حوار مع المؤرخ فابريس ريسبوتي: لهذه الأسباب تواصل فرنسا طمس جرائمها في الجزائر


2024-02-23    |   

حوار مع المؤرخ فابريس ريسبوتي: لهذه الأسباب تواصل فرنسا طمس جرائمها في الجزائر

التقت المفكرة القانونية بالمؤرخ فابريس ريسبوتي وهو باحث ملحق بمعهد تاريخ الزمن الحاضر تتناول أبحاثه التاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر.

صدر له حديثا كتابان:

Ici on noya les Algériens, Éditions le passager clandestin, 2021

Le Pen et la torture. Alger 1957, l’histoire contre l’oubli, Éditions le passager clandestin et Médiapart, 2023.

المفكرة القانونية: توثق في كتابك الصادر حديثا “لوبان والتعذيب. الجزائر 1957، تاريخ ضد النسيان” زيارة مؤسّس الجبهة الوطنية في فرنسا، جان ماري لوبان للجزائر بين ديسمبر 1956 ومارس 1957 ومشاركته في ما سمّي معركة الجزائر la bataille d’Alger، أي الحرب الوحشية التي شنّها الجيش الفرنسي على جبهة التحرير الجزائري من أجل استئصالها. هل لك أن تقدّم لنا السياق التاريخي لذلك وتشرح لنا مكانة التعذيب في تاريخ فرنسا الاستعماري؟

فابريس ريسبوتي: لفهم حيثيات اتّهام لوبان بالضلوع في التعذيب في الجزائر، يجب الرجوع إلى السياق التاريخي وخصوصًا ما سمي “بمعركة الجزائر”، وهي المرحلة الأكثر شهرة في تاريخ حرب التحرير الجزائرية من الاستعمار الفرنسي، والتي نعرفها وللأسف خصوصًا من خلال رواية العسكريين الفرنسيين.

ففي جانفي 1957، قرّرت الحكومة الاشتراكية وقتها، والتي كان يرأسها غي مولي Guy Mollet ويشغل فيها فرانسوا ميتران منصب وزير العدل، إناطة الصلاحيات الأمنية في الجزائر العاصمة بالجيش الفرنسي. رسميّا كان الهدف من القرار وضع حدّ للتفجيرات التي شرعت جبهة التحرير الجزائرية في القيام بها ابتداء من سبتمبر 1956 ضدّ المدنيين.  طبعا هذا التفسير كاذب وهو مجرد بروباغندا استعمارية. في الحقيقة، ما عجل صدور هذا القرار، الذي كان يطالب به متطرّفو “الأقدام السوداء” les pieds noirs وكثير من العسكريين الفرنسيين، هو دعوة جبهة التحرير إلى إضراب عامّ تاريخي بثمانية أيام. ذلك أن الجبهة وفي أعقاب مؤتمر الصومام[1] قررت “تعبئة الجماهير الحضرية” في الثورة الجزائرية، أي الانخراط في شكل جديد من الحراك الجماهيري السلمي والقانوني، باعتبار أن القوانين الاستعمارية الفرنسية كانت تسمح نظريا لمن كان يطلق عليهم تسمية “مسلمو الجزائر” بالإضراب. خلقت الدعوة إلى الإضراب ذعرا حقيقيا في أوساط السّلطات الفرنسية كما يوثقه الأرشيف الاستعماري الفرنسي نفسه والذي يحتوي على جملة من المؤشرات التي كانت ترجّح نجاحه العارم وهو ما كان يهدّد بهدم البروباغندا الفرنسية التي تصور جبهة التحرير على أنها مجموعة من الإرهابيين والفلاقة (جمع فلاق وهو الاسم الذي أطلقه الفرنسيون على المقاتلين في شمال إفريقيا) وقطاع الطرق الفاقدين لكل قاعدة شعبية.

 وعليه قرّر مجلس الوزراء الفرنسي منح الجنرال ماسو Massu  قائد الفرقة العاشرة للمظلات، أي فوج النخبة في الجيش الفرنسي كل الصلاحيات في الجزائر. وعليه، تمّ استقدام حوالي 10000 مظليّ إلى العاصمة بهدف استئصال الحراك الوطني وفق ما تبيّنه وثائق الأرشيف الاستعماري نفسه، وليس فقط من أجل تفكيك المجموعات التي تقف وراء التفجيرات بقيادة ياسف السعدي، وفق الإعلان الرسمي.

بيد أن عسكرة القمع بغرض اجتثاث حركة وطنية عمل معقّد ولا يمكن أن يفعل الجيش ما يشاء في محيط حضري من دون شهود. لذلك تقرّر تبنّي طريقة “التغييب القسري”، وهو ما تم العمل به لاحقا في الأرجنتين. أي إعطاء العسكر صلوحية اختطاف الناس في غالب الأحيان ليلا بهدف تجنّب إثارة الانتباه وفقا لتعليمات ماسو نفسه واعتقالهم خارج أماكن الاحتجاز الرسمية أي في فيلات أو مزارع تم افتكاكها من أصحابها وتحويلها إلى مراكز تعذيب يتمّ التحقيق فيها مع المخطوفين بتهم واهية. ومن كمثال عن هذه التهم التي اكتشفتُها عند التدقيق في أرشيف الجيش الفرنسي، عبر معاينة السجلّات التي كان يقوم بتعميرها العسكريون، “تجميع المال لجبهة التحرير” أو “العثور على مناشير” أو حتى “متعالي” أو “معادٍ لفرنسا” أو “مُعجب بجمال عبد الناصر” أو “خاض إضرابًا”… إذًا ما حصل سنة 1957 هو ما اعتبرته مع زميلتي المؤرخة مليكة رحّال عملية قتل سياسيّ Politicide  أي محاولة تصفية جسدية لجميع كوادر ومناضلي القضية الوطنية عبر الاغتيال أو القتل تحت التعذيب أو الحبس في معسكرات اعتقال، وهي معسكرات أطلق عليها تسمية مراكز إيواء، كل ذلك بغضّ النظر عن انتماءاتهم  السياسية (أي سواء كانوا من جبهة التحرير أو حركة الكشافة، أو فرق رياضية  أو الحزب الشيوعي أو النقابات أو كانوا علماء دين أو أوروبيين مسيحيين تقدميين). وبفعل وحشية القمع، نجحتْ السلطة الاستعمارية في أواخر سنة 1957 في “تحييد” عشرات الآلاف من سكان العاصمة.

خيضت هذه الحرب التي كان يسوّق لها على أنّها “حربٌ ضدّ الإرهاب” والتي كانت تستهدف كلّ من هو على علاقة بالحركة الوطنيّة بحسب “سيناريو الحرب الموقوتة”، وهو السيناريو الذي استعمل لاحقا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في غوانتانامو وأبو غريب. ويقوم منطق هذه الحرب على أن التعذيب وإن كان عملا وحشيا، إلا أنه لا مفرّ من اللجوء إليه حين يتمّ إلقاء القبض على متّهم بوضع متفجرات لاقتلاع اعترافات منه تسمح بتفكيك القنبلة وإنقاذ حياة مدنيّين. إلا أن الإشكال مع هذه الخرافة أن لا أحد إلى يومنا هذا قد تمكّن من إعطاء مثال واحد على نجاح هذا الادّعاء، إذ أن وظيفة التعذيب الحقيقية هي إرهاب عائلة ضحية التعذيب ومحيطها برمّته.

المفكرة: نلحظ أنّه كان هناك استمراريّة في انتهاج التعذيب ووسائله في تاريخ فرنسا الاستعماري من الهند- الصينية إلى الجزائر، سبقتْ تصديره إلى دكتاتوريات أمريكا اللاتينية.  

ريسبوتي: تماما. حين اكتشفت فضيحتيْ اغتيال المناضلين علي بومنجل[2] ومن بعده موريس أودان Maurice Audin [3]  تم تبرير ما تعرضا له من تعذيب بمخلّفات النازية في فرنسا، باعتبار أن ذاكرة الاحتلال الألماني والغستابو ما زالت قائمة. بيد أن التعذيب هو في الحقيقة في صلب استراتيجية “حفظ النظام العام” الكولونيالي. فنحن نعلم أنه ومنذ سنوات 1930، مارس الجيش الفرنسي التعذيب بالصعق الكهربائي بشكل واسع في الهند الصينية. وجان ماري لوبان نفسه قضى سنة بأكملها هناك كجندي احتياطي. ويمكن أن نسوق افتراضا وإن لم نجد أي مصدر تاريخي يثبت صحته بفعل ندرة التوثيق للتاريخ الاستعماري الفرنسي في الهند الصينية ضعيف التوثيق، أنه هناك تدرّب على أساليب التحقيق والتعذيب.

وفي الهند-الصينية، صاغ العسكريون الفرنسيون عقيدة رسمية كانت تدرّس لكوادر الجيش أطلق عليها “عقيدة الحرب الثورية” حول كيف يتمّ الانقضاض على منظّمة سرّية تمارس الكفاح المسلّح وتتمتّع بحاضنة شعبية كبيرة. عقيدة مكافحة التمرد هذه هي التي سيتم تدريسها بعد خروج فرنسا من الجزائر في أمريكا اللاتينية وفي الأرجنتين، حيث ستتبناها دكتاتوريّاتها.

جون ماري لوبان والتعذيب في الجزائر العاصمة وفقا لشهادات ضحاياه. 2 فيفري 1957-31 مارس 1957.

المفكرة: أنت تتحدث عن الأرشيف الاستعماري الفرنسي وهو بالتأكيد مصدر مهمّ لكنه يطرح في الآن نفسه تحدّيات كثيرة على المؤرخ. هل لك أن تعطينا لمحة سريعة عن هذا الأرشيف وعن إمكانية الولوج إليه؟ وبصورة محددة، هل نجد أثرا للتعذيب في أرشيف مماثل؟

ريسبوتي: السؤال واسع. حين أتحدث عن الأرشيف، أعني أساسا الأرشيف الوطني في الخارج الموجود في مدينة إكس أون بروفانس وهو أرشيف مدني لدولة فرنسا الاستعمارية في الجزائر. بمعنى أنّه يتكوّن من الوثائق الأرشيفية التي تم استحضارها في 1962 على عجل غداة إعلان انتهاء المعارك. ثم هناك أرشيف الجيش الموجود في مدينة فانسان على تخوم باريس ثم أرشيف الدولة الفرنسية المتروبولي les archives de l’État français métropolitain الموجودة في Pierrefitte sur Seine. ثم هناك أرشيف المحاكم والشرطة …

فيما يخصّ الولوج إلى الأرشيف، فإن القانون الفرنسي يخوّل فتحه نظريا بعد 50 سنة. ما يعني أن كل الأرشيف المتعلق بالجزائر مفتوح اليوم لكلّ المواطنات والمواطنين، فرنسيين كانوا أم أجانب. لكن في الحقيقة، هناك عدد كبير من الاستثناءات. لا يسع المجال هنا لتعدادها كلها، فهناك الاستثناءات المتعلقة بحماية الحياة الشخصية لمن ما زالوا على قيد الحياة أو أبنائهم. كما أن الحكومة الفرنسية قررت أن بعض الأرشيف لا يمكن فتحه بحجة أنه لا زال ذا قيمة استعمالية opérationnelle وهو حال الأرشيف المتعلق بالحرب الكيماوية التي مارستْها فرنسا في الجزائر. وهذا ما يعاني منه بشكل خاصّ الباحث كريستوف لافاي Christophe Lafaye الذي يعمل على ما يسمى “حرب الكهوف”. إذ كما نعلم، استعملت فرنسا النابالم كما استعملت غازات على غرار تلك التي وقع استخدامها في الحرب العالمية الأولى في عديد الكهوف في المناطق الجبلية في الجزائر، حيث كان يلجأ مجاهدو جيش التحرير الوطني والمدنيون هربا من القمع. فكان يتمّ استعمال الغازات لقتلهم خنقا أو إجبارهم على الخروج. لافاي لا يسمح له اليوم بالولوج إلى بعض من هذا الأرشيف بحجة أنه لا زال يحتفظ بقيمة استعمالية.

شخصيا، أدافع مع آخرين على الفتح الكامل وغير المشروط للأرشيف الكولونيالي للحرب في الجزائر، كما الحال مع أرشيف الحرب العالمية الثانية. المشكلة أن الحكومة الفرنسية غير راغبة في ذلك وتعمد إلى فتحِه تدريجيا مع وضع استثناءات لصالح من تختارهم هي نفسها.

ماذا نجد في هذا الأرشيف بخصوص التعذيب والقتل خارج القانون وهو ما كان يصنف قانونيا حتى خلال الحرب على الجزائر كأفعالٍ إجرامية؟ بعد نهاية الحرب، تم تقنين إفلات العسكريين والقوى الحاملة للسلاح من العقاب بإقرار قانون عفو عام وشامل ودائم في فرنسا. وعليه وباعتبار أن الأمر يتعلق بجرائم، فإن مقترفيها لم يتركوا أيّ أثر مكتوب يوثقها، فهي أفعال سرّية نجحوا إلى حد كبير في التغطية على مجملها لأنها كانت تستهدف سكانا خاضعين تحت الهيمنة الاستعمارية لا قدرة لهم في الولوج إلى العدالة. فعلى سبيل المثال، وفي حالة لوبان نفسه، وباستثناء تقرير صادر عن الشرطة لا نجد أيّ أثر لأفعاله في أرشيف الجيش.

في إطار العمل البحثي الذي قمت به مع المؤرخة مليكة رحال حول الاختفاء القسري، سألتنا عائلات جزائرية كثيرة إن كان بحوزتنا معلومات عن رفاة ذويهم ومكان دفنهم اعتقادا منها أنّ مثل هذه المعلومات متوفرة في الأرشيف. طبعا لا أثر لكل ذلك في الوثائق الرسمية. فالأرشيف الكولونيالي خصوصا للجيش هو أرشيف الكذب والتغطية. لذلك من المهمّ أن نستمع، في حالة لوبان كما الآخرين، إلى أصوات وشهادات الجزائريات والجزائريين ضحايا التعذيب وشتّى الانتهاكات، وهي بالضبط المقاربة التي استعملتها في كتابي الأخير. فقد اعتمدتُ على ما يقارب 15 شهادة لضحايا مباشرين للوبان كان قد تمّ نشرها من قبل صحفيين فرنسيين من جريدتيْ ليبراسيون في سنة 1984 ولوموند في 2002. دققت في مجمل هذه الشهادات على خلفية معرفتي الجديّة بالسياق التاريخي في الجزائر في تلك المرحلة وبيّنت أنّها ذات مصداقية. طبعا، لوبان نفسه يعتبر أنّ كل ذلك هو مجرد مؤامرة ضدّه.

المفكرة: ذكرت عملك مع المؤرخة مليكة رحال وقد أنجزتما موقعا يحمل اسم الألف الآخرون باللغتين العربية والفرنسية. هل لك أن تقدم لنا هذا الموقع وتشرح لنا أهدافه؟

ريسبوتي: نقطة انطلاق هذا المشروع كان اكتشافي في الأرشيف الوطني الفرنسي لسجلّ من محافظة الجزائر، وقع بشكل لافت الاحتفاظ به، يتضمن أسماء 1500 شخص تمّ اختطافهم من قبل الجيش الفرنسي في سنتيْ 57-1958. كانت عائلاتهم تأتي إلى المحافظة لتقصّي أخبارهم، فتشرح كيف تمّ كسر أبواب بيوتهم ومداهمتها من قبل الجيش الفرنسي واختطاف آبائهم أو أبنائهم أو آبائهم وأبنائهم وكيف أنه منذ الخطف انقطعت اخبارهم بالكامل. فيسألون عن مكان احتجازهم وهل هم ما زالوا على قيد الحياة. وهو لعمري سجلّ يوثق في حدّ ذاته وحشيّة القمع. وحين اكتشفتُ هذا السجلّ، اعتبرت أن الطريقة الوحيدة للتعرّف على مآلات هؤلاء المخطوفين تكمن في الاتصال بعائلاتهم وهو ما قمنا به أنا ومليكة رحال عبر إطلاق الموقع. إذ قمنا بنشر السجلّ في سبتمبر 2018 على الموقع، مباشرة بعد إعلان الرئيس ماكرون عن مسؤولية فرنسا في اختطاف وتغييب موريس أودان، وتوجّهنا بدعوة عامة للشهادة بالعربية والفرنسية لكل من يتعرف على أسماء قائمة المخطوفين التي نشرناها ويمكنه تزويدنا بمعلومات حول مصيرهم.

لاقتْ دعوتنا نجاحا كبيرا فاجأني ولم يفاجئ في الحقيقة مليكة رحال التي لها معرفة أكثر عمقا بالجزائر منّي شخصيا. فقد وصلتْنا حتّى اليوم مئات ومئات الرسائل متفاوتة الدقّة مكّنتنا من تثبيت أكثر من 400 اختفاء نهائي على مجمل 1500. كما وضعت بين أيدينا مادة تاريخية فريدة لأن الشهادات تحتوي على معلومات نادرة حول ظروف الاعتقال، وأوضاع الجزائريين خلال هذه الفترة من القمع الوحشي … وعليه فنحن اليوم قادران على كتابة تاريخ آخر “لمعركة الجزائر” يأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر الجزائريين والجزائريات.

المفكرة: ألا تعتقد أن العفو العام الذي أقرته الحكومة الفرنسية في صالح الجلّادين ومقترفي الجرائم في حقّ الشعب الجزائري مباشرة بعد إمضاء اتفاقية إيفيان (les accords d’Evian) في 18 مارس 1962 هو السبب الرئيس الذي يفسر عجز فرنسا حتى اليوم في الإقرار بماضيها الاستعماري؟

ريسبوتي: تم الإعلان على العفو العام في 22 مارس أي 4 أيام فقط بعد اتفاقية إيفيان التي وضعت حدّا للمعارك. وتمّ إصدار مرسوميْن يقضي الأول بإعفاء الجزائريين المحكوم عليهم أو الصادرة بحقهم مذكرات بحث من قبل السلطات الفرنسية فيما يقتضي الثاني بإعفاء كل الجرائم والجنح التي اقترفتها قوات النظام الفرنسية في إطار ما سمّي “حفظ الأمن العام” في الجزائر. وعلى مدار السنوات التالية تمّت تكملة وتدقيق هذا المرسوم. قانون العفو هذا الذي اتّخذه شارل ديغول دون حتى المرور بالبرلمان كان طبعا مطلب العسكريين الفرنسيين لحماية أنفسهم من الشكاوى التي كانت قد بدأت ترفع ضدهم.

لا يكتسي هذا المرسوم بعدا قانونيا فحسب، بل هو في جوهره قرار سياسي وتذكاري. فالعفو بالأساس جعل من أجل فرض النسيان على المجتمع الفرنسي وقد نجح في ذلك. فالرأي العام الفرنسي كان في تلك المرحلة حريصا على طيّ صفحة الحرب والاستفادة من فوائد “30 سنة المجيدة”. وهو ما يفسّر فقدان ذاكرة هذه الحرب الاستعماريّة خلال على الأقل العشرين سنة التي أعقبت استقلال الجزائر والمجهود الكبير الذي بُذل من أجل إعادة الاعتبار لمسألتيْن تذكاريتيْن مركزيتيْن: المجازر التي اقترفتها الشرطة الفرنسية في حقّ المتظاهرين الجزائريين في باريس في 17 أكتوبر 1961 ومسألة التعذيب. إذ أنّ الموضوعين لم يعودا إلى الواجهة إلا في أواخر التسعينيات بداية الألفية الثالثة بفضل نضالات الحراك المعادي للعنصريّة والاستعمار.

وهو ما يفسّر أن لوبان مثلا استطاع أن يرفع قضايا في الثلب وأن يربحها خلال ما يقارب العشرين سنة ضد كلّ من كانت تسوّله نفسه تذكيره بماضيه الإجرامي في الجزائر. وكذلك فعل الجنرال موريس شميت المتهم هو الآخر بالتعذيب في الجزائر والذي عينه الرئيس فرانسوا ميتران قائد القوات المسلحة الفرنسية.

طبعا جرائم الاختفاء القسري مثلا بوصفها جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. غير أن فرنسا لا تعترف بهذا المبدأ إلا في حالة الجرائم المرتكبة خلال الحرب العالمية. السؤال الذي يطرح نفسه لماذا تعجز الجمهورية الفرنسية حتى بعد 60 سنة من انتهاء الحرب على الجزائر من الاعتراف الأخلاقي والسياسي بتاريخها الاستعماري ليس فقط في الجزائر بل كذلك في مدغشقر وتونس والكاميرون؟ الجواب يكمن في أن كل القوى السياسية الفرنسية، وليس فقط حزب التجمع الفرنسي أي أقصى اليمين الفرنسي، قد تورّطت في الجرائم الاستعمارية. ومن هذه القوى، الفرع الفرنسي للأممية العمالية (Section française de l’Internationale ouvrière, SFIO) أو التيّار الديغولي. ومن المهم التذكير هنا أنّ الجنرال ديغول قبل أن يوافق، بشكل متأخّر جدا، على التفاوض مع جبهة التحرير الجزائرية، كان قد قاد أشرس سنوات الحرب على الجزائر التي ترتّب عنها أكبر عدد من القتلى في صفوف المدنيين الجزائريين. كما لا ننسى أن رُبع السكان الجزائريين كانوا عشية استقلال بلدهم محبوسين إما في معسكرات اعتقال أو في “معسكرات التجميع” Les camps de regroupement التي زجّ فيها نصف سكان الأرياف.

غلاف الكتاب Le Pen et la torture للمؤرخ فابريس ريسبوتي

المفكرة: ألا تعتقد اليوم أن الإسلاموفوبيا السائدة لدى النخب الحاكمة الفرنسية تماما كما تواطؤها مع حرب الإبادة على غزة يتصلان بإرثها الاستعماري؟

ريسبوتي: نعم تماما. شخصيا أحرص دائما على التذكير بأنه ولفترة طويلة كانت الإسلاموفوبيا صادرة عن الدولة الاستعمارية الفرنسية التي كانت تطلق على الجزائريين تسمية “المسلمين”. وحين كان يعتنق أحدهم المسيحية، في حالات نادرة جدا، كان يصنّف في أوراقه الثبوتية ب “مسلم كاثوليكي”. هذا يعني أن المسلمين كانوا من وجهة نظر الدولة الاستعمارية الفرنسية عرقا ألصقت به شتى الأفكار المسبقة وتمّت شيطنته على مدار الحقبة الاستعمارية. ثم أُعيد رسكلة كل هذه الأفكار بعد استقلال الجزائر، خصوصا غداة أول التفجيرات التي وقعت على التراب الفرنسي، ليوصم بها الفرنسيون من منحدرات مغاربية. ونحن إلى اليوم وفي أعلى هرم السلطة، ما زلنا “نحارب” العباية في المدارس والبوركيني على الشواطئ.

فيما يخصّ الموقف الفرنسي من غزة، يجب التذكير بأن فرنسا لم تشهدْ أي مراجعة رسمية لخطابِها الدعائي الاستعماري منذ 1962. لا بل قامت رسميا في 2005 ب “الثناء على فوائد الاستعمار”. كما أن التاريخ الاستعماري الممتدّ على أربعة قرون يدرس بشكل سيء جدا في المؤسسات التعليمية. وهذا الجهل بالاستعمار والاحتلال يفسّر في تقديري إلى حدّ ما عجز وسائل الإعلام والطبقة السياسية على استيعاب ما يحدث في فلسطين كحالة استعمار استيطاني. وهو بالضبط ما ينقص فعلا في حالة غالبية المجتمع الفرنسي وتمثله للحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة. 

لقراءة المقابلة باللغة الانكليزية يمكنكم الضغط هنا

نشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لتحميل العدد بصيغة PDF


[1]  عقد هذا المؤتمر الذي جمع القيادات التاريخية للجبهة من 13 إلى 20 أوت 1956 ومكن الجبهة من تبني خطة استراتيجية تنظيمية وسياسية.

[2] محامي ومناضل جزائري قتل تحت التعذيب من قبل الجنرال اوساراس وتم إلقاء جثته من الطابق السادس من البناية التي كان محتجزا فيها للإيهام بانتحاره ولم يعترف هذا الأخير بذلك إلا سنة 2000.

[3] أستاذ في الرياضيات في جامعة الجزائر وعضو الحزب الشيوعي تم إيقافه في 1957 وقتله تحت التعذيب. لم تعترف الدولة الفرنسية بهذه الجريمة إلا سنة 2018.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، مجلة تونس ، احتجاز وتعذيب ، الجزائر ، فرنسا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني