحامي حسين فياض من كتب التاريخ ومناهل اللغة قصصًا وعبارات تمجّد المتحدثين باعتبارهم حماة الحريّات والقضاء والحقوق بشكل يُشعر المستمع بمبالغة واضحة، وتبجيل غير مبرّر، إلّا إذا ما تمّ ربط الأمر بمفهوم “المقامات” التي تحدّث كسبار غير مرّة عن وجوب احترامها.

أمّا اعتبار الندوة محاضرة نظرية وأكاديميّة فنابع من محتوى كلمات المتحدثين الذين استفاضوا بالحديث عن مفهوم الثقافة والحريات العامة والقوانين الدولية التي يلتزم بها لبنان والإجراءات المحليّة، وكلّ هذا بشكل منفصل عن القضايا الآنيّة، وكأنّ الهدف تغذية شعار الحريّة كشعار فقط، وتجفيف النقاش العام الذي وضع هؤلاء المتحدثين مؤخرًا في موضع تساؤل بسبب مواقف وقرارات اتخذوها في هذا المجال. ويقودنا أيضًا اعتماد المتحدثين على النظريات والمفاهيم العامة مرّة أخرى إلى موضوع المقامات إذ لا يمكن فهم عدم محاولتهم شرح ومناقشة القرارات التي اتّخذوها مؤخرًا والتي أدانتها جهات حقوقيّة، إلّا من منطلق من يرى نفسه غير مضطرّ للشرح لأنّه يملك السلطة ولا يحتاج إلى الحجّة.

 ولم يخلُ الذهاب إلى الأكاديميّة والنظريّات العامة بطبيعة الحال من مواقف وعبارات توحي بمخاطر الحريّة إذ ذكّر المتحدثون بين الحين والآخر خلال كلماتهم بإمكانيّة “تحوّل الحريات إلى فوضى” و”مساحة تتراوح بين الفضيلة والفوضى” و”معيار التوازن بين الحرية والقانون” وبضرورة المواءمة بين “الحقوق والحريات والقيم التي نشأنا عليها”. وهذا يطرح سؤالًا عن هدف الندوة الذي ربما يمكن استخلاص جوابه من كلمة وزير العدل الذي قال للحضور ومعظمهم من المحامين: “لا تتذمّروا من الضوابط التي وضعها القانون”. كما يمكن طرح سؤال عن توقيت الندوة إذا لم ترد مناقشة القضايا الراهنة المتعلقة بالحريّة، لا سيّما أنّها أتت في وقت ما برح المحامون ينتظرون قرار محكمة استئناف بيروت في الطعن بتعديلات نظام آداب المهنة التي تخضع حريات المحامين للرقابة المسبقة.

بداية الندوة كانت مع وزير الثقافة محمد مرتضى الذي وصف النقيب بالـ “الصديق العزيز” والنقابة بـ “قلعة الحرية”. وحاول مرتضى وحسب ما قال خلال كلمته “طرح أسئلة أكثر من إعطاء أجوبة”، أسئلة حول الثقافة العامة للحريات المسؤولة، ومفهوم الثقافة والحضارة والإبداع الثقافي من دون أن ينسى الحديث عن “مساحة تتراوح بين الفضيلة والفوضى” وعن إشكاليات تتعلّق بسؤال يتكرّر بكل المجتمعات عن إمكانية “إنقاذ الحرية من أن تصير فوضى”.

وزير الثقافة نفسه تحدّث أيضًا عن الإبداع الثقافي الذي “يسير عكس السير” و”يتجاوز الإشارات الحمراء” ويقف “في الأماكن الممنوعة” وعن قمع “مصلحين كبار على مر التاريخ ممّن لا مجال لاستعادة أسمائهم أو بعضهم لضيق الوقت” من دون أن يبرّر أو يتطرّق حتّى إلى تغريداته التي أثارت جدلًا كبيرًا عقب حادثة الطعن التي تعرّض لها الروائي والكاتب سلمان رشدي والتي بدت بمثابة تبرير للحادثة. وكان مرتضى اعتبر في تلك التغريدات أنّ: “حرية القول ينبغي لها أن تكون مهذبة” وأنّه “يجبُ أن يعرفْ أنه لولا آيات الله وجهاد أبنائهم وحلفائهم ضد الظلامية والظلم والطغيان على جبهات الدم الممتدة وِسعَ هذا الشرق، لما بقي لنا مكان على هذه الأرض ولكان جل الرجالِ شهداء وكثيرٌ من النساءِ سبايا لدى أعوان الشيطان”، الأمر الذي وضع في خانة تأييد طعن رشدي.

