حروب استعمارية على الفلسطينيين والمهاجرين غير النظاميين


2024-03-05    |   

حروب استعمارية على الفلسطينيين والمهاجرين غير النظاميين
رسم عثمان سلمي

رغم حجم القتل والدمار المرعبيْن في غزة، غير أن ثمة خيطا رفيعا يربط حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيّين بحرب الاتّحاد الأوروبي المعلنة على المهاجرات والمهاجرين الأفارقة غير النظاميين. إذ أنّ كلا الحربين تُخاضان ضد مدنيين عزّل من دون أيّ اعتبار لحقوقهم الفردية أو الجماعية أو احتكام إلى أية قواعد قانونية. رُصدت لكلاهما اعتمادات مالية ضخمة وسُخّرت لهما أحدث التقنيات الاستخباراتية والعسكرية. وفي كلاهما، فقد هؤلاء المدنيون المستهدفون الحقّ في الملجأ والمسكن واقتُلعوا من أيّ وضع قانوني يضمن انسانيّتهم ويحفظ حرماتهم الجسدية. تتكشف من خلال التقاطعات بين الحربين علاقات القوة الاستعمارية الطاحنة التي يحكمها مفهومان مركزيّان هما التراتبية العرقية و”قانون الحجز”.

التراتبية العرقية كاستراتيجية للهيمنة

تطارَد أجسادُ الفلسطينيات والفلسطينيين في كامل غزة، والمهاجرات والمهاجرين غير النظاميين على طول مسالك الهجرة الوعرة الممتدة من الصحراء إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط. يُفرض على كل هذه الأجساد المنتهكة الجوع والعطش وتخضع جميعها لسلطة القتل في كنف الإفلات من العقاب. يجرَّم كل من يحاول حمل المساعدة إليها. فتوضع شتى العراقيل أمام جمعيات المجتمع المدني العاملة على إنقاذ المهاجرين وطالبي اللجوء المنكوبين في البحر الأبيض المتوسط وفي شتى الدول الإفريقية المنخرطة في حماية حدود الاتّحاد الأوروبي[1]. كما تُمنع المساعدات من الدخول إلى غزة لا بل وتَقطع الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وأستراليا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا وسويسرا وفنلندا وفرنسا تمويلها للأونروا في خضمّ حرب الإبادة المتواصلة. وفي كلا الحربين، يتداول المعتدون من دون هوادة سرديّات تشيطن وتنزع كلّ إنسانية عن ضحاياهم، معلِنين على الملأ “براءتهم” ممّا اقترفوه. وتلك كما ذكر جيمس بلدوين، بالضبط جريمتهم[2].

يشكّل تواطؤ غالبية الحكومات الأوروبيّة مع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة كما ضلوعها المباشر في موت مهاجرات ومهاجرين غير نظاميين في البحر المتوسط دلالة بليغة[3] مفادها أن حياة الفلسطينيّ لا تساوي حياة الإسرائيلي وحياة المهاجر الإفريقي لا تعادل حياة الرجل الأبيض. هذا الكيل بمكياليْن لا يقتصر فقط على النّخب الأوروبية اليمينية الحاكمة، بل يتعدّاها ليشمل طيفًا واسعًا من الفضاء الإعلامي والمدني الليبرالي واليساري الغربي. ويكفي في الحالة الفرنسية استذكار مثاليْن على ذلك. يتعلق الأول بجريدتيْ لوموند وليبراسيون اللتيْن لم تتخلّفا منذ 7 أكتوبر، عن قاعدة التعتيم على أهل غزة، وهي قاعدة سادتْ التغطيّة الإعلامية في فرنسا لحرب الإبادة[4]. ويحيل المثال الثاني إلى خفوت أصوات الحراك النسوي الأبيض المتضامن مع النساء الفلسطينيات أو المهاجرات غير النظاميات.

لا يمكن فهم هذه التفاضلية في مقاربة استحقاق الحياة وحق الاحتماء من الموت إلاّ بربطها بالتراتبية العرقية. فالعرق هو الذي يحدّد بموجبه الخطاب الرسمي والنخبوي الغربي “أيّ نوع من الحياة يمكن إهداره وإنفاقه دون تحفظ” [5]. لأنّ العرق، كما كتب أنيبال كيخانو أحد أبرز مفكري التيار الديكولونيالي وصاحب مقولة “كولونيالية السلطة”، هو “بلا شكّ الأداة الأكثر فعالية للهيمنة الاجتماعية التي تمّ اختراعها في الـ 500 سنة الأخيرة. وبوصفه نتاجًا لبداية تشكل أمريكا والرأسمالية، خلال الفترة الانتقالية ما بين القرنيْن الخامس عشر والسادس عشر، فُرض العرق في القرون التالية على جميع سكان الكوكب، المندمجين في الهيمنة الاستعمارية لأوروبا. فأصبح العرق تباعا معيارا أساسيا للفرز الاجتماعي الكوني لسكان المعمورة، صنفت على أساسه الهويات الاجتماعية والجيو ثقافية الرئيسية…  كما شُيّد على قاعدته التمركز الأوروبي للنفوذ العالمي الرأسمالي وتوزيع العمل والمبادلات”. ومع أنّ “العرق” قد ولد مع أمريكا، فإنّ الشعوب المهيمن عليها الأولى التي أخضعت له من قبل الأوروبيين هم الأفارقة الذين اختطفوا واستُعبدوا وتمّ تسليعهم ثم تصنيفهم ضمن فئة “الزنوج”[6].

أقام “العرق” بوصفه بنية اجتماعية، وكشكل ونتيجة للهيمنة الاستعمارية الحديثة، جدارا فاصلا بين الأجسام المهيمن عليها المستباحة ومنزوعة الحقّ في الدفاع عن نفسها وتلك التي تستحقّ ذلك[7]. كانت أبرز محطاتها بالنسبة لقارّتنا الإفريقية، المجلة القانونية السوداء (le Code noir) التي سنتها الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية في 1685 وحرمت على أساسها العبيد السود من “حمل العصي والأسلحة”. وفي 1851 منع نفس الاستعمار الفرنسي سكّان الجزائر الأصليين من حمل السلاح. ثم وبعيْد انتفاضة القبائل في 1871، مُنح هذا الحق للمستعمرين الفرنسيين المدنيين. هذا الجدار لا زال قائما، يستثني من الحق في الدفاع عن النفس الفلسطينيين ويمنحه لدولة إسرائيل، تماما كما يستثنى من ذلك “زنوج” اليوم المنحدرين من عبيد الأمس.

“قانون الحجز”

في نهاية كتابه “الثقافة والامبريالية”، وفي فصل عنوانه “الحركات والهجرات”[8]، يقارب إدوارد سعيد المشروع الاستعماري من منظور ما أسماه “قانون الحجز” The principle of confinement أي تحديد فضاء حركة الأجساد كاستراتيجية تحكم وإخضاع وضبط المهيمن عليهم ضمن مجال مكاني مراقب ومرسوم.

“قانون الحجز” أداةٌ في صلب استراتيجية الحرب الاستعمارية التي تشنها الصهيونية على الفلسطينيين منذ أكثر من 100 سنة كما في تلك التي يخوضها الاتحاد الأوروبي على المهاجرات والمهاجرين غير النظاميين منذ إقامة فضاء “شنغن”. هو يعتمد في جوهره على إنشاء فضاءات الاستثناء التي تجيز الانتهاكات والجرائم والاعتداءات. تؤثث هكذا فضاءات قائمةً طويلة من المصطلحات القديمة الجديدة كالمناطق العازلة والحواجز وجدران الفصل الفولاذية والكهربائية، ومخيمات اللاجئين والنازحين  والمهاجرين، ومناطق انتظار الأشخاص العالقين، ومعسكرات أو حواجز العبور، ومراكز الاحتجاز والاحتجاز الإداري، ومراكز تحديد الهوية والطرد، ونقاط العبور الحدودية، ومراكز استقبال طالبي اللجوء، و”المعازل”، و”الأدغال”، و”المصفاة” والنقاط الساخنة [9] (Hotspot)… أُحدثتْ جميع هذه الفضاءات المسخّرة للرقابة والعقاب بهدف الفصل، والاستبعاد، والحبس، والترحيل. كلها تستمدّ جذورها من تجارب الغرب الاستعمارية. ولعلّ المثال الأقرب لنا على ذلك هو قارتنا الإفريقية حيث كانت معسكرات المدنيين وسيلة للسيطرة على الفضاء المحتلّ، وتهجير السكان واستغلالهم كقوة عمل قسريّ (مثل الكومباوند في جنوب أفريقيا ومعسكرات التعدين في الكونغو البلجيكية…). وغير بعيد منا في الجزائر حيث أقامت فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) “مخيمات التجميع” (camps de regroupement) حيث  زُجّ نصف سكان القرى والفلاحين الفقراء فيها بعد أن تمّ طردهم من منازلهم وانتزاع أراضيهم في إطار استراتيجية استئصال الثورة الجزائرية وعزلها عن قاعدتها الشعبية.

في الحقيقة، لا يحتاج الأمر لكثير من البراهين للوقوف على مركزية “قانون الحجز” في الحرب الصهيونية على الفلسطينيين منذ إعلان وعد بلفور في 1917. فالتقارير الكثيرة لمنظمات حقوقية والمقررين المتعاقبين الخاصّين المعنيين بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية تُجمع كلها اليوم على مقاربة الاحتلال من منظور الفصل العرقي (الأبارتايد) وتدين “النظام السياسي للحكم الراسخ في الأرض الفلسطينية المحتلة (الذي) يمنح مجموعة عرقية قومية إثنية واحدة حقوقا ومزايا وامتيازات كبيرة، بينما يُخضع عمدا مجموعة أخرى للعيش خلف الجدران ونقاط التفتيش وتحت حكم عسكري دائم، بلا حقوق وبلا مساواة وبلا كرامة وبلا حرية”[10].

بدورها تعتمد سياسة الاتحاد الأوروبي الإجرامية تجاه المهاجرات والمهاجرين غير النظاميين على مضاعفة فضاءات حجزهم واستبعادهم وتعريضهم للموت في شتى مراحل تنقلهم، وتقوية منظومة الرقابة عليهم برا وبحرا وجوا، ووضع شتّى العوائق لكسر حركتهم ومنع وصولهم إلى أوروبا، وبعدها تنظيم طرد وترحيل من نجحوا في العبور بتواطؤ حكومات الجنوب. وأوروبا التي ابتهجت لسقوط جدار برلين نهاية الثمانينات، سيّجتْ حوالي 13% من حدودها البرية للتحصّن من “تدفق المهاجرين” وبعد أن كان الجدار سنة 2014 لا يتجاوز 315 كلم أصبح يمتدّ على أكثر من 2100 كلم سنة 2023.

بالتوازي، انتشرتْ مراكز احتجاز المهاجرين غير النظاميين داخل دول الاتحاد الأوروبي وتضاعف عدد المعتقلين وتدهورت أكثر فأكثر ظروف سجنهم وتكاثرت حالات الموت المستراب والانتحار بينهم[11]. فعلى سبيل المثال، ، بلغ عدد المحتجزين من المهاجرين سنة 2021 في فرنسا  حوالي 42000[11[. وفي إيطاليا، حيث  يوجد رسميا تسعة مراكز للحجز، تقرر مؤخرا التمديد في فترة الاحتجاز من 138 يوما إلى 18 شهرا. وفي نهاية عام 2022، خصصت الحكومة الايطالية 42 مليون يورو إضافية لبناء مراكز احتجاز جديدة ورفعت من عدد المطرودين من أراضيها بفضل اتفاقيات الترحيل التي أبرمتها مع الدول الإفريقية المتعاونة معها.

“قانون الاحتجاز” في حالة الحرب على المهاجرين يستفيد مباشرة من الخبرة المتراكمة والتقنيات المبتكرة والمجرّبة من قبل إسرائيل في حربها على الفلسطينيين. ولعل أبلغ مثال على ذلك هو طائرة هيرون بدون طيار من إنتاج شركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية، التي تديرها شركة إيرباص. فمنذ ماي 2021، وبعد أن تمّ اختبارها في جزيرة كريت في 2018، أصبحت هذه الطائرة أداة لفورنتاكس، شرطة الاتحاد الأوروبي، في تحديد أماكن اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين، متسببة في موت العديد منهم في البحر.

تقاطع الحربيْن من حيث طبيعتهما الاستعمارية المشتركة يستدعي الاشتباك مع كليْهما على حدّ سواء. فالانتصار للحق الفلسطيني في تونس هو كذلك انتصار لحقّ كلّ الذين أقصتهم علاقات الهيمنة الاستعمارية بالأمس كما اليوم في أحقية تمتعهم بالحقوق. هو انتصار لشعب غزة المفقّر، لأفارقة جنوب الصحراء وأفارقة الشمال الذين لا يقلون استبعادًا منهم. وهو اشتباك مع أدوار حراسة الحدود والتنسيق الأمني التي رضيت نخبُ الجنوب الحاكمة أن تلعبها في تونس كما في المغرب والسنغال والضفة الغربية حفاظا على ديمومتها. وهو انتصارٌ ضدّ قانون التراتبية العرقية الذي لا يستثنينا كتونسيين، احتذاء بالتلاحم المتصاعد بين حراك حياة السود ذات قيمة Black Lives Matter ونضالات الفلسطينيين.   

نشر هذا المقال في العدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس

لتحميل العدد بصيغة PDF


[1] أنظر مثلا إلى تصريحات المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالمدافعين عن حقوق الإنسان بسبب ما تعرضت لليه

Sea-Watch 3 ews.un.org/fr/story/2020/10/1079372

[2] « je sais qu’ils ont détruit et détruisent des centaines de milliers de vies, et qu’ils l’ignorent et veulent l’ignorer…Mais ce qui n’est pas admissible, c’est que les responsables de tels ravages soient aussi innocents. C’est leur innocence qui constitue leur crime. »  James Baldwin, 2018, La prochaine fois, le feu. Paris, Éditions Gallimard.

[3] حول هذا الموضوع أنظر إلى التقرير الأخير للوسيط الأوروبي في التحقيق في حادث غرق سفينة محملة بـ 650 مهاجر في عرض بحر ايجه في يونيو 2023 ومسؤولية فرونتاكس واليونان في ذلك.  Le Monde, 28/02/2024.

[4] لقراءة تحاليل حول تغطية الإعلام الفرنسي للحرب على غزة أنظر موقع اكريماد

https://www.acrimed.org/Israel-Palestine-le-7-octobre-et-apres-3

[5] Achile Mbebe, Critique de la raison nègre, La Découverte, 2013, p.62

[6] Anibal Quijanno, 2007, « Race » et colonialité du pouvoir, in Mouvements 2007/3 (n°51), pp.111-118

[7] كما تستعرض ذلك الفيلسوفة الزاد ورلان عبر الرجوع إلى المحطات التاريخية الهامة في صناعة هذه الأجسام.

Voir Elsa Dorlin, 2019. Se défendre. Une philosophie de la violence, La Découverte, Paris.

[8] Edward W. Saïd, 1993, Culture and Imperialism, Vintage Books, New York.

[9] وهي مراكز لتسجيل المهاجرين وأخذ بصماتهم.

[10] كما جاء على لسان المقرّر  الخاص السابق المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 مايكل لينك

[11] Michel Agier (dir.), 2014, Un monde de camps, Paris, La Découverte.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، فلسطين ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني