“خطر الانهيار”: ماذا وراء الخطابات الأجنبية الأخيرة حول تونس؟


2023-04-05    |   

“خطر الانهيار”: ماذا وراء الخطابات الأجنبية الأخيرة حول تونس؟
رسم عثمان سلمي

شهد النصف الثاني من شهر مارس تواترا متواصلا في التصريحات الأجنبيّة المُحذّرة من تفاقم الأزمة الاقتصاديّة والسياسيّة في تونس والتلويح بـ”انهيار شامل” للبلاد في صورة عدم توقيع الاتفاقيات المبرمجة مع صندوق النّقد الدولي. ومع تعدّد بواعث هذه التصريحات الآتية أساسا من الدول الغربيّة، بين تخوّفات من موجات جديدة للهجرة غير النظاميّة نحو السواحل الأوروبيّة، أو دفع السلطات التونسيّة بشكل مُباشر نحو تنفيذ الإجراءات الاقتصاديّة الموجعة التي لطالما تمّ إرجاء الشروع فيها منذ سنوات، فإن مثل هذه التصريحات قد تعكسُ كذلك هواجس الدول الغربيّة من الوضع الاستراتيجي “الرخو” الذي تمرّ به البلاد كما عبّر عن ذلك البرلمان الأوروبي في لائحته الأخيرة. وفي مواجهة هذه التصريحات، ما فتئتْ السلطة في تونس تواصل سياسة الهروب إلى الأمام والتذرّع بحجة السيادة الوطنية للتغاضي عن التوجّه المتواصل نحو إرساء أسس نظام ديكتاتوريّ، والقفز كذلك على تبعات الأزمة الاقتصاديّة التي ازدادت حدّتها خلال الآونة الأخيرة.

الأوضاع في تونس على طاولة مؤسسات الاتّحاد الأوروبي

عُدّ توصيف البرلمان الأوروبي في جلسته ليوم 16 مارس حول الوضع في تونس ب “الانجراف الاستبداديّ”، خطوة مُتقدّمة في تقييم وضع الحريّات وحقوق الإنسان في البلاد، بعد فترة من المواربة في تكييف إجراءات سعيّد السلطويّة. فقد اعتمد البرلمان الأوروبي لائحة تدعو السلطة في تونس للإفراج الفوري عن مدير إذاعة موزاييك الخاصّة نور الدين بوطار وجميع المعتقلين السياسيين في إطار الحملات الأمنية التي استهدفت القوى المعارضة خلال الشهرين الأخيرين. كما تطرّق النصّ إلى المراسيم المُقيّدة للحريّات على غرار المرسوم 54، ومشروع القانون المتعلّق بالمنظمات غير الحكوميّة. وفي السّياق ذاته، انتقد البرلمان الأوروبيّ الإيقافات التي طالتْ عددا من النقابيين خلال الآونة الأخيرة وعمليّة طرد الأمينة العامّة للكونفدراليّة الأوروبية للنقابات إستير لينش.

لهجة البرلمان كانت حادّة كذلك في إدانة التضييقات التي يتعرّض لها المجتمع المدنيّ، والمطالبة بإعادة القضاة المعزولين ووضع حدّ لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكريّة وضرورة تعليق برامج دعم الاتحاد الأوروبي المخصّصة لوزارتيْ العدل والداخلية. ومن المُلاحظ هنا أنّ قرار البرلمان الأوروبي لم يقتصرْ على مجرّد تقديم التوصيات العامّة، بل استهدف الضّغط على عدد من المؤسسات الأخرى داخل الاتحاد، خصوصا منها المجلس الأوروبي والمفوّضية الأوروبية. ضغط تزامن مع بيانات بعض المنظمات الحقوقيّة على غرار منظمة العفو الدوليّة والشبكة الأوروبية- المتوسطيّة لحقوق الإنسان ولجنة الحقوقيين الدوليّة وهيومن رايتس واتش التي أصدرت بيانا مشتركا في 17 مارس يدعو اجتماع مجلس الشؤون الخارجيّة للدول الأوروبية المقرر ليوم 20 مارس للضغط على الحكومة التونسية “حتى توقف قمعها المستمرّ للمعارضة وإلغاء وتعديل كلّ القوانين التي تجرّم الممارسة المشروعة لحريّة التعبير وحريّة تكوين الجمعيّات” ويدعو الاتحاد الأوروبيّ “لاتخاذ استراتيجيّة موحّدة ومتّسقة قائمة على مبادئ حقوق الإنسان للعمل مع تونس”.

مع تركيز البرلمان الأوروبيّ على الملفّ الحقوقي والانتهاكات المسجّلة، بدأ تحرّك عدد من مؤسسات الاتحاد الأوروبي في اتّجاهات أخرى تمليها طبيعة المصالح الاستراتيجيّة لعدد من الدول المؤثّرة داخل الاتحاد، وتتمثّل أساسا في الجوانب الأمنيّة وقضيّة الهجرة. هذا التوجّه أوضحته تصريحات مسؤول السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أمام المجلس الأوروبي التي وصف فيها الوضع في تونس ب”الخطير جدا” سياسيّا واقتصاديّا، ودعوته تونس إلى التوقيع على اتّفاق مع صندوق النّقد الدولي وتنفيذه، خوفا من حصول “انهيار في البلاد” حسب تعبيره، قد يؤدي إلى تدفّق طالبي اللجوء نحو شواطئ الاتحاد والتسبّب في عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. يشكّل هذا التصريح الذي انتقدته وزارة الخارحيّة التونسية في بيانها ووصفته بـ “غير المتناسب” مع الوضع في تونس، ترجمة للهواجس الأوروبيّة الأمنيّة أكثر من المشاغل الحقوقيّة التي تمّ التعبير عنها سابقا. ففي نفس جلسة المجلس الأوروبيّ، التي أدلى فيها جوزيف بوريل بهذه التصريحات، تمّ كذلك تداول التبعات السياسيّة للأزمة الأوكرانيّة على الاتحاد الأوروبيّ بالتزامن مع الوضع في تونس، الذي وُضع كذلك في مرتبة التهديد الاستراتيجيّ لأمن الاتحاد.

طوق نجاة للسلطة أم جرعة أخرى من الضّغط؟

“تكثّف” وتيرة التصريحات حول تعقيدات الأزمة في تونس، لم تُصاحبه إجراءات عمليّة من الاتحاد الأوروبي للمساعدة في تجاوزها أو التخفيف من تبعاتها، بل سبق لبوريل أن أوضح في تصريحه بأن أي دعم ماليّ للاتّحاد الأوروبي سيكون مشروطا مسبقا بالموافقة على الاتفاق مع صندوق النّقد الدوليّ، وبأنّ حصول هذا الاتفاق هو رهين إمضاء الرئيس سعيّد نفسه. هذا الأمر يعني أنّ الضغط الأوروبي هنا يسعى للاستفادة من تواصل “الارتباك” حول الاتّفاق مع المؤسسات الماليّة الدوليّة لتمرير بعض مشاريعه، ومنها المُتعلّقة بملفّ الهجرة أساسا، مقابل دعم تونس في ملفّها أمام صندوق النقد الدوليّ. وقد تُرجم هذا التوجّه بزيارات متوالية لعديد المسؤولين الأوروبيّين لتونس في الآونة الأخيرة، ومن بينها زيارة وفد الاتحاد الذي ترأسهُ “غرت جان كوبمان”، المدير العام للجوار ومُفاوضات التوسّع، و”يوهانس لوشنر” نائب المدير العام للهجرة ولويجي سوريكا، المبعوث الخاص للهجرة، يوم 21 مارس. إذ بالرغم من أن بيان الاتحاد الأوروبي قد تطرّق إلى سبل الدعم الموجه لتونس مُستقبلا، إلا أن تركيبة الوفد الأوروبي وطبيعة لقاءاته في تونس (لقاءات مع ممثلين عن وزارة الداخليّة على سبيل المثال) قد أكّدت على أولوية ملف الهجرة غير النظاميّة على ما عداها من الملفّات الاقتصاديّة والسياسيّة.

أوضح ممثل العلاقات الخارجيّة بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن مثل هذه الزيارات تأتي ضمن ضرورة التقييم الشامل للأوضاع في تونس بغرض اتّخاذ القرارات من قبل الاتحاد، وأكّد في ندوة إثر اجتماع مجلس الشؤون الخارجيّة الأوروبي، أنه سيوفد عضويْن عنه (وزيري خارجيّة البرتغال وبلجيكا على الأرجح) لدرْس الأوضاع في تونس ثمّ العودة بتقرير يتمّ بناء عليه تحديد الخطوات القادمة، من دون أن يستبعد زيارة شخصيّة له إذا ما تطلّب الأمر ذلك. غير أن جزءا من هذه الخطوات لم يكُن في الواقع إلا نتيجة إصرار رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على اتخاذ الاتحاد الأوروبي لإجراءات سريعة في ملفّ الهجرة ومطالبتها المفوضيّة الأوروبية بالتحرّك السريع و”تأجيل التحقق من الأمور إلى الجلسة المُقبلة لمجلس الاتحاد الأوروبي” حسب ما أدلت به. كما أن زيارة المفوّض الأوروبي للاقتصاد باولو جنتيلوني إلى تونس يوم 27 مارس الماضي التي تناولت مواضيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإدارة ملف الهجرة كانت مسبوقة بلقاء هذا الأخير مع جورجيا ميلوني، التي لمّحت في تصريح لها على إثر القمة الأوروبيّة المُنعقدة في بروكسل يوم 24 مارس إلى أن زيارة المفوض الأوروبي ستكون ضمن المجهود الدبلوماسي لإقناع صندوق النقد الدولي والحكومة التونسية بإبرام اتفاق لتحقيق الاستقرار المالي.

اتفاق في انتظار الحسم؟

تُحاول الحكومة الإيطالية حاليّا التحرّك بشكل سريع لتنفيذ تمويل ظرفيّ لتونس قبل توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وقد قدّم وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني مقترحا في هذا الإطار خلال اجتماع مجلس الشؤون الخارجيّة الأوروبي للبدء في تقديم دعم مالي لتونس بالتوازي مع بدء الإصلاحات الاقتصاديّة يتمثّل في دفع أقساط من المساعدة الماليّة بقيمة 300 مليون يورو في كلّ مرحلة من مراحل تقدّم الإصلاحات. كما أكد تاياني على هامش اجتماع وزاري حول غرب البلقان، إرسال إيطاليا لمُساعدات تبلغ 100 مليون يورو من بينها 50 مليونا للشركات الصغيرة والمتوسّطة، في انتظار “انفتاح” مُرتقب في المواقف الدولية تجاه قرض صندوق النقد الدولي، وخصوصا من الولايات المتّحدة ومن الاتحاد الأوروبي بعد زيارة المفوض “باولو جينتيلوني” إلى تونس.

هذا “الانفتاح” الذي أشار له المسؤول الإيطالي لا بد له من ثمن. وإذ يتواصل الصمت الرسميّ التونسي عن المقابل من الوساطة الإيطالية، التي تسارعت وتيرتها خلال الفترة الأخيرة بهدف استمرار الاستقرار كهدف في حدّ ذاته، حتّى مع التراجع المُفزع لواقع الحقوق والحريّات في البلاد وتجذّر الممارسات الديكتاتوريّة، فإنّ الأيام القادمة كفيلة بتوضيح الصورة على مستوى الإجراءات الأمنية لمواجهة الهجرة غير النظاميّة. ومع زيارة وزير الداخليّة الجديد كمال الفقي المحسوب على تنسيقيات سعيّد إلى ولاية تطاوين الحدودية  يوم 31 مارس، في واحدة من أولى النشاطات التي قام بها بعد تسلّمه لمهامّه، وتفقّده للوحدات الأمنية وقوات حرس الحدود هناك، يمكن أن نستنتج توجّها أمنيا تونسيا استباقيا في الحدّ من تدفّق الهجرة غير النظاميّة لمواطني بلدان إفريقيا جنوب الصحراء تجاه السّواحل الأوروبية انطلاقا من الحدود التونسية مباشرة. وهو ما يُفسّره تصريح وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني في 3 أفريل حول ضرورة تقوية الحدود التونسية- الليبية. وبهذا تنتقل تونس رسميا إلى لعب دور “حارس الحدود” المباشر للاتحاد الأوروبي.

يبقى نجاح هذه الوساطة الإيطاليّة كذلك مشروطا بتطوّرات عدد من المواقف الدوليّة نحو السلطة في تونس، أهمها موقف الولايات المتحدة التي تتخذ ديبلوماسيّتها خطابا أكثر حدّة تجاه النظام في تونس. ولم تكُن تصريحات مساعدة الخارجيّة الأمريكية “باربارا ليف” إلا تأكيدا على هذا الموقف عند وصفها لإجراءات “سعيّد” بأنها “قد أخذت تونس في اتجاه مختلف للغاية عن بناء النظام الديمقراطي”، وتلى ذلك تصريح لوزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن أثناء اتصاله بنظيره الإيطالي حيث عبّر عن دعم الدبلوماسية الأمريكية “لتطلعات الشعب التونسي إلى حكومة ديمقراطيّة وقابلة للمساءلة” حسب ما بيّنه في تغريدة له على إثر الاتصال. وبعيدا عن لهجة التنديد بالانحرافات السلطوية في تونس التي استمرّ التذكير بها مرارا من قبل المسؤولين الأمريكيين دون نتائج عمليّة على الأرض، تخشى الولايات المتحدة أساسا من توجه تونس نحو منافسين استراتيجيين لها في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

يبدو الموقف الدبلوماسيّ التونسي إزاء مختلف هذه التهديدات في موضع هشّ للغاية، من دون خطّة سياسية واضحة لمجابهة الضغوطات الأجنبيّة، في حين قد تقتصر سبل المناورة لدى سعيّد في استعمال ملف الهجرة للتغاضي عن الأزمة السياسية في البلاد وكوسيلة للحصول على جرعة إنقاذ مالي جديدة للسلطة. وربّما تطرح المحادثات الأخيرة لوزير الخارجيّة نبيل عمّار مع نظيره الروسي سيرغي لافروف والسفير الروسي في تونس ألكسندر زولوتوف التي تمحورت حسب الخارجية التونسية حول الاستحقاقات الثنائّية المشتركة وسبل تدعيم التعاون الثنائي، مناورة أخرى للضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في هذا السياق، إلا أن مثل هذه المحاولات الدبلوماسية لا تخرج عن دائرة الفعل السياسي المحدود الذي لا يُقدم بديلا استراتيجيا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفي خضمّ ذلك، قد يصبح الحديث عن تونس كـ “جدار صدّ متقدّم” أمام الهجرة في اتّجاه الاتّحاد الأوروبي أمرا واقعا إذا ما تواصلت عمليّة الضغط الدولي الممنهج المشروط بتطبيق الإصلاحات الاقتصاديّة الموجعة. في حين يُغرّد الخطاب السيادوي الموهوم لرأس السلطة على هامش التجاذبات الدوليّة التي يزداد وقعها بشكل ملفت على استقلالية القرار الوطني.

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني