حكاية ناميبيا والإهانة الألمانيّة: من بداية الاستعمار إلى بداية الاعتذار


2024-02-06    |   

حكاية ناميبيا والإهانة الألمانيّة: من بداية الاستعمار إلى بداية الاعتذار
السيدة الأولى عند يمين الصورة من الهيمبا وعند يسارها إمرأة من الهيريرو بلباسها التقليدي

حجزت ناميبيا مساحة في أخبارنا، بعد الدعوى التي أقامتْها جارتها الجنوبية ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة. حصل ذلك بعدما أعادت ناميبيا التذكير بالإبادة التي ارتكبتها ألمانيا ضد “الهيريرو” (1904-1908) وهم مكوّن من شعبها، وذلك ردّا على إعلانها مساندة إسرائيل في دعوى الإبادة المقامة ضدها. ففي 13 كانون الثاني، ذكّر رئيس ناميبيا بالإبادة الحاصلة فيها آنذاك والتي تشبه ما يحصل في غزّة، لينتهي إلى القول أن ألمانيا “لا تستطيع، من منطلق أخلاقي، التعبير عن التزامها باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، بما في ذلك التكفير عن الإبادة الجماعية في ناميبيا، في حين تدعم ما يعادل المحرقة والإبادة الجماعية في غزة”. بفعل هذا التخاطب، عاد العالم ليتذكّر هذه الإبادة التي تعرض لها شعب الهيريرو منذ أكثر من قرن بما تخللها من روايات مروعة: روايات قتل وحشي لأطفال في بطون أمهاتهم، وتعطيش للهاربين من المجازر، وتطويق وتجويع في مخيّمات الاعتقال، ثمّ شحنٌ لرفات الهيريرو إلى ألمانيا لإجراء تجارب عليها. ورغم بشاعة هذه الجريمة، فقد راوغت ألمانيا طويلا قبل الاعتراف بها وما تزال تمانع التعويض الشامل عنها وتحديدا لجهة إعادة الأراضي المستولى عليها إلى أحفاد الناجين من الإبادة. وليس أدل على ذلك من مشهد ينقله وثائقي يصور رقعة ممتدّة لخيم “الإترنيت” يعيش فيها “الهيريرو”، ويليه مشهد لقصور الألمان الباذخة، ونستمع بعدها لمالك مزرعة ألماني في منطقة الهيريرو، يقول “قبل 100 عام هذه الأرض لم تكن مسكونة على حد علمي”. وقد بدت ناميبيا وكأنها تذكر ألمانيا أنه الأحرى بها إجراء مراجعة ذاتية لتاريخها والتعويض عن المآسي التي تسببت بها بدل الدفاع عن الإبادة التي ترتكبها إسرائيل اليوم، وبالنتيجة وكأنها تعمل على تقويض مشروعية أيّ حجة قد تثيرها ألمانيا في هذا الخصوص بالنظر إلى تاريخها الذي يبقى غير صافٍ في هذا الخصوص. 

مواكبة لهذا الحدث، تستعيد هذه المقالة وقائع هذه الإبادة في سياق التاريخ الاستعماري لأفريقيا والخطوات التي اتخذتها ألمانيا لمعالجة ماضيها في ناميبيا وهي معالجة ترى هذه الأخيرة أنها ما تزال بعيدةً كلّ البعد عن تحقيق الغاية المعلنة منها.

موجز تاريخ ناميبيا قبل الاستعمار ومن بعده

بخلاف ما يصرح به بعض أحفاد المستعمرين الألمان (ومن تصريحاتهم أن أفريقيا كانت تعيش ظلاماً قبل قدوم الأوروبيين وتطويرها وأنّ الأفارقة لم يجيدوا استثمار أراضيهم كما فعل الأوروبيون)، لم يبدأ تاريخ جنوب-غرب أفريقيا (ناميبيا) مع الاستعمار. فقد وجد في ناميبيا آثار للإنسان المعاصر وأسلافه من قبور وأدوات حجريّة وفنون حجريّة يعود بعضها إلى مليون سنة[1]. هذا التاريخ وإن لم يكن مصبوغاً بعقليّة التنافس واستغلال اليد العاملة للآخرين لتحقيق الربح وزيادة النفوذ، فلا يعني أنه ظلامي أو بائس، بل مختلف كما تشرح الأنثربولوجيا الحديثة. فثقافات الشعوب التي لم تنخرط في العولمة الغربيّة، ليست أقلّ تعقيداً من ثقافتنا المعاصرة، بل مختلفة فحسب.

وتًدرج ناميبيا اليوم في لائحة الدول الأقل كثافة سكانياً، إذ يتوزّع نحو 2.7 مليون نسمة فقط على 824,292 كم مربع (تزيد عن ضعف مساحة ألمانيا)، نظراً لمناخها الجافّ وقلّة موارد المياه واتّساع رقعة الصحراء (صحراء نامبيا غرباً وكالاهاري شرقاً). لكن يوجد زراعة في بعض الأماكن الشمالية الخصبة وهي الأكثر كثافة سكانياً. أمّا تربية الماشية في صحراء ناميبيا وصناعة أواني الفخار كما والرسوم “الشامانية” على الصخور فتعود إلى فترة ألفي سنة[2]، وتشير الآثار إلى روابط معقدة بين الجماعات التي تعيش على الالتقاط والصيد والمزارعين ومقتني الماشية. وتوجد أدلة على التنقلات المستمرة لهؤلاء قبل 5000 عام من مناطق الجفاف إلى مناطق المطر. وكانت حصلت تغيّرات مجتمعيّة عميقة في البلاد خلال حقبة الاستعمار (عالم الآثار جون كيناهان)[3] حيث أنّ “العوالم التي كان يعيش فيها الناس، لم تقم في جوهرها على الإثنيّة بمعناها المعاصر، إنما على روابط القربى (kin) التي أطّرت بنّى حياتهم يوماً بيوم”، تلك الديناميّة هي التي تغيّرت مع حلول الاستعمار وسرديّاته العنصريّة.  

ويمكن القول إن أقدم سكان هذه المنطقة هم: 1- شعب البوشمن، والذين واصل قليل منهم أساليب حياته التاريخية والتقليدية. وهم يشتركون مع شعوب دامارا وناما في استخدامهم لغة النقرات، والتي يرى الأنتروبولوجيون أنها قد تكون أقدم اللغات البشريّة. 2-وشعوب الهيريرو والهيمبا، التي تناقصت أعدادها بفعل الإبادة. ويشتهر الهيريرو بارتدائهم فساتين مبهجة على الطراز الفيكتوري، ويشتهر الهيمبا بتغطية أنفسهم بمادة تسمى “الأوتجيزي” تعطي جلودهم مسحة حمراء. 3- وقبيلة أوامبو، والتي تعيش شمال البلاد حيث الزراعة الجيدة وإمكانية صيد الأسماك في الممرات المائية الضحلة. فيما وصلت شعوب البانتو (المتحدثة لغة البانتو) من وسط غرب أفريقيا إلى نامبيا في القرن الرابع عشر، وأصبحوا يشكلون غالبيّة السكّان.

منذ أواخر القرن الخامس عشر، كان الطمع وشدّة التنافس بين دول أوروبا هو المحرّض على استباحة أفريقيا. وقبل الألمان، كان أوّل الواصلين الأوروبيين إلى نامبيا البرتغالي ديوغو عام 1485 في مهمة استكشافية. لكن عموماً لم يذهب المستكشفون البرتغاليون بعيدًا داخل ناميبيا لأن الصحراء حالت دون ذلك. وقبل الاستعمار، كانت منطقة وسط وجنوب ناميبيا يسكنها الصيّادون وأصحاب قطعان الماشيّة، وكان لدى هؤلاء شبكة ممتدّة في التبادل التجاري. وفي عام 1652 أقام “الداتش” (هولندا) مستعمرة “كايب” في جنوب أفريقيا، حينها لم يكن في مخيّلة هذه الدولة استعمار منطقة واسعة من جنوب أفريقيا، إنما تأمين خط التجارة البحرية للسفن، التي لابد أن تعبر هذه المنطقة للوصول إلى المحيط الهندي.

يقول المؤرخ روي كازاغراندا أنه “توجد أسطورة تحاك حين يظهر البيض في مكان ما، مفادها أن المكان خالٍ!” لكنّه يؤكّد أنه باستثناء قارة إنتركتيكا، لا يوجد مكان في العالم تصلح فيه هذه المقولة. كانت “كايب” مأهولة بشعوب سان وبوشمن وهي شعوب تعيش على الالتقاط والصيد (يعيشون في جنوب أفريقيا وناميبيا وبوتسوانا)، وقد ساق الأوروبيون سرديّة مفادها أنهم كانوا شعوباً متخلّفة فأتوا ليعلّموهم الحضارة. وقد ارتكب الهولنديون العديد من المجازر في تلك المنطقة وبدأوا في التوسع شيئاً فشيئاً. ولم يكتفوا بالتوسّع بل كانوا يأسرون شعوب المنطقة كعبيد للاستفادة من قوة عملهم. وفي عام 1793 سيطرت السلطة الهولندية على خليج “والفيس” وسط الساحل الناميبي، إذ شكّل ميناءً جيدًا لجهة عمق مياهه. ثمّ أصبح الميناء تحت سلطة بريطانيا بعد سيطرتها على مستعمرة “كايب” عام 1797.  

وكانت فترة التحوّلات الكبرى في ناميبيا بين عامي 1730 و1870، إذ تغيّرت النظم الاقتصاديّة والمجتمعية مع حلول مركزيّة الحكم السياسي، وأصبحت ناميبيا مرتبطة بالشبكة الإقتصادية حول “كايب”[4]. ذلك أن ناميبيا كانت محاصرة بمستعمرتيْ البرتغال (أنغولا) شرقاً، والمستعمرة الهولندية-البريطانية (كايب) جنوباً. وقد تعرّض شمال ناميبيا لهجمات عدّة من المستعمرين في القرن الثامن عشر، ولكن ناميبيا تلك الفترة لم تكن خاضعة للاستعمار بعد، لذا كانت ملجأً لجماعات الأورلام (Oorlam) الهاربين من العنف في “كايب” والذين وصلوا بأعداد كبيرة وأسسوا شبكة علاقات بين “كايب” و”ناماكا لاند” وكان لهم التأثير الأكبر في منطقة جنوب ووسط ناميبيا. وهؤلاء بمعظمهم “ملونون” وفق التسمية الشائعة، أو “مختلطو العرق” (mixed race)  من منظور المستعمر. وقد ظهر “الملونون” منذ بداية الاستعمار نتيجة عمليات التزاوج أو الاغتصاب، وزاد من ذلك أن أعداد الرجال المستعمرين منذ أتوا  تفوق أعداد النساء، وكان يحصل التزاوج أيضاً مع “العبيد” القادمين من الهند وأندونيسيا وموزمبيق ومدغشقر أو فيما بينهم.

وهؤلاء عاشوا في بيوت المستعمرين وتعلّموا الكثير من مهاراتهم في ركوب الخيل واقتناء السلاح، وبينهم من يتحدّث لغة كايب الهولنديّة وبينهم من لديه لغات منوّعة، كما أن بعضهم اعتنق المسيحيّة. لكن يبقى بالنسبة للبريطانيين والهولنديين أن الشخص “نصف الأبيض” ليس أبيض، بل هو على درجة ما من السلّم العرقي. وكان جزء من هؤلاء يسمّون بالأفريكانو، وكان المستعمرون يدرّبونهم ويوظّفونهم في الأعمال القتاليّة، قبل أن يقوموا بالتمرّد على “ملاّكهم”[5] في مقاطعة “أورنج” عام 1796 (هي منطقة اتّخذها الهولنديون ولاية مستقلة بعد جولات معاركهم في “كايب” مع البريطانيين). وقد لجأ الأفريكانو بعد المعارك مع ملّاكهم إلى ناميبيا ليحتموا فيها، وكان لهم التأثير الأكبر فيها. ورغم سمعتهم المتسمة بالعنف، فقد وقّعوا معاهدة سلام مع حكومة “كايب” عام 1819. 

لاحقاً، أدّى تنافس القوى الأوروبية على النفوذ في المنطقة إلى ضمّ بريطانيا الأراضي المحيطة بميناء كايب عام 1878. أمّا ألمانيا فأتت متأخّرة عن مختلف مستعمري أفريقيا الأوروبيين، على اعتبار أنها لم تكن موحّدة قبل أن يعمل رئيس وزراء بروسيا أوتو فون بسمارك على توحيدها عام 1871. بعد ذلك بدأت تطالب بحصتها من النفوذ الإستعماري. وعام 1884 أعلن بسمارك، جنوب غرب أفريقيا الألمانية (ناميبيا اليوم) “محميةً”، من دون إقامة أي اعتبار لرأي الناميبيين. وكان ذلك عقب مؤتمر برلين حيث اتفقت الدول الأوروبية على تقاسم النفوذ ما بينها على قارة أفريقيا[6] (أشبه بسايكس-بيكو لكنه ضم 14 دولة). أمّا سبب اختيار ناميبيا لتكون “محمية”  ألمانية فهو اقتصادي، قوامه أن تاجر تبغ اشترى أرضًا ساحلية في المنطقة عام 1882، وأنّ تاجر آخر يدعى أدولف وورمان كان لديه محل تجاري في الكاميرون، ويعمل في مجال الشحن (حقق أرباحا طائلة من شحن الجيوش والعبيد والسلع)، كان له التأثير الأكبر على قرار بسمارك. وقد امتدت فترة الاستعمار الألماني للمنطقة حتى عام 1915 حين سيطرت قوات جنوب أفريقيا (نظام الأبارثايزد لا النظام الحالي) على جنوب غرب أفريقيا الألماني. وبعد معاهدة فرساي واصلت جنوب أفريقيا إدارة المناطق تحت اسم جنوب غرب أفريقيا، قبلما تستقل ناميبيا في 1990 بموجب قرار (الأمم المتحدة) رقم 435 الصادر في عام 1989.

كنيسة لوثرية بنيت عام 1912 في لودريتز. (ويكيميديا )

الإبادة لقمع انتفاضة الهيريرو والناما

بالعودة إلى فترة الاستعمار، يُشار إلى ـأن الهيريرو وافقوا على معاهدة “الحماية” بادئ الأمر، لكنهم انضموا فيما بعد إلى مقاومة الاستعمار إلى جانب شعب الناما (أو الناماكا) بعدما صادر الألمان أراضيهم وأعدادًا كبيرة من ماشيتهم بهدف تحويل “جنوب غرب أفريقيا” إلى مستعمرة استيطانية. عام 1890، هاجم الألمان نهر ناما، وسحقوا الشعبين معاً عام 1892، رغم جهدهما في تشكيل جبهة موحدة. ومع بدايات القرن العشرين، كان انتقل حوالى 5000 مستعمر نهبوا وسرقوا أملاك نحو 250 ألف شخص من السكان الأصليين. عليه تصدّرت المقاومة مطلع القرن اهتمامات الزعماء المحليين. فيما انشغلت القوات الألمانية بسحق انتفاضة بوندلسوارتس عام 1903 وهم من بدو الخويخوي، فتعرضت القوات لضغوط شديدة عندما ثار الهيريرو في عام 1904. وبدأت الإبادة الجماعية لقبيلة الهيريرو وناما في 12 كانون الثاني، بعد هجوم شنتاه ضدّ المزارعين والتجار الألمان في أوكاهانجا وكاريبيب وأومارورو. وقد تمكّن الهيريرو من قتل نحو 120 ألماني. على الإثر أرسل إمبراطور ألمانيا الجنرال لوثار فون تروثا برفقة حوالي 14 ألف جندي، وكلّفه بالقضاء النهائي على تمرد الهيريرو. وبدأ الهجوم الوحشي بتسميم الآبار، ثمّ بقتل الرجال والنساء والأطفال بعد مهاجمة مساكنهم ومراكز الماشية، وقصفهم بمدافع مكسيم الآلية. كان التفوق النوعي في السلاح هو الميزة التي مكنت الجنود الألمان -رغم قلّة عديدهم بالمقارنة مع المقاومين- من تدمير دفاعات الهيريرو على نحو خاطف. ثم أمر فون تروثا في 2 تشرين الأوّل بإبادة جميع شعب الهيريرو، وأرسل رسالة إلى الهيريرو يبلغهم فيها أنهم لم يعودوا رعايا ألمان، وأردف أنه “سيطلق النار على أي هيريرو يتم العثور عليه داخل الحدود الألمانية، بسلاح أو دونه. ولن أقبل بعد الآن النساء والأطفال. سأعيدهم إلى قومهم، وإلا سأسمح بإطلاق النار عليهم كذلك”.

كما هاجم الألمان الهيريرو الذين كانوا متجمّعين ويسعون للتفاوض على اتفاقية سلام في وسط ناميبيا في 11 آب، وطاردوهم في الصحراء شمالاً وشرقاُ، فقُتل المئات منهم وفقد عدد آخر غير معروف حياتهم بسبب العطش. كما لم لم يتردد الألمان في إعدام عدد كبير من الأسرى ممن وقعوا في قبضتهم. وقُتل ما يقدر بنحو 65.000 من الهيريرو (نحو 80% منهم) و10.000 من الناما (نحو 50% منهم)، ويُشار إلى أن المذابح شملت أيضاً شعبيْ سان ودامارا. وتمثّلت المرحلة الثانية من الإبادة في إنشاء طوق في منطقة أوماهيكي ومطاردة وإرسال لاجئي الهيريرو من معركة أوماهاكاري إلى معسكرات الاعتقال، حيث تم احتجاز آلاف من الهيريرو والناما في ظروف نقص الغذاء والماء والرعاية الطبية، وأُجبر آخرون على العمل بالسخرة، كما أجرى أحد الأطباء الألمان تجارب على عدد كبير من هؤلاء تمثّلت بحقنهم بجرعات قاتلة من الأفيون والزئبق لدراسة تأثيرها على الجسم. كما تم قطع رؤوس آلاف الهريرو وإرسالهم إلى المعاهد الألمانيّة. أما المرحلة الثالثة من الإبادة فتمثّلت في اعتماد سياسة الأرض المحروقة وتدمير سبل العيش والمنازل والحظائر والأماكن المقدسة، كما جرى قتل الماشية وحرق المحاصيل.

في الفترة ما بين توقف الحرب الرسمية وإغلاق معسكرات الاعتقال (1907 و1908) لم تتوقّف الأعمال العدائية، بل استمرت المذبحة. وقد قدّر مجمل عدد القتلى بنحو 100 ألف قتيل واقتطعت نحو 80% من أراضي ناما. واستمر الاحتلال العسكري الألماني بعدها، إلى أن استولت قوات جنوب أفريقيا على جنوب غرب أفريقيا عام 1915. واستمرت تداعيات المجزرة حتى على الأجيال اللاحقة، والذين يعيشون اليوم في ظروف مزرية. ورغم محاولة الألمان طمس أرشيف الإبادة، كانت جهود مقابلة لجمعيات مدنيّة من الضحايا وأهاليهم لحفظ هذه الذاكرة. ولعلّ أبرز شواهد الذاكرة اليوم على الفظائع التي ارتكبت، الرفات البشرية للهيريرو وناما وسان التي نقلت إلى المتاحف وكليات الطب والمستشفيات الألمانية. وكانت أجريت تجارب على هياكل الضحايا من قبل العلماء الألمان بهدف تبرير الأنثروبولوجية العنصرية التي أسهمت لاحقا في التظريات النازية عن التفوق العرقي. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، قامت احتجاجات عامة عندما أصبحت معاملة بقايا الضحايا علنية.

الإعداد لاعتذار لم ينجز منذ عام 1998

بعد 8 سنوات على الاستقلال، في آذار 1998، زار الرئيس الأماني رومان هرتزوغ ناميبيا، فطالبه الهيريرو بالاعتذار عن مجازر الإبادة.  في 14 آب 2004، اعتذرت وزيرة التنمية هيديماري ويتسوريك زيول عن الفظائع التي ارتكبتها القوات الألمانية كما أشار مسؤولون حكوميون إلى الفظائع باعتبارها “إبادة جماعية” وطلبوا الصفح عن تجاوزاتهم. لكن مفاوضات ألمانيا مع الحكومة الناميبية لم تبدأ رسميّا حتّى 2015. وأعيدت رفات الضحايا بين عامي 2011 و2018 لكن من دون تقديم اعتذارات رسمية عن طرق التعامل مع رفات الضحايا. ولم تقم أي مفاوضات مع أحفاد الضحايا أو الجمعيات الممثلة لهم. وعام 2017، رفع ممثلو الهيريرو والناما دعوى قضائيّة على ألمانيا أمام المحكمة الجزائية في مانهاتن- الولايات المتحدة، للمطالبة بالتعويض عن الإبادة، لكن المحكمة ردت الدعوى عام 2019، وكان فحوى القرار أن الدول لها سيادة، وذلك يمنحها حصانة، ويجعل الدعوى عليها بالتالي غير مقبولة.

وفي أيّار 2021، وبعد مفاوضات طويلة، توصّلت ألمانيا وناميبيا إلى إعلان مشترك، عن إتفاق سيتم العمل عليه، تدفع ألمانيا بموجبه 1.1 مليار يورو على امتداد 30 عامًا لمشاريع تنمية في ناميبيا. النص المقترح تضمن تعبير “إبادة”، لكن رفض الجانب الألماني استخدام كلمة “تعويض”. فيما انتقدت جمعيات الهيريرو والناما الإعلان باعتباره غير كاف، أمّا الحكومة فاعتبرت الإعلان خطوة أولى على أن تستتبع بخطوة ثانية تتمثّل بالاعتذار والتعويض.

بدا الإعلان أقرب إلى محاولة سياسيّة للحفاظ على مصالح ألمانيا في نامبيا، من كونه مسعى فعليا للتعويض عن الضحايا. فضّلت ألمانيا إبراز جدل تقني حول استخدام تعبير “إبادة” ورفض استخدام تعبير “تعويض”، من البحث الجادّ عن تبعات الجرائم المرتكبة. واستبعدت ألمانيا تقديم أية تعويضات مالية للأفراد أحفاد الضحايا كما لم تذكر المفاوضات أيّ حق لهم بالأراضي. إذ تعتبر أنّ “اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، ليس لها أثر رجعي واعترافها بالإبادة لا يسنح ب “طلب قانوني بتعويض”. فيما تشير بعض التقارير، إلى تملّك المتحدرين من أصل ألماني 53% من الأراضي الزراعية الخاصة في ناميبيا، رغم من أنهم لا يشكلون سوى 2% من السكان. 

التعنّت الألماني إزاء التعويض لم يحبط عزيمة ممثلي الهيريرو والناما، ورفعوا بداية العام الماضي دعوى قضائية أمام المحكمة العليا في ناميبيا ضدّ اتفاقية الإبادة الجماعية التي كانت حكومة ناميبيا تسعى إلى إتمامها نظراً لحاجات تنمويّة. ولعلّ السير في الاتفاق المزمع بين الدولتين أصبح أكثر صعوبةً بعد بدء الحرب على غزّة، وبخاصة بعدما وبّخ رئيس ناميبيا ألمانيا على نيتها دعم مواقف إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ورأى أنها ليس المرجع الأخلاقي الصالح في ما يتعلّق بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.


[1]  Marion Wallace & John Kinahan, A History of Namibia- From the Beginning to 1990, Columbia University Press New York, 2011, p15

[2]  المرجع السابق ذاته ص33

[3]  المرجع السابق ذاته ص11

[4]  المرجع السابق ذاته ص45

[5]  المرجع السابق ذاته ص52

[6]  “شملت الدول الممثلة في ذلك الوقت النمسا-المجر، بلجيكا، الدنمارك، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا العظمى، إيطاليا، هولندا، البرتغال، روسيا، إسبانيا، السويد-النرويج (الموحدة من 1814-1905)، تركيا والولايات المتحدة.. ومن بين هذه الدول الأربع عشرة، كانت فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى والبرتغال اللاعبين الرئيسيين في المؤتمر، حيث كانوا يسيطرون على معظم أفريقيا المستعمرة في ذلك الوقت. وكانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا تتنافس على السلطة ضمن سياسات القوة الأوروبية. إحدى الطرق لإثبات التفوق الوطني كانت من خلال الاستحواذ على مناطق في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أفريقيا. سبب آخر للاهتمام الأوروبي بأفريقيا هو التصنيع عندما تزايدت المشاكل الاجتماعية الكبرى في أوروبا: البطالة، والفقر، والتشرد، والنزوح الاجتماعي من المناطق الريفية، وما إلى ذلك. وقد تطورت هذه المشاكل الاجتماعية جزئياً لأنه لم يكن من الممكن استيعاب كل الناس في الصناعات الرأسمالية الجديدة”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، مقالات ، فلسطين ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني