نشرت “المفكرة القانونية” في العام 2019 مقالة من جزئين عن قضية العقار الوهمي في الميناء. الجزء الأول تحدّث عن المسار التاريخي لقضية العقار الوهمي والذي أدّى إلى نشوء عقار خاص في البحر، أمّا الجزء الثاني فتحدّث عن التحرّك الشعبي المصحوب بتحرّك القانوني للدفاع عن الشاطئ والأملاك العمومية. وبمناسبة اقتراب موعد صدور القرار القضائي في هذه القضية، فهي تنشر جزءاً ثالثًا تبحث فيه آخر تطورات الملف والذي كان لحراك 17 تشرين دفع إيجابي بشأنه، آملين بأن ينتهي القرار إلى استعادة الأملاك العامة ومعها استمرارية شاطئ الميناء في طرابلس.
تبعاً للدّعاوى المقدّمة لاستعادة ملكية مساحات واسعة من البحر وتحت زخم انتفاضة 17 تشرين، حصلت تطورّات هامّة في السنتين الماضيتين تبدّل فيها موقف الإدارة لجهة السعي إلى حماية هذه الأملاك في منطقة الميناء بعد تخلّيها الفعلي عنها بموجب قرارات ومطالعة من وزارة الأشغال العامّة وفق ما بينّاه في الجزأين السابقين من هذه المقالة. وإذ يُنتظر من القاضي الناظر في الملفّ الاستجابة للتبدّل الحاصل في موقف الإدارة، سنستعرِض في هذا الجزء أبرز تلك التطوّرات.
هيئة القضايا تحثّ الإدارة على إبداء الرأي بعد سنتين ونصف من بدء القضية
تبلّغ محامي الدولة تكليف مديرية الشؤون العقارية في وزارة المالية، بإبداء مطالعة شاملة في القضية على اعتبار أنّ الوزارة/المديرية لم تبدِ رأيها أو مطالعتها رغم مرور أكثر من سنتين ونصف على إدخال الدولة في دعوى الاعتراض. والملفت أنّ رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلانة اسكندر بادرتْ بموجب كتابها المؤرّخ في 22/8/2019 إلى تفعيل هذا الطلب من خلال وضع مدة زمنية له (15 يوماً) فضلاً عن تحميل هذه الإدارة المسؤوليّة عن أيّة خسارة قد تلحق بها نتيجة أيّ تأخير في الجواب. وبهذه الخطوة، بدتْ هيئة القضايا التي وُجدت لتمثيل الدولة أمام المحاكم، وكأنّها تطوّر وظيفتها في اتّجاه حثّ الإدارات العامّة على الخروج عن صمتها لتحمّل مسؤوليتها الكاملة في الدعاوى المرفوعة ضدّ الدولة.
وبذلك، تكون هيئة القضايا في رئاستها الجديدة في صدد ممارسة دور مختلف جداً عمّا فعلته من قبل، وتحديداً عمّا فعله رئيسها السابق مروان كركبي الذي كان قد اعتبر أنّ الحكم القضائي الذي منح ورثة شبطيني العقار، مبرمٌ وقابل للتنفيذ من دون أن يُبدي أيّ اعتراض عليه رغم جسامة الأخطاء القانونية والواقعية الواردة فيه، ورغم ما تضمّنه ملفّه من وثائق حاسمة في هذا المجال.
الإدارة تتراجع عن تخلّيها عن الملك العام
تبعاً لذلك، وجدت مديرية الشؤون العقارية في وزارة المالية نفسها أمام استحقاق الردّ على الطلب الموجّه منها. وما زاد هذا الاستحقاق إلحاحاً هو انتفاضة 17 تشرين فضلاً عن الآراء المودعة في ملفّاتها والتي تناقض كلّها مآل العقار حسبما أسهبنا في تبيانه في الجزأين السابقين من هذه المقالة.
وعليه، انتهتْ المديرية إلى إبداء مطالعتها (الموقّعة من وزير المال السابق علي حسن خليل) في تاريخ 18 تشرين الثاني 2019، وهي مطالعة شكلت منعطفاً هاماً في موقف الدولة في حماية أملاكها المعنيّة في هذه القضية بعد طول تخلّ عنها. فقد خلصتْ المديرية في مطالعتها المدعّمة بـ 22 مستنداً، إلى أنّ القرار الصّادر عن الهيئة العامّة لمحكمة التمييز قد جعل القرار الاستئنافي الذي أكّد على أنّ العقار ملكية عامّة هو قرار بات ومبرم ممّا يمنع المنازعة في ذلك مجدداً أمام القضاء. وعليه، طلبت المديرية من هيئة القضايا أن تكلّف محامي الدولة الاعتراض على حكم القاضي المشرف على أعمال الضمّ والفرز بهدف تصويب الخطأ وإعادة الملكية إلى الأملاك العامّة البحرية. وقد اعتبرت المطالعة أنّ ورثة آل الشبطيني قد عمدوا إلى إخفاء أوراق حاسمة في النزاع عن قاضي الضمّ والفرز عند عرض الملف عليه في العام 2014، وهي أوراق تتناول حقائق مثبتة في أحكام البداية والاستئناف والتمييز المذكورة. كما أثارت المطالعة موضوع صدور مرسوم (رقم 16353) في العام 2006 الذي صدّق التصميم التوجيهي والنظام التفصيلي لمنطقة الميناء، والذي ضمّ القسم الغربي من العقار موضوع مطالبة الورثة إلى الأملاك البحرية واعتُبرت ضمن المنتزه البحري العام.
تبعاً لذلك، عادتْ هيئة القضايا لتطالب وزارة الأشغال العامّة والنقل في إبداء الرأي في القضية فضلاً عن إيداعها جميع المستندات المتعلّقة بالموضوع والتي تفيد الدعوى، وذلك خلال مهلة شهر. وقد سلك الطلب طريقه إلى مديريّتين من مديريّات هذه الوزارة وهما المديرية العامّة للنقل البري والبحري والمديرية العامّة للتنظيم المدني.
بناء على ذلك، أحالت في 27/1/2020 المديرية العامّة للنقل البري والبحري رأيها إلى الوزير والذي كان له وقع إيجابي إضافي على القضية. فقد أفادتْ المديرية أنّه لم يتمّ استشارتها عندما تمّت مراسلة السجل العقاري لاعتبار القسم الغربي جزءاً من العقار 220 وبالتالي طلب قيده على اسم ورثة آل الشبطيني، وهو ما يؤكّد على كمّ المخالفات التي حصلتْ خلف الأضواء لتمرير هذا القيد. كما أفادتْ المديرية أنّه في العام 2006 طُلب منها تصحيح ما أسماه الورثة “خطأ مادي” في قيد العقار (وذلك في سياق إغراق الإدارة بالطلبات التي قدمها الورثة وتحدّثنا عنها تفصيلياً في الجزء الأوّل)، إلّا أنّها أكدت في حينها أنّه ليس من صلاحيتها القيام بأعمال التحديد والتحرير للعقارات المتاخمة للأملاك العمومية البحرية. وأخيراً، أفادت المديرية أيضاً أنّه سبق وأبدت رأيها في الموضوع في العام 2001 ضمن مطالعة قدّمتها لوزارة العدل حيث طلبت عندها رد دعوى أقامها الورثة لعدم وجود أي خطأ في أعمال التحديد والتحرير، حيث أكدت حينها المديرية أنّ “الأملاك العامّة البحرية تتضمن حكماً شواطئ البحر التي لا يُمكن أن تكون أملاكاً خاصّة كما يطلب المدّعون”.
من جهتها أحالت المديرية العامّة لدى التنظيم المدني في 20/2/2020 إلى الوزير مطالعتها حول الموضوع إضافةً إلى إفادة مرفقة بها عن مصلحة الدروس في 7/2/2020 لديها تفيد بأنّ القسم موضوع النزاع هو خارج مرسوم الضمّ والفرز وأنّ دائرة الضمّ والفرز العام لم يتمّ الرجوع إليها بموضوع هذا القسم.
بناءً على ذلك، وبعد الاطّلاع على الإحالتيْن وعلى مطالعة وزارة المالية، أوْدع وزير الأشغال العامّة والنقل ميشال نجار في 9/3/2020 هيئة القضايا لدى وزارة العدل الإحالات الواردة من مديريّتيْ النقل البري والبحري والتنظيم المدني، مؤكّداً أنّ وزارة الأشغال توافق على مضمون مطالعة وزارة المالية وعلى مضمون الإحالتيْن الواردتين من هاتيْن المديريتيْن.
وبذلك، تكون الإدارات التي التزمت الصمت طيلة فترة حوالي الثلاث سنوات من إدخال الدولة في الاعتراض (7/1/2017)، قد عادت وتحرّكت عبر حثّ من القاضي وبناءً على جهد وضغط مشترك من محامي الدولة وهيئة القضايا. وهذا الأمر أدّى إلى وضعها أمام مسؤوليّاتها وألزمها باتّخاذ موقف منسجم مع المطالعات والقرارات التي تضمّنتها ملفّاتها بما يخالف ما ذهبت إليه إرادات وزارية منفردة، وبشكل خاصّ إرادة الوزراء وليد جنبلاط وغازي العريضي ويوسف فنيانوس، التي عبّرت عن ذاتها خارج أيّ سياق مؤسّساتي.
الدولة تدافع عن الملك العام.. أخيراً
بناءً على المطالعات والإحالات المذكورة أعلاه، أرسل محامي الدولة في 1/4/2021 لائحة جوابية تضمّنت تعديلاً لمطالب الدولة في القضية بما يتوافق مع مطالب الجهات المعترضة على القرار، معلّلاً ذلك بتغيّر معطيات الدعوى.
فإلى جانب التذكير بقوّة القضية المقضية المتمثلة بالقرارات القضائية المبرمة السابقة، طلب محامي الدولة إهمال كتاب الوزير العريضي الذي ضرب “عرض الحائط الحقائق الثابتة” في الملف، ومنها الأحكام القطعية القضائية ومطالعة هيئة التشريع والاستشارات والكتب الإدارية الصادرة عن وزير الأشغال الأسبق عمر مسقاوي في العام 1996 الذي رفض فيهما التصحيح بالطرق الإدارية وعن وزيرة المالية رّيا الحفّار الحسن. كما أضاف محامي الدولة أنّ آل الشبطيني قد أخفوا عمداً الحكم القطعي الصادر بخصوص هذا العقار عن القاضي المشرف بهدف تضليل المحكمة للحصول على منفعة غير مشروعة.
لم تختم بعد المحاكمة في هذه القضية التي تبقى بالغة الدلالة على كيفية تعامل الإدارة العامّة مع الملك العام في الأزمنة والعهود المختلفة التي عبرتْها. ويبقى الأمل كبيراً في أن تنتهي الدعوى إلى إقناع القاضي الناظر فيها بالرجوع عن قراره السابق ضماناً لحماية الملك العام، على غرار ما فعلتْه وزارة الأشغال العامّة التي يتحمّل أحد وزرائها السابقين المسؤولية الكبرى في ما كان يخطط له من تفريط بمساحات شاسعة منه.
اضغطوا هنا لقراءة الجزء الأوّل
اضغطوا هنا لقراءة الجزء الثاني
اضغطوا هنا للاطلاع على الفيديو حول تفاصيل القضية