أمّا وزير العدل هنري الخوري، فكانت مداخلته أشبه بدرس عن الاتفاقيات والمعاهدات التي وقّع عليها لبنان والتي تتعلّق بحماية الحقوق والحريات وعن تكريس الدستور لهذه الحقوق و”ريادة لبنان في هذا المجال” من دون أن يعني ذلك “أنّنا وصلنا إلى مرحلة الكمال أو أنّنا بمنأى عن بعض المخالفات”.
وعدّد الخوري تلك المعاهدات ليخلص إلى أنّ “حرية التعبير وحرية الصحافة في لبنان لا مثيل لها في البلدان العربية” مع استدراك بأنّها “ضمن الضوابط التي وضعها القانون من أجل المواءمة بين الحريات من جهة والحفاظ على كرامة الإنسان وحياته الخاصة من جهة أخرى”. واعتبر أنّ “القضاء هو الحامي الأول للحقوق والحريات العامة والفردية المكرّسة قانونًا إذ إنّه “غني عن البيان أنّ السلطة القضائية خارج الشكّ في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة” من دون أن ينفي وجود “خلل أو مخالفات” من قبل بعض القيّمين على احترام الحريات والحقوق، “إلا أنّ هذا الخلل يبقى ضمن المخالفات الفردية التي لا يجوز تعميمها أو تصويرها كأنّها سياسة دولة لا تبالي بالحقوق والحريات الأساسية لأنّ في ذلك ظلما”.

وزير العدل رأى أنّ “الحق من دون ضوابط تجنٍّ على الحرية” و”الفوضى والانسياق الأعمى خلف الأفكار الجديدة من دون وعي وحكمة وتهور”، مشددًا على ضرورة مواءمة الدولة “بين المحافظة على حقوق الإنسان وحريته الشخصية من جهة وبين البقاء على الثوابت الثقافية والعائلية والاجتماعية من جهة أخرى”. ولم يتطرّق إلى تعميميه للقضاة، رغم أنّه كان من البديهي فعل ذلك باعتبار أنّ التعميمين مثال واضح للإشكاليات التي طرحها، لا سيّما أنّهما لقيا اعتراضات واسعة من حقوقيين وبخاصّة من نادي قضاة لبنان (الذي اعتبرهما بحكم غير الموجودين)، ومن المفيد فتح نقاش حولهما في ندوة عنوانها الحقوق والحريات.

وكان الخوري وجّه في تاريخ 26 نيسان 2023 تعميميْن للقضاة كافة، نصّ الأوّل على وجوب امتناع القضاة عن الظهور الإعلامي بجميع أشكاله وعن اتخاذ أي موقف علني على أي منصّة إعلامية أو إلكترونية أو غيرها من دون الحصول على إذن مسبق من المرجع المختص. أما التعميم الثاني فقد طلب من القضاة عدم التواصل المباشر وغير المباشر مع أي سفارة أو منظمة حكومية وغير حكومية أو أي جمعية بهدف المشاركة في ندوات أو ورش عمل في الداخل أو الخارج أو أي سبب آخر قبل تقديم طلبات بذلك من الجهة الداعية إلى وزير العدل وفقًا للأصول القانونية. كما فرض التعميم نفسه على القضاة الاستحصال على إذن مسبق بالسفر قبل عشرة أيام على الأقل من الوزير.

وكان ائتلاف استقلال القضاء في لبنان اعتبر أنّ التعميم الأوّل يهدف إلى “كمّ أفواه القضاة” والتعميم الثاني “إلى عزل القضاة عن أي تواصل مع أي جهة خارج القضاء، على نحو يحبس القضاة بالصمت والعزلة، وهي الشروط المثلى لممارسة الضغوط عليهم”. 

المواءمة التي تحدّث عنها وزير العدل استبدلت بكلمة “توازن” في كلمة محافظ بيروت مروان عبود الذي اعتبر أنّه من أصعب الأمور  التي يمرّ بها البلد هو الحفاظ على “معيار التوازن بين الحرية والقانون” وأنّ هذا المعيار “فقد توازنه مع وسائل التواصل وغزوة أجهزة الإعلام على حياة الناس” وأنّ “حجم الحرية زاد بسبب الغزوة التكنولوجية”. لذلك طلب عبود من وزير العدل ونقيب المحامين في بيروت “العمل على استعادة التوازن” لأنّ “عدم التوازن يمسّ بعمل الأجهزة الأمنية وعمل القضاء” ولأنّ  “كل المشاكل التي يعانيها القضاء هذه الأيام سببها اختلال التوازن والنزعة نحو الشعبوية عند معظم رجالات الدولة وعند معظم الأفراد الذين يتعاطون بالشأن العام”.

وهذا أيضًا ما لمّح إليه رئيس لجنة الدفاع عن الحريات في النقابة عبدالله عبد الساتر الذي تحدّث عن دور النقابات وتحديدًا نقابة المحامين في قيادة معركة حماية الحريات العامة باعتبارها أفضل المخوّلين لذلك.

ما قاله عبود أوضح أنّه من كلمته الخاصّة، أمّا الكلمة التي تلاها بالنيابة عن وزير الداخلية بسام المولوي فأكّدت أنّ “الحرية لا تتحقّق إلّا من خلال التزام المواطن بالقانون” شارحًا أنّ “السهر على الحرية والحق المحمي من القانون تضطلع به القوى الأمنية” التي “لا تعرّض حياة الأفراد (للخطر) بتلافيها اللجوء إلى القوة إلّا في حالات الضرورة القصوى وضمن الحدود اللازمة لإتمام المهام الموكلة إليها”.

وتحدثت كلمة وزير الداخلية والبلديات عن مبادرة “قوى الأمن الداخلي إلى اتباع مدونات سلوك أنجزتها مع الأجهزة الأمنية والعسكرية الأخرى.

ولم تشر كلمة الوزير إلى المخالفات التي ارتكبها عناصر قوى الأمن لا سيّما خلال انتفاضة 17 تشرين والتي لم يحاسب فيها أي من تلك العناصر. وكانت منظمة العفو الدولية اعتبرت مؤخرًا في تقرير جديد مع مؤسسة أوميغا للأبحاث، أنّه “لم تتمّ مقاضاة أيّ من عناصر القوى الأمنية والعسكرية الموكلين مهمة إنفاذ القانون في لبنان لاستخدامهم غير القانوني والمفرط للقوّة ضدّ المتظاهرين خلال المظاهرات المعارضة للحكومة منذ عام 2019”.

كلّ ما لمّح إليه المتحدثون من ضرورة “تقييد الحريّة” جاء فجًّا صريحًا في كلمة نقيب المحامين ناضر كسبار، الذي تحدّث عن “كم الجرائم التي ترتكب باسم الحرية”، مشيرًا إلى أنّه لم يكن لديه “كامل الأدلة الحسية على مضمون هذه العبارة” إلى أن بدأ من أسماهم بـ “المنتفعين والشعبويين وأصحاب المصالح والارتباطات الخارجية” يطلقونها شعارًا “بوجه المحافظين على حرية التعبير”، في تلميح إلى الجدل الدائر حاليًا حول التعديلات والانتقادات التي تعرّضت لها النقابة بعد استدعائها عددًا من المحامين.

ولم يكتف كسبار بإظهار ما يحصل على أنّه معركة بين مدافعين عن الحرية أي النقابة من جهة وبين “منتفعين” من جهة أخرى، بل أيضًا اعتبرها معركة بين من يستطيع أن يضغط “بالكتابة أو بالتظاهر ضدّ القضاء” وقد يكون “على خطأ أو صاحب مصلحة أو مدفوع من قبل آخرين” وبين ضعيف “لا يملك الإمكانيات”، وبين من يعرف “أصول الحرية” ومن “يوصل فكرته بغوغائية أو فوضى”، متسائلًا في هذا السياق عن “مبدأ المساواة”. وقد بدا في ذلك وكأنّه يعتبر أنّه أضعف من القوى التي عارضت تعديلات النقابة، رغم أنّه أحاط نفسه في هذه الندوة بوزراء يمثلون القوى السياسية الأكثر نفوذًا وقوة.

وشدّد النقيب في إشارة واضحة إلى التعديلات الأخيرة، على ضرورة التمييز بين “وضع الضوابط المحقّة” وبين ما أسماه “القمع” و”اللعب على أفكار الناس ومشاعرهم” خصوصًا ممّا “لا يتمتّعون بالعلم الكافي والثقافة الكافية في الموضوع الذي يطرح”. واعتبر أنّ من يودّ الانتقاد عليه الانتقاد بعيدًا عن “تنفيذ أجندات داخلية وخارجية” وأنّه “لا يمكن التحجّج بالتكنولوجيا والتطوّر للقول إنّ كلّ الآراء مسموحة حتى وإن كانت خاطئة ومؤذية ومدمرة”.

بالخلاصة، بدا النقيب وكأنّه يرفض الردّ على الحجج القانونية التي أثارتها المنظمات الحقوقية وعدد كبير من المحامين ضدّ التعديلات بحجج قانونية مضادة، مكتفيًا بإحاطة نفسه بـ “قوّة الوزراء” وبشيْطنة الحرية التي ترتكب الجرائم باسمها وشيطنة كلّ من يدافع عنها.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، نقابات ، حرية التعبير ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني