حكم يعيد بحر الميناء إلى الدولة: أول حالة استعادة لمال منهوب


2022-02-20    |   

حكم يعيد بحر الميناء إلى الدولة: أول حالة استعادة لمال منهوب
المصدر: المفكرة القانونية | رسم: رائد شرف

أصدر القاضي المتقاعد نزيه عكاري بتاريخ 15 شباط 2022 حكماً أعاد بموجبه مساحة تقارب 30 ألف متر مربع من شاطئ الميناء إلى الدولة، مُنهياً بذلك عمليّة استيلاء على هذه المساحة استمرّت ثماني سنوات. وكانت هذه القضية بدأتْ حين استجاب القاضي نفسه في 22 شباط 2014 بصفته مُشرفاً على أعمال الضمّ والفرز في الشمال لطلب ورثة آل الشبطيني بتسجيل هذه المساحة كملك خاصّ لهم، بعدما ادّعوا أنّها سقطت سهواً عند إفراز المنطقة ضمن الأملاك البحرية العامة. وما كان لهؤلاء أن ينجحوا في مسعاهم لولا تأييد وزير الأشغال العامة الأسبق غازي العريضي لهذا المسعى في عدد من مراسلاته. والملفت أنّ القاضي برّر قراره باستعادة المساحة بأنّه تمّ “تضليله” بعدما حجبتْ الجهة المستدعية عنه وقائع مؤثرة أهمّها صدور أحكام قضائية (بعضها منذ الستينيات) مبرمة قضتْ بأنّ العقار يدخل ضمن الملكية العامة. ويلحظ هنا أنّ القاضي توصّل إلى قراره الأخير تبعاً لاعتراضات عدّة أبرزها الاعتراض الذي قدّمته البلدية التي يقع الشاطئ ضمن نطاقها (الميناء) ومجموعات بيئية ومدنية (جمعية الخطّ الأخضر والحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء) بالتعاون مع المفكرة القانونية.  

وبذلك، تكون الدولة قد استعادتْ مُلكاً عامّا ثميناً سُلب منها، في حالة هي الأولى من نوعها منذ انطلاق خطاب استرداد الأموال المنهوبة تبعاً لانتفاضة 17 تشرين. وهو ملك ثمين ليس فقط بفعل قيمته التي تقدر بـ 100 مليون دولار أميركي، ولكن أيضاً بفعل وظيفته، إذ تشكّل استعادة هذه المساحة شرطاً لضمان استمرارية الشاطئ ولتنفيذ التصاميم التوجيهية للمدينة والتي تجعلها جزءاً من منتزهِها العام. 

وكانت “المُفكرة” قد واكبت المراحل المختلفة لهذه القضية، قضائياً نيابةً عن الخط الأخضر والحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء وأيضاً في الخطاب العامّ بهدف تنبيه الرأي العامّ إلى خطورة الاستيلاء على هذه المساحة من البحر وأهمية استردادها مع وضع السلطات العامّة أمام مسؤولياتها في ضمان حماية الأملاك العامة. وقد وثّقتْ “المفكّرة” في هذا الإطار هذه المراحل كافة في سلسلة مقالات تناولت فيها تباعاً مسار القضية والحراك العام الحاصل حولها وصولاً إلى عرض تطوّراتها تبعاً لحراك 17 تشرين وهي التطورات التي كان لها دور أساسي في تحقيق هذا الإنجاز. 

المواطن ليس متطفّلاً بل درع للدولة 

أوّل أبعاد الحكم الصّادر في هذه القضية هو تكريسُه دور المواطن في حماية الصالح العامّ والدولة. وهذا ما نستشفّه بوضوح من قبول صفة الخط الأخضر (وهي جمعية بيئية) والمواطن سامر أنوس (وهو أحد سكان الميناء والأهمّ أحد أعضاء الحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء). وبذلك فتح الحكم باباً واسعاً أمام المواطنين والجمعيات المختصّة للدفاع عن الدولة وبخاصّة في حال تخلّى المسؤولون العامّون عن مسؤولياتهم في هذا الخصوص كما حصل في هذه القضية. فلا تُترك الدولة فريسة في يد كلّ من ينجح في الاستيلاء على أملاكها بفعل تواطؤ أو إهمال المسؤولين العامين فيها.

ولإدراك أهميّة هذا البعد، يكفي التذكير بما أسمتْه “المفكرة” “معركة الصفة والمصلحة”، وتحديداً في حديثها عن مآل الدعاوى التي تقدّمت بها جمعيات بيئية للدفاع عن الأملاك العامة البحرية أمام مجلس شورى الدولة، والتي انتهى العديد منها بردّها شكلاً بحجة انتفاء الصّقة لدى هذه الجمعيات من دون إيلاء أيّ اهتمام لما كشفته من مخالفات جسيمة. ولعل أسوأ القرارات التي سجّلها مجلس شورى الدولة في هذا الخصوص، القرار الصّادر في الطعن المقدّم من الحملة المدنية لحماية شاطئ الدالية بشأن المنطقة العاشرة والذي ضيّع حق بلديّة بيروت باسترداد مساحة تقارب 4000 آلاف متر مربع من الأملاك العامة فيها. ومنها أيضاً القرار الصادر في قضية الطعن في مرسوم إشغال الأملاك العامة في منطقة الناعمة والذي ردّ الطعن هنا أيضاً بحجّة انتفاء الصفة والمصلحة، علماً أنّ هذا القرار صدر ليس بأكثرية أعضاء المحكمة وليس بإجماع هؤلاء بعدما حرّرت القاضية لمى ياغي رأياً مخالفاً شدّدت فيه على أهمية تمكين الجمعيات البيئية من ممارسة دورها في الدفاع عن البيئة والأملاك العامة. ويستشفّ من هذا الرأي المخالف بدء تحوّل لدى القضاة الإداريين وبخاصّة لدى الفئات الشابة منه يؤمل منه أن يضمن للمواطن إمكانية الدفاع عن الأملاك العامة والأهمّ أن يضمن للقاضي إمكانية أداء دوره في حمايتها وإبطال أي تخلّ أو تفريط بها. 

ويأتي تالياً قرار القاضي عكاري بمثابة تأييد لهذه الآراء المتزايدة وإن بقيت أقلوية داخل مجلس شورى الدولة، ليس فقط من خلال قبوله للاعتراض المقدّم من الناشطين البيئيين والمدنيين، ولكن أيضاً من خلال إبرازِه أهميّة تخويل هؤلاء الدفاع عن الأملاك العامة. فقد كان من الممكن أن نخسر هذه المساحة نهائياً لولا تدخّل هؤلاء لدعم بلدية الميناء، تماماً كما سيحصَل في قضية المنطقة العاشرة إذا لم يوافق مجلس شورى الدولة على إعادة المحاكمة فيها. 

يبقى أن نشير في هذا الخصوص إلى أنّ دور المواطنين تجلّى في هذه القضية ليس في تقديم الدعوى وحسب، وإنّما أيضاً في تأثيرات انتفاضة 17 تشرين على مواقف المسؤولين العامين الذين تراجعوا تباعاً خلال الأسابيع التي أعقبت هذه الانتفاضة وتحت وطأتها عن مواقفهم السابقة باعتبار هذه المساحة ملكاً خاصاً. ولعلّ أهمّ هذه التراجعات تراجع وزير الأشغال العامة ميشال نجار في حكومة حسان دياب عن المواقف والقرارات الصادرة عن سلفيْه غازي العريضي ويوسف فنيانوس في هذا الخصوص. 

كيف نحاسب من استباح أو أباح الاستيلاء على الملك العام؟ 

ثاني أبعاد الحكم هو أنّه يكشف عن قضية فساد، تمكّن فيها أشخاص من الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأملاك العامة البحرية بفعل تواطؤ الوزير المختصّ بحمايتها معهم. وهذا ما أشار إليه القاضي عكاري بقوله إنّه اتخذ قراره السابق بعدما تمّ تضليله من قبل هؤلاء. وعليه، يتعيّن على النيابات العامّة المختصّة وضع يدها على الملف بصورة فورية لإجراء الملاحقات القضائية في هذا الخصوص بحق هؤلاء وكل من تواطأ مهم من مُحامين أو مسؤولين عامين لتحقيق غاياتهم، على خلفية ارتكابهم جرائم عدّة من صرف نفوذ ورشوة واستيلاء على ملك عام واحتيال على القضاء.    

ولا يكفي في هذا الخصوص ملاحقة العريضي على خلفية الطلب الموجّه منه إلى القاضي عكّاري بتأييد مطالب ورثة آل شبطيني، إنّما أيضاً خلفه يوسف فنيانوس الذي أيّد في مجمل مُطالعاته المقدّمة في إطار هذه القضية المطالب نفسها، رافضاً في المقابل مجمل الطلبات المقدّمة إليه من الجهات المعترضة لممارسة دوره في حماية الملك العام، متذرّعاً بقدسيّة الملكية الخاصة.

استرداد الأملاك البحرية المعتدى عليها 

أخيراً، نأمل أن يشكّل القرار محفّزاً لممارسة الإدارات العامة والنيابة العامة التمييزية دورها في استرداد الأملاك البحرية المعتدى عليها منذ عقود وعلى طول الشاطئ، وبخاصة بعد انقضاء كلّ المهل لمعالجة المخالفات بموجب قانون 64/2017 والتعديلات الطارئة عليه. فلنراقب.    

اضغطوا هنا لتحميل الحكم القضائي

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، أملاك عامة ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، تقاضي استراتيجي



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني