حوار مع الباحث في علم الاجتماع منير السعيداني: “مَشَاريع اليَسار في تونس ارتَبطَتْ بالطبقات الوسطى وليس بالطّبقة العاملة”


2023-05-26    |   

حوار مع الباحث في علم الاجتماع منير السعيداني: “مَشَاريع اليَسار في تونس ارتَبطَتْ بالطبقات الوسطى وليس بالطّبقة العاملة”

مازال إلى حدود اليوم الحَفر في سوسيولوجيا اليسار التونسي مشروعا مُعَلقًا أو خارج دائرة المُفكّر فيه. وفي الأثناء، تراكَمتْ الكثير من المسلّمَات والأحكام الإطلاقية حول التركيبة الاجتماعية لليسَارَات التونسية وعلاقاتها بالتحوّلات الاجتماعية، ومَوقعَها داخل التناقضات والصراعات الاقتصادية والاجتماعية. لذلك يُشكّل الحوار مع منير السعيداني، الباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية وأستاذ التعليم العالي بالجامعة التونسية، فُرصةً لتوسيع زاوية النظر للنّسيج الداخلي لليسار التونسي ووَضعِه ضمن الديناميّة العامة للمجتمع والاقتصاد. وخلال هذا الحوار، يعُود السّعيداني إلى جملة من المحَاور من بينها علاقة اليسار بالتّحولات الاجتماعية وتفاعلاته التنظيمية والسياسية معها. إضافة إلى تمثّلاته الكبرى لذاته ولمختلف المؤسسات والطبقات الاجتماعية المحيطة به.       

المُفكرة القانونية: عادة يجري الحديث عن اليسار التونسي -خاصة لدى خصومه- بوصفه هُويّة مُتجانسة تُعِيد تكرار ذاتها بنفس الصّيغ، هل نحن بالفعل إزاء يسار مُتشابه أم أننا إزاء يَسَارَات؟

منير السعيداني: للإجابة على سؤالك، أعتقد أنه علينا التّعاطي مع يَسَارَات، ليس في المعنى التعاقبي التاريخي فقط وإنما بالمعنى التّزامني أيضا. يُمكّن هذا الاعتبار من توسيع زاوية النظر لتُصبح مُتعلقة بتناول تحوّلات اليسار بوصفه نوعا من التعبير عن التحوّلات الاجتماعية التي عاشهَا المجتمع التونسي. أنا هنا لا أضع نفسي في المعنى التقليدي الذي يقول بأن التغييرات التي تمسّ البُنى التحتية تؤدّي ضرورَةً إلى تحوّلات في البنية الفوقية، وإنما أريد البحث عن أفق تفسيري آخر، إن شئتَ، لأدفع بأطروحة تقول إننا عندما نتحدّث عن اليسار في تونس نكون بصدد الحديث عن ظاهرة تقَع داخل الطبقات الوُسطى بالتحديد، بغض النظر عن الطابع الإشكالي الذي يَطرحه مفهوم الطبقات الوسطى. 

المفكّرة: هل أنتَ بصدد دَحض المسلّمة الشائعة بأن “اليسار هو التعبيرة التاريخية للطبقة العاملة”؟

السعيداني: ارتبَطَتْ بدايات الوجود العمّالي في تونس -بالمعنَى الطبقي- بالمشاريع الاستثمارية والاستخراجية الاستعمارية. وبالتوازي مع ذلك، كانت هناك دائمًا تعبيراتٌ سياسية ارتبطَت بعناصر مُثقفة ومجموعات تفكير تدّعي تمثيلَهَا للطبقة العاملة. وأقصد هنا بكلمة “تدّعي” أنها تَطرَح نفسها مُرَشَّحَةً لتمثيل الطبقة العاملة عبر تقديم نوع من العرض السياسيّ. وتبقَى استجابة الطبقة العاملة لهذا العرض من عدمها مسألة أخرى. وعلى العموم، لم يُخلَق دائمًا انسجام بين بدايات الطبقة العاملة وتطوّراتها اللاحقة ومختلف التعبيرات السياسية المُتحدثة باسمها.

هذه مسألة ذات درجة تعقيد عالية في علم الاجتماع. يَطرح حلّها التقليدي في الماركسية فكرة عمل العناصر المثقفة ومجموعات التفكير على إيجاد روابط اجتماعية رديفة أو بديلة تتجسّد عبر النقابات والجمعيات والحركَات أيضا، حيث تضمن تواصلها مع الطبقة العاملة. وفي السياق التونسي، وُجِدَت هذه الارتباطات عبر الخلايا الأولى للعمل النقابي بداية القرن العشرين. وكانت قياداتها خليطا من العناصر ذات التوجهات الشيوعية والاشتراكية أو الماركسية في معناها الأوروبي، وعناصر أخرى ذات توجه استقلالي تونسي-أهلي، وكان لبعضها ارتباطات مغاربية. كان هذا خلال حقبة العشرينات والثلاثينات وصولاً إلى تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل (1946) الذي مَثّلت قيادته آنذاك النّخبة التي انشقت عن التركيبة اليسارية التقليدية للقيادات النقابية ذات الأصول الأوروبية. يمكن تقديم نفس التحليل تقريبا لدى ملاحظة التشكّل الداخلي للحزب الشيوعي التونسي، حيث طغَت عليه في البداية عناصر مثقفة ونخبوية أوروبية وافدة، قبل أن يضطرّ في وقت لاحق إلى اتخاذ قرار “تونَسَة” التنظيم. ويمكن الحفاظ على نفس التقدير أيضًا إذا ما عُدنا بالتحليل إلى تركيبة الذين أسّسوا تنظيم “برسبكتيف” (حركة آفاق) بداية الستينات، إذ سنُلاحظ أنهم كلّهم ينتمون إلى الطّبقات الوسطى، إذ لم يُوجد في هذه التركيبة من لديه علاقة بالطبقة العاملة.

ويُمكن المجازفة بالتأكيد على أن هذا ينسحب على التيارات اليسارية اللاّحقة. وبطبيعة الحال تُوجد بعض العناصر التي انخرطت في العمل النقابي ونسجت علاقات وروابط مع عناصر عمالية ذات نشاط نقابي والتزام سياسي. ولكن هذا الارتباط ظلّ في الحدود النقابية ولم يؤدّ إلى تبني العمال لأطروحة اليسار السياسية الكبرى. قليلة جدّا هي إذا العناصر المُنحدرة من أوساط عمّالية وارتبطت باليسار الماركسي في تونس. ولذلك، عندما نتحدث عن يسار في تونس، نحن نتحدث عموما عن ارتباط تركيبته بالطبقات الوسطى في المجتمع من خلال أفراد ومجموعات مثقفة وذات ارتباط بمهن غير عمالية وغير يدوية. وبطبيعة الحال بإمكاننا التدقيق في ذلك من خلال تعيين شرائح اجتماعية مختلفة داخل الطبقات الوسطى، إذ يمكن أن تكون شرائح عليا أو وسطى… إلخ.

المفكّرة: بالعودة إلى أطروحَتِكَ، كيف يمكن الربط بين التحولات الاجتماعية والتحولات الداخلية التي شهِدَها اليسار في تونس؟        

السعيداني: إلى حدّ الآن أكّدتُ على التركيبة الطبقية والمنحدر الاجتماعي للمنتمين للتشكيلات اليسارية. ولكن يمكن تطوير التحليل بالإشارة إلى ارتباطات أخرى بين اليسار والمجتمع في تونس. في البداية لا بُدّ من الإشارة إلى أن هناك تحوّلات جِيلية داخل اليسار التونسي. وأنا هنا أتحدث عن الجيل بمعناه السوسيولوجي المَعروف. لاحظ معي أنّ التاريخ الاجتماعي الذي سبق وأن سَردته لك في خطوطه الكبرى تَركَ تأثيرا في كل الأجيال اليسارية المتعاقبة. أما الفترة ما بعد الاستعمارية فيُمكن تقسيمها في تقديري إلى ثلاثة أجيال: جيل الستينات، جيل التسعينات، ثم جيل ما بعد 2011. لاحظ معي، أن مع كلِّ جيل تُطرح فكرة “يسار جديد”. في بداية الستينات، اعتُبرت حركة “برسبكتيف” يسارًا جديدا لأنها طرَحَت نفسها بوصفها تجاوزا ليَسار قديم، وُصِفَ آنذاك بـ”التحريفية”، ممثلا في الحزب الشيوعي التونسي. وفي بداية التسعينات بدأت بعض التشكيلات اليسارية في البروز بشكل جليّ رغم أن بدايات تأسيسها الفعلي تعود إلى بداية الثمانينات، على غرار حزب العمال الشيوعي التونسي والتيارات اليسارية ذات الطرح الوطني الديمقراطي. كانت مُختلف هذه التّشكيلات تَنظر إلى نفسِها وتنظّر مَسَاراتها بوصفها خروجًا عن يَسار الستينات الذي بات “قديمًا” في تقديرها. ومع بداية التسعينات أخذَت هذه التشكيلات تُسيطر على أجزاء واسعة من الحركة الطلابية وعلى الاتحاد العام لطلبة تونس على الأخص. كما أوجدت لها أيضا موطئ قدم داخل النقابات المنضوية صلب الاتحاد العام التونسي للشغل، وخاصة نقابات التعليم الثانوي والأساسي وبعض نقابات مستخدمي القطاع العمومي. ومنذ سنة 2010 بدأت تظهر أفكار ومشاريع جديدة تَنظر إلى يسار التسعينات على أنه ظاهرة قديمة ومتجَاوزَة، وخاصة حزب العمال (الذي غيّر اسمه) ومختلف تشكيلات الوطد، وطَرحَت هذه المشاريع هي الأخرى فكرة تشكيل “يسار جديد”.

لكل هذه الاعتبارات، أعتقد أن المسألة الجِيليّة داخل اليسار مهمة، ليس لذاتها، وإنما لارتباطها بمسألة التحوّلات الاجتماعية، ولأنها تُعبّر بشكل أو بآخر عن تحوّل في ترتيب التناقضات الاجتماعية، بما في ذلك التناقضات ذات العلاقة بالتوازنات الجهوية والمناطقية مثلاً.

المفكرة: لنُواصل في الأطروحة نفسها، كيف يمكن تأسيس الربط بين الحراك الجِيلي داخل اليسار والتحولات الاجتماعية؟

السعيداني: شكَّلَ “التحديث” مشروعا كبيرا ومركزيّا للدولة ما بعد الاستعمارية في تونس. وما يَهمّنا في هذا السّياق هو التحديث الذي تَجسّد في حركة عَصرنَة الزراعة والفلاحة من جهة وحركة التصنيع الجديد (تكرير النفط، صناعة السكر، صناعة الحلفاء…) في قطاعات لم تَعرفها الفترة الاستعمارية من جهة ثانية. وقد تكرّسَ هذا المشروع التحديثي في تشكل مخصوص للنّظام السّياسيّ (إعلان الجمهورية، وضع دستور، إنشاء برلمان، نشاط أحزاب، استقطاب مسؤولين سياسيين من الحركة النقابية، توسّع في إنشاء النقابات…). على المستوى الاجتماعي، تَرافَق المشروع التحديثي أيضا مع توسّع الفئات المهنية والاجتماعية التي تُعتَبر جديدة حيث لم تكن موجودة في السابق إلا في حدود ضيقة؛ هي فئات عمالية وإدارية وخدماتية مرتبطة على الأغلب الأعم بالقطاع العام. ومع بداية السبعينات، وبعد التخلي عن سياسة التعاضد التي أبقت أوضاع المزارعين والفلاحين في تعقيدات مُرَكَّبَةٍ وعسيرة الحلّ، أدّى وضع تشريعات جديدة في 1972 و1974 إلى بروز أقطاب صناعية في قطاعات الملابس والجلود، أعطَى زخمًا في تشكيل النقابات ونشاطها.

هذان التّشكّلان الاجتماعي والسياسي الجديدان سَاهَمَا في تجديد طرح المسألة الاجتماعية. لشرح هذا التجديد يمكن القول إنه، وبصفة عامة، برزَت داخل تشكيلات اليسار الفكرة الداعية إلى إعادة بناء النظام الاقتصادي والاجتماعي على قاعدة التوزيع العادل للمنافع، بمعنى افتكاك ما يمكن افتكاكه من “مكاسب” التحديث والتنمية والتصنيع وتعصير الفلاحة لفائدة الفئات المهنية الاجتماعية التي اعتبرها اليسار مقصية من مِظلة تلك المكاسب. واعتُبرت هذه الدعوة مطلبا للطبقة العاملة، مثلما قدّمه اليسار وليس كما قدّمته الطبقة العاملة نفسها إذ لم يكن لها من “ممثل رسمي” حاز اعترافها بصفته تلك. لاحظ معي أن هذا المطلب مرتبط بتصوّر يساري “قديم” يشير إلى أنه طالما هناك ثروة في المجتمع فيجب أن يكون تقسيمها عادلاً. ولكن رغم تقليدية هذا المطلب، فقد تمّ التعبير عنه ضمن تَشكّل تنظيمي يساري جديد جسّدته حركة “برسبكتيف” التي دَعت إلى الخروج عن خط الحزب الشيوعي التونسي نظرًا لما ألصِق به من “نزعة تحريفية” وارتباطٍ بقوّة إمبرياليّة جعلته “غير جذري” في مطالبه ومعارضته للسلطة.

وفي الوقت نفسه، برزَ معنى سياسي ضمن تشكل الأفكار اليسارية اقترن بالنضال ضد الاستبداد، لأن سلطة الدولة ما بعد الاستعمارية فرضت نفسها بالقوة ومن خلال تصفية خصومها. وبالفعل لم ينتظر نظامها السياسي الناشئ سوى سنوات قليلة بعد استقراره سنة 1959 ليقوم بمنع اليسار حيث حظر نشاط الحزب الشيوعي سنة 1963. وجاءت الإجابة اليسارية سريعة ومن داخل الاتحاد العام لطلبة تونس بحيث نشأت الدينامية التي أدّت إلى تأسيس حركة برسبكتيف. وبذلك، يكون نظام الدولة ما بعد الاستعمارية السياسي قد سعى للاستحواذ على جهازها وهو ما يفسّر قدرته على السيطرة على الأوضاع السياسية بالرغم من ظهور التناقضات صلبه وتَشكّل معارضاته منذ السنوات الأولى مثلمَا تكشفه رسالة أحمد التليلي إلى بورقيبة (1966). ومع ذلك، صارت فكرة “الجهاز” في حد ذاتِها مركزية في تفكير اليسار الذي تَبنَّى بشكل أو بآخر التصوّر القائل بأنه لا يمكن تغيير المجتمع إلا بافتكاك جهاز الدولة وربما تحطيمه والاستيلاء على السلطة. ولكن تجسيد هذه الفكرة في خطط اليسار وتدريب المناضلين عليها كانت ضعيفة جدّا لأن مختلف تشكيلات اليسار كانت مرتبطة بالجهاز ذاته مهنيا، وحتى عندما تسعَى للارتباط بالطبقة العاملة فهي تمرّ من خلال جهاز آخر هو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان شاهدا على صراعات يسارية- يسارية عديدة من أبرزها ما دَار حول كيفية الردّ على هجوم السلطة على الاتحاد العام التونسي للشغل في جانفي 1978.

وقد أخذت التحوّلات الاجتماعية التي أثّرت في اليسار تَشَكُّلاً وتَفْكِيرًا وحَرَكَةً شكلا جديدا مع بداية تنفيذ مشروع التعديل الهيكلي للاقتصاد سنة 1986، وهو ما ترَكَ آثاره التي ستظهر مع بداية التشكل الواضح للجيل الثاني لليسار (جيل التسعينات). فلقد أعاد هذا الجيل تشكيل مطالبه السياسية على قاعدة الآثار الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفها التعديل الهيكلي، أي على قاعدة تجدّد آخر للمسألة الاجتماعية ومحتواها بفعل مزيد انخراط الاقتصاد التونسي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. ولقد حَاوَل الجيل ذاته التّعبير عن استجابته للمعطيات الجديدة في شكل تنظيمي جديد اعتُبر آنذاكَ تجَاوُزِيًّا، ويُمكن أن نأخذ حزب العمال الشيوعي التونسي أنموذجا لأنه عبّرَ عن نفسه بوصفه تجاوزا لـما عرّفه على أنّه “التحريفية الماوية” وتجاوزا لـ “تحريفية” الحزب الشيوعي التونسي القديمة أيضا. وفي الحقيقة، بدأت آثار التعديل الهيكلي وتزايد ارتباط الاقتصاد التونسي بالسوق الرأسمالية العالمية التي صارت أكثر فأكثر عَوْلمة تظهر بوضوح أكبر مع الجيل الثالث (جيل ما بعد 2010) وهذا الجيل بالذات أودّ صراحة الحديث عنه أكثر من غيره.

المُفكرة: نحن نتحدّث عن ارتباط الظاهرة اليساريّة بالمآزق التي عاشَتها الطبقات الوُسطَى في تونس. هل بإمكاننا تحديد مظاهر هذا التأثير في الممارسة السياسية لليسار التونسي، وخاصة في صفوف ما تُسمّيه بالجيل الثالث لليسار التونسي؟

السعيداني: إنّ المشروع اليساري، ليس كما صِيغَ في أذهان أصحابه وفي خطابهم السياسي، هو مشروع الطبقات الوسطى والحضرية منها على وجه أخصّ، بمعنى أن ظهوره وتشكّله والسعي إلى تحقيقه عَبَّرَ على أزمات الطبقات الوُسطى الحضرية أكثر من تعبيره على أزمات مسّت الطّبقة العاملة. الدليل على هذا هو عدم وجود نصوص يسارية، في ما أعرف، تتناول هذه الأزمة بالتعيين والتحليل.

دعنا نَعُود إلى أطروحتي وكيفية تجلّيها بوضوح كبير في قراءة تجربة الجيل الثالث من اليسار في تونس: بعد صعود الرئيس الأسبق بن علي إلى السلطة سنة 1987، وخاصّة خلال العشر سنوات الأولى من حُكمِه، تمّ التوجّه نحو إعادة الهيكلة العامة للاقتصاد وخاصّة الصناعات، وذلك في اتجاه ما سمّي تأهيلها لتأكيد الانخراط في الاقتصاد العالمي والارتباط الكلّي بسوقه. وكان التمظهر الأوّل لهذه السياسة تَراجع الدّور التخطيطي للدولة في الاقتصاد، وهو ما أدّى إلى جملة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية عويصة الحل، ومن ضمنها بروز الاقتصاد الريعي وتمدّد الاقتصاد غير المُهيكل ومزيد تهميش القطاعات الزراعية والفلاحية ضمن السياسات الرسمية. ولكن ما يهمّنا هنا بالذات هو النظر إلى الآثار التي تركَتها هذه السياسة الجديدة في الطبقات الوسطى.

ما وقع بالضبط هو أن فئات واسعة من هذه الطبقات أصبحت خارج التوجيه الاقتصادي للسياسات الرسمية والإلزام القانوني للدولة، طبعا إذا ما استثنينا الموظفين وبعض المهن الحرّة المهيكلة. وقد أفرز هذا التحول فئات اجتماعية مترُوكة لحالها ومرتبطة أكثر بالأنشطة غير المُهَيكلة، وليس بإمكانها إلا أن تُطوِّر أعمالها في محيط العاصمة الحضري وفي المدن الكبرى وحتى المدن متوسطة الحجم، عبر الاستفادة من المجالات التي خلقها الاقتصاد الرّيعي والاقتصاد الموازي والاقتصاد الاستهلاكي في آلاف من المشاريع الصغرى التي لا تعتمد على الإنتاج، بل بالعكس، حيث ظلّت المشاريع الإنتاجية الحِرَفيّة والصناعية والفلاحية تشهد تقلّصًا مُستمرا.

أفرزَت مختلف هذه التحوّلات ظاهرة أخرى لا تقلّ أهمية في تشكّل اليسار، وهي التوسّع العمراني الرهيب لعشوائيات سكن الطبقات الوسطى وإقامتها وعيشها في المدن الكبرى. وعادة ما ترتبط العشوائيات (الأحياء فوضوية التشييد) في الأذهان بالأحياء الشعبية الفقيرة ولكن هناك من العشوائيات “أحياء متوسطة الحال” و”أحياء مرفّهة” و”أحياء راقية” أيضا، قد نَمَت بشكل عشوائي ولم تكن موجودة في المخططات العمرانية للدولة. ولكن بعد بنائها خارج إشراف مصالح وزارة التجهيز والإسكان كما كانت تسمّى في وقت مَا، تدخّلت نفس هذه المصالح إضافة إلى البلديات لتُزوّدها بالخدمات، حيث تربَطها بالتيار الكهربائي والماء الصالح للشراب وشبكة التنقّل والمواصلات وتضع فيها مراكز للأمن…     

خلال العشريات القليلة الأخيرة السابقة لانفجار الثورة في 2010، كنّا إذن إزاء تحوّلات في التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية ونسيجها الفلاحي والصناعي والخدماتي، أعادَت تشكيل مجالات العمل والاستثمار والسكن والولوج إلى الخدمات والمعيش عامّة، وبطريقة كانت آخذة في التطوّر المتسارع، غير المخطط له وغير المُسيطَر عليه. وقد أفرز كلّ هذا التعقيد الاقتصادي الاجتماعي المُرَكّب نوعا من التفجّر داخل تركيبة الطبقات الوسطى حيث دخلتها شرائح جديدة وخرجت منها شرائح أخرى، فبرزت في الوقت نفسه مظاهر حِراك اجتماعي، منه انحدار اجتماعي نُطلق عليه في علم الاجتماع تسمية “حِرَاك اجتماعي نازل”. ومن الأمثلة على هذا الحراك النازل أن بعض المهن والوظائف فقدَت موقعها ضمن التنضيد الطبقي ونزلت في سُلَّمِهِ، كما فقدت صيتها الاجتماعي وقيمتها الرمزية على غرار مهن المعلّم والأستاذ فضلا عن بقية الموظفين وعن الفلاح ذي الملكيّة المحدودة والمستثمر الصغير، وغيرها من المهن التي فقَدت بالتدريج قيمتيها المادية والاعتبارية داخل المجتمع.

وقد تركَ هذا التشكل الجديد لطبقة وسطى متروكة لحالها ومتفجرة داخليا أثره في السلوك السياسي للمنتمين إليها وخاصة لأبنائهم وبناتهم. لقد ضعُفت علاقة شرائح الطبقات الوسطى بالدولة وبجهازها وبخدماته ولم يعد وجوده وكيفية اشتغاله كفيليْن بفرض تنظيم للحياة الاقتصادية و”كيفية تحصيل الرزق” وتعديل سياسي للتناقضات الاجتماعية. وهو ما قد يُفسّر مَيلها العام إلى عدم الانتظام السياسي بالمعنى الحزبي للكلمة، وعدم تحبيذها تجسيد فكرة الجهاز. ويُمكن ملاحظة هذه السّمات في مسارات التشكل اليساري لدى الجيل الثاني في أواخره ولكن هذه ظاهرة ألصق بالجيل الثالث. هذا الجيل أصبحَ -فضلا عن هجرانه الأحزاب أو عدم ارتياحه لها- يرفض أشكال التنظّم حتى داخل النقابات القديمة والجمعيات التقليدية لأنها فضاءات مُغلقة، في حين أنّه قادم من وسط اجتماعي يَعيش تطوّرا غير مُبرمج وخارج عن سيطرة الدولة، مفتوحا على كل الاحتمالات وعلى الأخصّ منها احتمالات التأزم واللايقين وافتقاد مؤشرات التموقع الاجتماعي.

المفكرة: هل نحن بصدد الحديث عن خَيط ناظِم بين إعادة تشكّل الطبقات الوسطى وبين “البروفيل” اليساري الجديد؟ 

السعيداني: لاَحِظ معي أنّ القاعدة التي تشترك فيها عناصر الطبقات الوسطى الجديدة التي كنتُ أقصدها في جوابي على سؤالك السابق هي تعبيرَها “المُذوَّت” على المطلب الاجتماعي. وأقصد هنا التعبير السياسي باعتماد المنظور الذاتي للأشياء، ولكن ليس بالمعنى الفرديّ النّفسيّ. وسَأُحَاول شَرح مَا أقول بمحاولة تنمِيط ملامح الشاب(ة) الذي يَنتمي إلى الجيل اليساري الحالي.

عموما هو شابّ (ة) يُراوح ما بين العشرين وما بعد الثلاثين من العمر بقليل، ولدَيه تجربة في الحركة الطلاّبية ولكنّها على الأغلب على هامش الاتحاد العام لطلبة تونس أو غير راضية عن أدائه، ولديه تناقضات مع التصورات والأطروحات اليسارية السائدة والخطابات السياسية المُؤدلَجَة المنبثقة عنها وخاصة تلك الخطابات التي تكرّست في الجامعة عبر اتحادات أو تشكيلات سياسية يسارية. ولديه أيضا نزوع نحو الاستقلالية عن العمل السياسي المنظّم بوجهِه القائم في الأحزاب خاصة. عُمومًا لديه تجربة نقدية مع الحركة الطلابية لأنها وقَعَت تحت سيطرة اليسار الذي يعتبره “من القديم”. وقد أفرزت هذه العلاقة النقدية نوعا من الانتقائية في المواقف السياسية، إذ بإمكان هذا الشاب أن يُوافق على بعض المحاور التي يتضمنها بيانٌ مَا للاتحاد العام لطلبة تونس ويرفض محاور أخرى، لأنه ينظر إلى المسائل من منظوره الذاتي الخاص. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى أيّ بيان أو موقف أو ممارسة سياسية في علاقة بأيّ تشكيل يساريّ.

لا ينبع هذا التشظّي في التصوّر وفي التركيب الخاص لرؤية الأشياء الذي أسميْته “التذويت” من عدم قدرة الأطر اليسارية التقليدية على خلق حالة من التجانس النظري وتعميمها فحسب، بل لأن فكرة التجانس في حدّ ذاتها باتت مرفوضة، على عكس الأطروحة السابقة التي تقوم على فكرة التجانس الأيديولوجي والسياسي بين عناصر تنظيم سياسي يساري مُعيّن. إن الوحدة الفكرية التي تستدعي الانضباط التنظيمي والالتزام بالهَرميّة وفوقية الأوامر أصبحت مرفوضة وغير ذات جدوى لدى عناصر هذا الجيل. ما هو أفق هذا الرفض؟ هو الاتّجاه نحو التعبير عن الذات بوصفها ذاتًا متمرّدة. لاحظ في هذا السياق تواتر الشعور بـ”التّكرِيز” (أي الغضب).

لهذا السبب تحدثتُ عن مأزق الطبقات الوسطى التي تُركَت لحالِها في مواجهة أوضاع اقتصادية واجتماعية متزايدة التّدهور، وهي الأوضاع التي تفجّرت في 2008 في الرديف ثم في 2010. لم يَبرز لهذه الطبقات مُمثّل سياسي يمكن أن يقودها في طريق حلّ مآزقها.

أضيف مثلا آخر يمكّننا من فهم أعمق لما كنتُ بصدد شرحه. تحدثت منذ قليل عن المركزية النسبية للحركة الطلابية، التي كانت بمثابة المرور الإجباري لعناصر هذه الفئات والعناصر اليسارية، وهو ما أعطاها دُربة على خوض معارك ظرفية وموقِعية ضد إدارة كليّةٍ معيّنة أو مبيت جامعي ما. عادة ما تكون مطالب هذه المعارك تفصيلية. ولكن المعركة الكبرى للحركة الطلابية مثل نظام التعليم وموقع الجامعة داخل المجتمع ظلت غائبة. لماذا تَغيب هذه المعركة؟ هناك تحوّل لموقع الجامعة داخل المجتمع. هي لم تعد تَضمن موقعًا في سوق الشغل، خصوصا منذ نهاية التسعينات، حيث ارتفعَت طاقة استيعاب الجامعة لتستقبل وافدين جددًا كل سنة ويغادرها عشرات الآلاف، في حين بقيَت سوق الشغل محدودة الانفتاح، بل انغلقت في قطاع الوظيفة العمومية. وأصبح الاستثمار الكبير والمديد الذي تبذله العائلات في تعليم أبنائها يُواجَه بانسداد كبير في سوق الشغل. وقد أنتج هذا أحد مظاهر عجز الطبقات الوسطى على تجديد نفسها ديمغرافيا وبشريًّا.

المفكرة: في ظلّ هذه الآفاق المسدودة، لماذا لم يظهر مشروع يساري يُجيب عن هذه المآزق ويُعطيها وِجهة تاريخية وسياسية جديدة؟

السعيداني: إن المنطق السياسي يقول عادة أنه عندما لا يكون الأفق موجودا يظهر مشروع سياسي يزوّدُنا بهذا الأفق ويُعطِينا إمكانية النضال من أجلِه. وأعتقد أنه منذ البداية كانت هناك مشكلة في صياغة الفكرة والأفق السياسي لدى تشكيلات اليسار. لقد مررتُ في شيء من العجالة على كيفيات تفاعل تشكيلات اليسار مع تجدّد المسألة الاجتماعية. في هذا التفاعل، تم الاكتفاء بفكرة مطلب العدالة الاجتماعية مع حضور مُتفاوت للنضال ضد الاستبداد. ولكن، احتلت فكرة التنظير للثورة مساحة كبرى في الأفق الفكري اليساري، وتطوّرَت في شكل صراعيٍّ بين أطروحتي “الثورة الاشتراكية” و”الثورة الوطنية الديمقراطية”. وبين هذا (مطلب العدالة الاجتماعية والديمقراطية) وذاك (استظهار تنظيرات- سجالات حول الثورة) كانَ هناك عجز رهيب على صياغة التكتيكات. أمّا في الجانب الاستراتيجي فدائما ما يتمّ الاطمئنان إلى الصياغات العامة. تجربة 18 أكتوبر 2005، على سبيل المثال، وردود الأفعال اليسارية إزاءها، أظهرَت تخبّطاً كبيرا في الخيارات التكتيكية لليسار وأفرزت انقساما حادَّا داخل تشكيلات اليسار حول التحالفات الممكنة حينها. أما التفكير في الحلول العمليّة لتحسين أوضاع عموم الناس والإجابة على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقد ظلَّ تحت السقف النقابي عامّة، واكتفَى بما تَرسمه الممارسة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل تحديدا.

عمومًا بالنسبة إلى التشكيلات اليسارية في مختلف المجتمعات، فإنّ تنظير التحوّلات الاجتماعية والطبقية ومَفْهَمَة علاقة الدولة بالمجتمع يَفتح على إمكانيات جديدة للحركة النضالية. لكن القُدرة على قراءة هذه التحولات ظلّت ضعيفة جدّا داخل التشكيلات اليساريّة التونسية، إذ لم تنتبه إلى أعماقها، وهو ما سَاهَم في صعوبة صياغة التكتيكات. بل يمكن الملاحظة أنّه حين تأزّمَت ظروف الطبقات الوسطى مرة أخرى بعد 2011، توجّهت التشكيلات اليسارية أكثر فأكثر نحو المحافظة. العديد من الإجابات الاجتماعية الآتية من داخل الطبقات الوسطى على أزماتها المُتعاقبة منذ أواخر تسعينات القرن العشرين كانت مُحافظة. حتّى تلك التي قد تبدو تقدمّية فهي لا تقلّ مُحافظة لأنها تدور في حلقة “حماية المكاسب” وعدم “خسران المزيد” من خلال العمل على تفادي شبح الفقر بترديد مطالب الزيادة في الأجور وكسر سقوف الترقيات المهنية مثلا. أمّا بالنّسبة إلى الإجابات السياسية الآتية من داخل تشكيلات اليسار على الأزمات الاجتماعية المتتالية ففيها الكثير من عناصر المحافظة هي أيضا. عندما طُرحَ سؤال إعادة بناء العلاقة بين المجتمع والدولة إثر الثورة، تمثلَت الإجابة التي تدّعي التقدمية في العودة إلى “البورقيبية”. لقد أدّى عدم القدرة على بناء تكتيكات واستراتيجيات واضحة تجيب على أوضاع ما بعد 2011 إلى الرجوع إلى أطروحات مُناقضَة للأطروحات الأصلية لليسَارَات المختلفة.

وفي رأيي ليست محافظة الطبقات الوسطى في معزل عن محافظة اليسار والعكس أيضا صحيح. بل أكثر من هذا، أدّى هذا العجز في بناء أفكار كُبرَى إلى مواجهة بين المحافظات المترسخة داخل نفس الطبقات الوسطى من خلال صياغة ردود أيديولوجية وليست سياسية، مثل اعتبار كلّ الأطروحات السياسية ذات الأساس أو المنبع الديني أو القومي (في معنى القومي العربي) “رجعيّة” بالضرورة ومن دون تمييز. لقد ظلّ العجز عن قراءة الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية وعلى إحداث تحوّل في الأطروحات وعلى اجتراح مواقف تنسجم مع آفاق جديدة مُصاحبا لغالب أنماط التفكير التي يتّبعها المنحدرون من الطبقات الوسطى، بما في ذلك “نمط التفكير اليساري”. وفي اعتقادي أن الرّاحل جلبار النقاش حَاوَل بشكل أو بآخر الانخراط في فهم متجدّد للماركسية والانفتاح على الطاقات الجديدة التي أفرزتها الثورة. ولكن لم يكن الوقت والعمر ليسمحا له بإتمام ذلك. ما بَقي هو أن يسار جيل الستينات وما بقي منه عندَما وجَدَ فرصة ذهب في اتجاه إعادة بناء سرديّاته التذكّرية، وفيها ما هو منغلق على ذاته. مراجعة الذاكرات وبناء السرديات مهمّ، ولكنها لا تنفتح دائما على بناء المستقبل. وعلى العموم، اليسارات القديمة استهَانت بطاقات اليسارات الجديدة، والعكس أيضا صحيح. ومشروع جمعية “نشاز” يُعتبر في هذا السياق محاولة لتلافي ذلك.

المفكرة: ماذا عن جِيل اليسار الجديد هل تعتقد أنه نجحَ في الخروج من وضعية اليسار المأزقية؟

السعيداني: أعتقد أن هذا الجيل سَاهَم في خلق زخم ّداخل الحرَكَات والحملات الاحتجاجية المطلبية. ولكنّه زخم لم يتحوّل إلى بلورة مطلب سياسي واضح، وحتّى المَطلب الواضح عندما وُجد لم يتحوّل إلى مشروع تغيير. المِثال الأبرز هنا هو حملة “مانيش مسامح” (لن أسامح) التي استطاعت تغيير موازين القوى في فترة مَا من خلال العمل على نقطة محدّدة -تمثلت عبقرية الحملة في تعيينها بوصفها نقطة مفصلية كاسرة لتوازن السلطة الحاكمة حينها- ولكنها في نهاية المطاف لم تنتقل إلى وَضع منطلقات تفكير وعمل واضحة لمشروع سيَاسي يَهدف إلى التغيير الاجتماعي الشامل.

هناك معطَى آخر يجب أن نأخذه بأهمية لأنّه قد يُفسر ما كنت بصدد قوله حول حملة “مانيش مسامح”، وهو أن اليسار الجديد بعد الثورة لديه نزعة “سيَاقيّة”، أي أنه مرتبط بتحوّلات السياق السياسي كما يقرؤها هو. هو أكثر قدرة على الاطّلاع على التجارب من دون الارتباط بأدبيات حزبية مُبرمَجة في اتجاه مُعيّن. ويرتبط هذا بنوع من ديكولونيالية التفكير وإعادة بناء الفكرة اليسارية بطريقة مختلفة عما كان سائدا حتى الآن، حيث لا يحتاج بالضرورة إلى المرور بباريس أو أية عاصمة أوروبية أخرى أو حتى غير أوروبية، وإنّما يمْكِنُهُ الاستفادة من تجارب وتنظيرات من بلدان مختلفة من الجنوب. والانفتاح على القراءة باللغة الانجليزية مُهمّ جدّا في هذا الصدد لدى الكثير من عناصر هذا اليسار الجديد.

وفي مظهر آخر من مظاهر سياقية هذه المجموعات اليسارية الجديدة، يبدو أن هذا الجيل صَرفَ النظر عن ضرورة تصوّر فكرة تنظيمية جماعية ثابتة. لأن فكرة عدم وجود قيادات وعدم الالتزام بهَيكلة تنظيمية مُلزمة نوعا ما أعطى للكثيرين قدرة أكبر على الاستجابة للسياق وعلى خوض معارك غير مرتبطة بالضرورة ببناء تنظيمي وسياسي جامع، وكأن هذه المسألة أصبحت خارج مطلوبهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني