حساب دعم تطوير المنظومة القضائية: نصّ قديم لكاتب جديد


2023-11-15    |   

حساب دعم تطوير المنظومة القضائية: نصّ قديم لكاتب جديد

يقترح مشروع قانون المالية لسنة 2024 كما تقدمت به الحكومة لمجلس نواب الشعب في الفصل 12 منه، إحداث حساب خاصّ يطلق عليه تسمية “حساب دعم تطوير المنظومة القضائية العدلية”. ويستعيد هذا المشروع فكرة صندوق جودة العدالة الذي ورد بالفصل من 34 المشروع الحكومي لقانون المالية لسنة 2020 ولم يحظَ حينها بقبول نواب الشعب. وهنا بين نصّ أسقط وأثار في حينه جدلا وسط القضاء وآخر أتى ليخلفه ويبدو انه يتجه ليمر في صمت، فوارق كبرى تعكس ما شهدته البلاد من تغييرات بين زمنيهما أبرزها احتكار السلطة للتفكير التشريعي خلافا لماضٍ كان فيه لقوى المجتمع دور فيه، منها ان جمعية القضاة التونسيين كانت صاحبة فكرة النصّ القديم الجديد وأن عمادة المحامين هي التي حسمتْ أمره.

من 2014 إلى 2019: جمعية القضاة تطرح الفكرة وهيئة المحامين تجيب ب ” لا”

سنة 2014، طرحت لأول مرة جمعية القضاة التونسيين فكرة استحداث صندوق جودة العدالة الذي اعتبرت أنه “الحلّ الأمثل والدائم للنهوض بأوضاع المحاكم والارتقاء بأدائها وضمان جودة خدماتها ودعم بنيتها التحتية ولدوره في المساهمة في تقريب القضاء من المتقاضين وتيسير ولوجهم للعدالة وتطوير أساليب التعامل والتفاعل مع كافة المتعاملين مع المرفق القضائي”[1] . واقترحت في صياغتها لتصوره أن يموّل من اقتطاعات من معينات الخطايا ومن أتاوات يخضع لها ناشرو القضايا. وأثمر جهدها تبنّي الحكومة مقترحها في مشروع قانون المالية لسنة 2020 الذي ضمّنت الفصل 34 منه “إحداث صندوق خاص لدعم العدالة يُخصص لدعم البنية التحتية للمحاكم وتعصير ظروف العمل بها وتحفيز الكفاءات القضائية وأعوان المحاكم على الالتحاق بها”[2].

حينها وتحضيرا للنظر في قانون المالية، ناصرتْ جمعيّة القضاة طيلة الثلث الأخير من سنة 2019 المشروع  فيما اختار عميد المحامين آنذاك إبراهيم بودربالة (رئيس مجلس النواب الحالي) معارضته بحجّة “أن تمويل الصندوق بجزء من الخطايا المالية المستخلصة أو الهبات الخارجية من شأنه أن يمس من هيبة القضاء ويطرح معضلة التمييز القطاعي بما يدفع الدولة أكثر إلى التخلّي عن دورها في تعهد مرفق العدالة “[3]. وقد  نجح العميد بفضل ما كان من أهمية للتمثيل القطاعي للمحامين بالمجلس النيابي في أن يصل في مرحلة أولى لإسقاط المقترح باللجنة المؤقتة للمالية التي ناقشته فنيا وأن يكون اللاعب الخفي الذي اسقطه بالضربة القاضية عندما أعادت وزارة  المالية طرحه على الجلسة العامة للمجلس النيابي بتصويت 84 نائبا ضدّه مقابل 58 معه.

أمر لم يمنع من تواصل النقاش حول الفكرة بعد ذلك بين مختلف المعنيين بالشأن التشريعي والقضائي بحثا عن توافق يسمح بإعادة طرح موضوعها ومنها تنظيم مجلس نواب الشعب بتاريخ 26-11-2020 يوما دراسيا في الموضوع دعيت له مختلف مؤسسات القضاء والهياكل المهنية  للمشتغلين بالعدالة[4]. كما واصلت بعده جمعية القضاة التونسيين الضغط لأجل إعادة تضمينه بقانون المالية وهو ما بدا أنها نجحت فيه عندما أمضت مع الحكومة بتاريخ 18-12-2020[5] اتفاقا نصّ في أحد بنوده على التزام الأخيرة بالذكر “بدعم مقترح إحداث صندوق جودة العدالة وإدراجه بقانون المالية” لسنة 2022  قبل أن تطرأ التغييرات السياسية ل 25 جويلية 2021 التي حجبت ما كان من تعهدات وفرضت واقعا سياسيا جديدا صاغ التغييرات التي طرأت على الفكرة.

المشروع الجديد: نص كتب بقلم السلطة..

فترة الانتقال الديموقراطي، تحول الصندوق من فكرة صدرت عن فاعل نقابي إلى مشروع حكومي انتهى لان أسقطه نواب الشعب فعاد ليكون موضوعا لنقاش مجتمعي. وهي مسائل أبرَزت تشاركية في الممارسة التشريعية. خلافا لهذا كان تضمين مشروع قانون المالية “حساب دعم تطوير المنظومة القضائية العدلية” نتيجة لعمل المصالح الفنية بوزارة المالية ولنقاشات الوزارات فيما بينها في مكاتبها المغلقة ووفق قيم نظام الحكم الذي تنتمي له بما أدّى إلى تغييرات طرأت على النص القديم تركت بصمات الكاتب الجديد أولها تعلق بالآلية القانونية.

ومن أهم التعييرات المقترحة، الآتية:  

  • حساب محل الصندوق: في حين استند مشروع إنشاء صندوق خاص في سنة 2019 للفصل [6]33 من القانون الأساسي للميزانية[7] والذي يشترط توفير استقلالية هيكلية ووظيفية وإدارة موارده وفق قاعدة “الأهداف المطلوب تحقيقها والمؤشرات التي تمكّن من تقييم النتائج”[8]. في المقابل، اختار مشروع 2024 آلية الحساب الخاص للخزينة والذي وفق نظامه القانوني يخضع وجوبا ” لنفس المعايير والقواعد المتبعة بالنسبة إلى نفقات ميزانية الدولة “[9] ومنها الالتزام بسقف الموارد التقديرية في التصرف والتأشير المسبق من مراقب المصاريف على المدفوعات. وما يبدو هنا اختيارا تقنيا في الإدارة والتصرف قد يكون في واقعه تعبير عن انسجام مع خيارات السلطة السياسة التي صرح القائم عليها أي رئيس الجمهورية في اكثر من مرة عن رفضها لما سمته تفتيت السلطة وعن تمسكها بفكرة وحدتها والتي ترى ان استحداث الهيئات والمؤسسات يمس بها. وذات الانسجام قد يفسر أيضا الانتقال من العدالة الجامعة الى القضاء العدلي منفردا.
  • اختزال العدالة بالقضاء العدلي: رمى الاقتراح إلى تخصيص الحساب للقضاء العدلي دون غيره من الهيئات القضائية والتي ليست أحسن حالا منه. وليس أدل على ذلك انتصاب فروع المحكمة الإدارية في مقرات لا تلائم طبيعة العمل القضائي وتعاني ضيقا بمقرها المركزي يؤثر على حسن أداء مرافقها وتحتاج ضخ إمكانيات مادية وبشرية هامة لتجاوز ما تعانيه من بطء في فصلها للمنازعات وهو ما كان يمكن ان تتوصل بجانب منه لو استفادت من موارد الحساب التي تمت مراجعتها. وعليه، وبخلاف دستور 2014 الذي اعتمد تصورا موحدا لهيئات العدالة، كشف الخطاب السياسي ومعه الممارسة عن كون الجانب الأكبر من اهتمام النظام كان بالقضاء العدلي وتحديدا بالفرع الجزائي منه الذي طالبه بأن يكون شريكا في بناء جمهوريته الجزائية بملاحقة من يسميهم الفاسدين.
  • موارد الحساب ووجهة استخدامها: في مشروع 2020، كانت “المحاكم” معنية في مجموعها بتدخّلات الصندوق التي تشمل “تطوير بنيتها التحتية” و”تعصير ظروف العمل بها” و”تيسير النفاذ للعدالة” والذي تتأتى مداخله من إجراء جبائي كان سيحدث تحت مسمى “معلوم دعم العدالة” ويوظّف ما قيمته 10 دنانير تونسية عن كّل الأحكام والقرارات القضائية والأوامر بالدفع والأذون على المطالب الصادرة عن مختلف المحاكم ولا تكون مستثناة منه لطابعها الاجتماعي أو تلك المتعلقة بالدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية [10]. كما نص الاقتراح آنذاك على تغذية الصندوق ب  10% من مبالغ الخطايا المحكوم بها في المادة الجزائية والمستخلصة بصفة فعلية و الهبات والمساعدات المرّخص بقبولها طبق التشريع الجاري به العمل وأية مبالغ أخرى قد تخصص للصندوق بمقتضى القوانين والتراتيب الجاري بها العمل.

في المقابل وفي إطار المشروع الجديد، كانت المحاكم العدلية وحدها المعنية بما حدّد من أبواب تدخل من الحساب وهي “مشاريع تطوير البنية التحتية والانتقال الرقمي للعدالة من جهة ولتحقيق مردودية أفضل من جهة أخرى”. فيما تتأتى موارد “الحساب” من مبلغ “الديسيمات” الإضافية للخطايا والعقوبات المالية المنصوص عليها بالأمر المؤرّخ في 17 جوان 1954 والمستخلصة فعليا ومن معلوم بمقدار 10 دينار على الأذون على العرائض وعلى الأوامر بالدفع ومن نسبة 30% من المعاليم المدفوعة مقابل الخدمات المسداة من قبل المركز الوطني لسجل المؤسسات وطرق استخلاصها. كما يتمّ تغذية الحساب بالموارد المتأتية من معاليم الخدمات المسداة من قبل الهياكل العدلية التي يمكن أن تخصّص للحساب طبقا للتشريع أو التراتيب الجاري بها العمل وبالهبات والموارد الخصوصية المسندة لفائدة المحاكم العدلية وفقا للتشريع أو التراتيب الجاري بها العمل. وقد يكون مردّ تعديل كيفية تغذية الحساب توجس وزارة المالية من معارضة المحامين للأداءات التي توظف على أعمالهم وتنتهي لأن تثقل عليهم متى احتسبت ضمن أتعابهم، وهي المعارضة التي انتهت إلى إسقاط اقتراح 2020. وإذا ما اعتبرنا المداخل الجديدة التي نص عليها مشروع 2024، فإن المرجح أن الحساب سيتمتع سنويا بموارد تتجاوز ما كان يقدر تحصيله من الصندوق وهو ما يطرح السؤال حول خلفية هذا السخاء وأثره.

مخصصات الحساب: هل هي خصخصة؟

متى كان النقاش بين جمعية القضاة والحكومة حول الصندوق، حضرت المخاوف من استعمال السلطة الصندوق كوسيلة للتنصّل مما هو مفروض عليها من التزام بالاستثمار في العدالة. ولتبديد هذه المخاوف، تمّ تخصيص اعتمادات دفع في قانون المالية لفائدة إنجاز وإتمام مشاريع خاصة بالبنية التحتية للمحاكم بقيمة 36 مليون دينار[11]. في المقابل، يمنع انحصار النقاش حول قانون المالية لسنة 2024 بفعل الواقع السياسي المحلي والانشغال بالشأن الفلسطيني من طرح مثل هذا السؤال وإن كانت قراءة لمشروع قانون المالية تكشف أنّ الاستثمار المخصوص بالمصالح العدلية تراجع إلى 16 مليون دينار، الجزء الأكبر منها يتعلق بإتمام مشاريع بصدد الإنجاز[12].

ويكشف ما يلاحظ من انحصار للاستثمار العمومي في المحاكم أن الحساب المنشأ لا يهدف إلى تأمين موارد إضافية لتطوير منشآت العدالة بل إلى تعويض تقلّص التزامات الدولة في الموازنة العامة. 

صمت من تكلم سابقا: انعكاس لواقع الساحة..

حتى تاريخ تحرير هذا المقال، لم يصدر أيّ موقف لجمعية القضاة فيما تعلق بالمقترح الشريعي. وقد يكون مرد ذلك تجنّب هياكلها نقاش فكرة يعود لها فضلها لكنها تبدو في صياغتها الجديدة غريبة عنها. كما حتى ذات التاريخ، لازمتْ هيئة المحامين ذات الصمت وقد يفهم ذلك بأحد أمرين: أولهما حصر عميدها الحالي اهتمامه بمسعاه لإقناع السلطة باعتماد مقترحه لمشروع قانون للمحاماة ممّا يستدعي منه تجنّب الخلاف معها، وثانيهما أن يكون التعديل الذي تعلّق بالحدّ من مفعول الضريبة على القضايا قد أنهى السبب الحقيقي للاعتراض السابق على الصندوق وبرر القبول الصامت بالحساب الجديد.

في المقابل، يُنتظر سماع رأي من كان سابقا عميدًا للمحامين وأضحى حاليا رئيسًا لمجلس نواب الشعب من ذات المشروع في جلسة نقاشه. فهل سيكون وقد تغير الموقع سندا لما كان يعتبره مسّا بهيبة الدولة أم سيعود ليكون معارضا شرسا لها كما كان سابقا؟ وهل أن معارضته في حال حصولها سيُستمع لها كما كان الحال سابقا أم أنها ستدوّن في المحضر قبل المضي في المشروع حتى خواتيمه. وقد يكون ذلك الأكثر توقعا باعتبار الواقع السياسي وتوازنات سلطة القرار صلبه.


[1]  بلاغ المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين بتاريخ 19-10-2019

[2]  يراجع مشروع قانون المالية لسنة 2020 صفحة 139

[3]  من تدخل إبراهيم بودربالة باليوم الدراسي حول صندوق جودة العدالة بمجلس نواب الشعب بتاريخ 26-11-2020  -وكالة تونس افريقيا للأنباء

[4]  افتتحه رئيس مجلس نواب الشعب وحضره كل من رئيس لجنة التشريع العام وعدد من النواب وممثلين عن كل من جمعية ونقابة القضاة واتحاد القضاة الإداريين والماليين الى جانب ممثلين عن المجلس الأعلى للقضاء العدلي والاداري والمالي وممثلين عن عمادة المحامين وعدول الاشهاد والرئيس الأول للمحكمة الإدارية والرئيس الأول لمحكمة المحاسبات وتداول جميعهم على الكلمة

[5] اتفاق امضي بقصر الحكومة بالقصبة بين رئاسة الحكومة ممثلة في كاتبها العام وليد الذهبي وجمعية القضاة التونسيين ممثلة في رئيسها أنس الحمادي، يتم بمقتضاه تعليق الاضراب العام الذي تواصل شهرا كاملا ودعت له حينها جمعية القضاة ونقابتهم

[6] الذي ينص على أنه ” تحدث بمقتضى قانون المالية للسنة أو قانون المالية التعديلي صناديق خاصة لتمويل تدخلات في قطاعات معينة “

[7]  قانون أساسي عدد 15 لسنة 2019 مؤرخ في 13 فيفري 2019 يتعلق بالقانون الأساسي للميزانية

[8]  الفصل 33  من القانون  الأساسي عدد 15 لسنة 2019

[9]  الفصل 32 من القانون الأساسي عدد 15 لسنة 2019

[10]ورد بالفصل 46 من المشروع ” تعفى من معلوم دعم العدالة: الأحكام والقرارات الصادرة في إطار المطالب والدعاوى المرفوعة من قبل، الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية، الأحكام والقرارات الصادرة في إطار القضايا المرفوعة بموجب إعانة عدلية أو قضائية.، الأحكام والقرارات الصادرة في إطار القضايا المرفوعة في المادة الشغلية.، الأحكام والقرارات الصادرة في إطار القضايا المرفوعة في مادة الضمان الاجتماعي.

[11]  توزعت بين 14،2 مليون دينار لتهيئة وتوسيع محاكم ناحية، 3،4 مليون دينار لتهيئة وبناء محاكم استئناف ،2،9 مليون دينار لتهيئة وبناء محاكم ابتدائية، 2 مليون دينار للإعلامية بالمحاكم، 3 مليون دينار لتجهيز المحاكم – المصدر تقرير ميزانية 2020 وزارة المالية

[12]  ورد بمشروع الميزانية أنه سيتم تخصيص إعتمـــادات دفع قدرها 16.0م د لتمويل مشاريع المصالح العدلية  ذات الصبغة التنموية عبر إعطاء الأولوية لاستكمال  المشاريع بصدد الإنجاز على غرار تهيئة وتوسعة وتجهيز المحاكم بمختلف درجاتها بما قيمته  10.0 مليون دينار  وبنــــاء مجمعـــات للأرشيف وإدارات جهويـــة بكل من صفــــــاقس وبنــزرت والمنســــتير بقيمة    1.7 مليون دينار   بالإضافة إلى تدعيم النظام المعلوماتي للمحاكم ورقمنه الأرشيف بقيمة 5.2 مليون دينار   – المصدر تقرير وزارة المالية حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2024 –

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني