وتستمرّ معركة الصّفة والمصلحة أمام مجلس شورى الدولة اللبناني: مخاوف من تجريد الدولة من آخر المدافعين عنها


2020-06-27    |   

وتستمرّ معركة الصّفة والمصلحة أمام مجلس شورى الدولة اللبناني: مخاوف من تجريد الدولة من آخر المدافعين عنها

ثمة معركة بالغة الأهمية تجري في كواليس مجلس شورى الدّولة. معركة بالإمكان أن نسمّيها معركة المصلحة أو الصّفة بالتقاضي. فكلّما طعن مواطن أو مجموعة مواطنين (جمعية مختصّة) بقرار إداري لإخلاله بالشرعية وربما بالدستور، بادرت “السلطة” (قد تكون الدولة أو بلدية أو شركة خاصة نافذة) إلى الطعن بصفة الجهة الطاعنة، بهدف ردّ الدعوى شكلاً من دون حاجة للنظر في تفاصيلها. وهي تزيد لجوءها إلى هذه الحجة بقدر ما تضعف حجّتها في الدفاع عن شرعية قراراتها أو يكون دفاعها عنها مستحيلاً وغير أخلاقي، وعملياً تتفاقم عدم شرعية قراراتها. فكلما عجزت هذه “السلطة” عن إقناع الرأي العام بصحّة قراراتها، تتمترس وتنكفئ إلى الطعن بالصفة والمصلحة. ولسان حالها هو أنّه ليس للمواطن صفة أو مصلحة للدفاع عن الصالح العامّ، عن البيئة أو الملك العام أو حقوق المستهلك … إلخ. فأيّ عمل منه في هذا الإتجاه يشكل تطفّلاً على السلطات العامة التي تبقى هي وحدها صاحبة الصّفة للدفاع عن الصالح العام، بالنيابة عن الناس كافة. ومن اللافت أنّ هذا الخطاب يجد من يقوله والأسوأ من يسمعه في زمن اختلّ فيه بدرجة كبيرة عمل مؤسسات الديمقراطية التمثيلية وانغمست غالبية الإدارات العامّة في الفساد وفي ممارسات المجاملة لكلّ نافذ. كما أنّ الإدارة العامّة لا تتورّع عن استخدامه رغم صدور قوانين توجب على المواطن الدفاع عن البيئة ومصادقة الدولة على معاهدات دولية تلزمها بتشجيع المواطن على الكشف عن الفساد ومكافحته (المادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد).  

وعليه، شهدنا هذه المعركة في مجموعة كبيرة من الدعاوى، منها الدعوى التي كان تقدّم بها الوزير السابق شربل نحاس ورفاقه على خلفية استمرار أعمال الجباية والاستدانة والإنفاق في غياب قوانين الموازنات العامة في فترة (2006-2016). كما تمّ إشهارها مؤخراً في دعاوى الطعن في مرسومَي إشغال الأملاك البحرية في الناعمة وذوق مصبح، وأيضاً في قرار مجلس الوزراء بمنح مهل إدارية للكسارات العاملة خلافاً للقانون. فكأنما لا صفة للمواطن بأن يدافع عن الصّالح العام أمام المحاكم. وهو في جميع هذه الصّور مواطن متطفّل، مواطن محكوم بالقوّة. هنا سنتوسّع في قضيّتي رخصة بناء الـ”إيدن باي” والمرسوم السري (منطقة الدالية) إبرازاً لحجم المشكلة.

إنتفاء الصفة كلمة السرّ في قضية الـ”إيدن باي” للرجوع عن وقف تنفيذ الأعمال

اكتست قضية تشييد مبنى الـ”إيدن باي” على الرملة البيضاء، المتنفّس الأخير لسكان بيروت على البحر، رمزية عالية في الخطاب العامّ. وفيما اضطرّت الشركة في بادئ الأمر إلى وقف الأعمال تنفيذاً لقرارات قضائيّة ألزمتها بذلك، تكوّنت بسرعة ما يشبه كلمة سرّ في مجمل الدوائر المعنيّة لحثّ مجلس شورى الدولة على الرجوع عن مقرراته في هذا الشأن. كلمة السرّ هذه جاهرت بها الدولة ومن ثم بلدية بيروت ومن ثم مفوّض الحكومة، وتمثّلت في التأكيد على انتفاء الصفة والمصلحة لدى جمعية “الخطّ الأخضر” للإدّعاء، بما يتعارض أحياناً مع أقوالهم السابقة. وفيما قدّمت المدعية “الخط الأخضر” 11 حجة لتبرير إبطال الرخصة (أكد على صحة غالبيّتها نقيب المهندسين في بيروت)، تجاهلت ردود هؤلاء بشكل عام هذه الحجج لتقتصر على مسألة انتفاء الصفة والمصلحة. فأن تثبت الإدارة العامة إلتزامها بالقانون ليس مهمّاً، المهمّ بالنسبة إليها هو إنكار دور المواطن – أي مواطن – في الدفاع عن البيئة أو الملك العام أو أيّ من المصالح العامة الأخرى. وعليه، وبسحر ساحر، بدا كأنما قضية الدفاع عن الملك والصالح العامّين في وجه شركة نافذة، تحوّلت بنظر المؤسسات العامة إلى قضية محورها الدفاع عن صلاحيات الدولة في حماية الصالح العام ضد جميع مواطنيها.

الإشارة الأولى في هذا الصدد صدرت عن بلدية بيروت بالطعن بصفة “الخط الأخضر” بالإدعاء. واللافت أنّ هذا الموقف جاء مخالفاً لمواقف سابقة للبلدية أكدت فيها على صفة الجمعيات البيئية بالتدخّل لحماية البيئة، من دون أن تستشعر أيّ حرج في نقض مواقفها السابقة. فكأنما صفة الجمعيات البيئية بالتقاضي مسألة نقبلها أو نرفضها على ضوء مصالحنا أو مزاجنا.

في الإتجاه نفسه، ذهبت هيئة القضايا، ممثّلة الدولة أمام مجلس شورى الدولة، والتي كانت أيّدت الدعوى في موضوعها سابقاً. واللافت أنّ الهيئة أفردت 8 صفحات معلّلة لنفي صفة “الخط الأخضر” ونصف صفحة لنفي صحة مجمل الحجج الإحدى عشرة الأخرى من دون أي تعليل. وقد عبّرت الهيئة عن موقفها في خطاب إقصائي شديد الدّلالة: “أنّ لهذه الأملاك العامة البحرية مرجعها المختص لحمايتها، وهي المديرية العامة للنقل البري والبحري لأنها تمثل الدولة المالكة الأساسية لهذه الأملاك في حمايتها والدفاع عنها ومنع كل اعتداء عليها، ولا يحق لأي كان سواء أكان شخصاً معنوياً خاصاً أو عاماً أو طبيعياً جذب هذه الصلاحية لنفسه وإحلال نفسه محلّ الدولة”. وبالطبع، هذه الحيثية، التي تصلح كمادة للتدريس حول توجّهات الدولة واهتماماتها، تغني عن أيّ تعليق. فبدل أن تشكر الدولة المواطن على قيامه بالدفاع عن الملك العام، اختارت أن تخاصمه تمهيداً لإخراجه من الدعوى. ومن الإنعكاسات العملية لهذا الطرح أن بالإمكان تحصين مجمل الإعتداءات على الملك العام إزاء أي دعوى قد يقيمها أي مواطن، بمجرّد ضمان تواطؤ المديرية المذكورة أو على الأقل تقاعسها عن القيام بأي عمل لوقف التعدي. وما يجعل حماسة هيئة القضايا في الدفاع عن حصرية الدفاع عن الأملاك العامة البحرية موضع إستهجان، هو أنّها تدافع عن صلاحيات حصرية ثبت عجز إدارات الدولة عن ممارستها، فتراكمت في سجلّاتها على مدى العقود السابقة إشارات على آلاف التعديات على الأملاك العامة، من دون أن يكون لديها أي قدرة على جبهها أو وضع حدّ لها. فكأنّما الهيئة ترمي من خلال حصر الدّفاع عن الملك العام بإدارات الدّولة إلى إعطائها حقاً استنسابياً بالقيام أو عدم القيام بذلك، وعمليّاً إلى تذكيّة الأعراف التي سارت عليها هذه الإدارات العامة ومحورها المحاصصة والمجاملة والفساد.

ورغم فداحة هذا الموقف، لم يجد مفوض الحكومة بدوره حرجاً في التراجع عن موقفه السابق بطلب وقف تنفيذ رخص البناء، ليطالب بدوره بالرجوع عن قرار وقف التنفيذ على ضوء انتفاء الصفة والمصلحة.

هذه المواقف المتناسقة التي ذهبت كلّها في الإتجاه نفسه، تبيّن مسار المواجهة المجتمعية المقبلة: الدفاع عن حق التقاضي، مهما كان مضنياً، في مواجهة التقاعس المزمن والمتمادي لإدارات الدولة في حماية الصالح العام. فمن غير المقبول أن يبقى الملك العام سائباً أو أن يعتبر أي كان أنّ حماية البيئة مسألة عاطفية أو رومانسية في تجاهل تامّ لكل القوانين الملزمة.

المحافظ البهلوان

في خضمّ الإعتراض على تغيير معالم الدالية، اكتشف ناشطو الحملة الأهليّة للدفاع عن الدالية ما بات يُعرف بالمرسوم السرّي وهو المرسوم رقم 169 الصادر بتاريخ 21/10/1989. هذا المرسوم رمى إلى تغيير النظام المعمول به في ما يعرف بالمنطقة العاشرة التي تقع الدالية ضمن محيطها، وتحديداً من خلال تحرير مالكي العقارات الراغبين بإقامة منشآت عليها من التخلّي عن 25% من مساحتها لصالح بلدية بيروت. وأخطر من ذلك، رمى المرسوم إلى إعادة الأملاك العامة التي كانت انتقلت لبلدية بيروت بموجب هذا النظام إلى أصحابها من دون أي بدل. وقد تبدّى أنّ المستفيد الرئيسي من هذا المرسوم هو صاحب العقار الملاصق للدالية، والذي كان تخلّى عن 25% من عقاره في أوائل الثمانينيّات تبعاً لحصوله على ترخيص لبناء فندق “ميريلاند” (حيث أنشئ اليوم فندق “موفنبيك”). كما تبدّى أنّ المساحة المتخلّى عنها بموجب هذا المرسوم قاربت 5400 متر مربّع أي ما تعادل قيمته بالحد الأدنى خمسين مليون دولار.

بعد تأخير تسعة أشهر من التكليف المعطى لبلدية بيروت بإبداء الرأي بشأن هذه الدعوى، قدّمت لائحة مفصّلة أيّدت فيها تماماً مطالب المستدعية بوجوب إعلان بطلان المرسوم السري لمخالفته القانون. واللافت أنّ بلدية بيروت استفاضت في لائحتها تلك في الدفاع عن صفة الجمعيات البيئية بالدفاع عن الملك العام وحق الولوج إلى البحر. وقد استعانت البلدية بقانون حماية البيئة لا سيما المواد 3 و29 و33 منهية دفاعها بما حرفيته: “يبدو واضحاً من النصوص أعلاه، أنّ القانون منح الصفة لكل مواطن أن يدّعي فيما خص حماية البيئة والحفاظ على مواردها الطبيعية بما فيها الحفاظ على الأملاك العامة البحرية ومناطق الشاطئ”.

في موازاة ذلك، انخرطت بعض الجمعيات المدّعية في قضية المرسوم السرّي في التنديد بالرخصة التي منحها محافظ بيروت (بصفته التمثيلية لبلديتها) لإنشاء فندق الـ”إيدن باي” والمشار إليها أعلاه. تبعاً لذلك، لم تجد بلدية بيروت حرجاً في قلب موقفها رأساً على عقب. فبعدما أدلت في قضية الـ”إيدن باي” أنه ليس للجمعيات البيئية أي صفة أو مصلحة في الدفاع عن الأملاك البحرية بما يناقض موقفها في دعوى المرسوم السري، عادت لتفجّر المفاجأة الكبرى من خلال تراجعها عن أقوالها السابقة في سياق هذه الدعوى نفسها، مدعية أنه ليس للجمعية البيئية أي صفة أو مصلحة في الدفاع عن الأملاك البحرية. وإذ ذكرتها الحملة بتناقضاتها وبقاعدة “من سعى إلى نقض ما تمّ من جهته يكون سعيه مردوداً عليه”، برّرت البلدية موقفها بعذر هو أقبح من ذنب جاء حرفياً: “أنّ الدفاع عن موقف الجهة المستدعية في هذه المراجعة سيؤثر أو سيتخذ حجة عليها في المراجعات العالقة”. (والمقصود قضية إبطال رخصة الـ”إيدن باي” المشار إليها أعلاه).

وعليه، تكون البلدية بررت تراجعها عن موقفها ليس بتغيّر قناعاتها، بل بحجة براغماتية قوامها “تفادي استعمال أقوالها ضدها” في قضية الـ”إيدن باي”. ومن نافل القول إنّ موقفها في هذا الخصوص إنما يعني أنّ بلدية بيروت تولي تحصين رخصة بناء الـ”إيدن باي” إزاء أي مساءلة قضائية أهمية أكبر من اضطلاعها بواجبها في الدفاع عن الأملاك العمومية للبلدية تمهيداً لاسترداد آلاف الأمتار من الأملاك المنهوبة والتي لا تقل قيمتها عن 50 مليون دولار أميركي. وقد بدت البلدية بذلك وكأنها لا تجد حرجاً في التستّر على قضية نهب مال عام بهدف صون ما أنجزته مؤخراً من صفقات تحوم شبهات كبيرة حول فسادها. مجرد النظر في تحوّل هذه المواقف وأبعادها يشكل حجة قاطعة تملي علينا وجوب توسيع قبول الصفة والمصلحة بالطعن في قرارات الإدارات العامة.

  • نشر هذا المقال في العدد | 65 | حزيران 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

The Battle Over Capacity and Standing Continues in Lebanon’s State Council

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، أملاك عامة ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني