تونس في شرك صندوق النقد: وثيقة مسرّبة بشأن التقشف والخوصَصة


2022-01-13    |   

تونس في شرك صندوق النقد: وثيقة مسرّبة بشأن التقشف والخوصَصة

كشفت وثيقة سرّية مُسرّبة، نشرتها مؤخرا منظمة أنا يقظ، عن جزء من ملامح الإطار التفاوضي الذي اقترحته حكومة نجلاء بودن على صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية المانحة. لم تَخرق الحكومة الجديدة سُنّة المفاوضات الرسمية السرية مع صندوق النقد. ولكن هذا التكتّم اندرج ضمن سياق سياسي جديد تمَيّز بنزوع الرئيس سعيّد وحكومته نحو مركزة القرار الاقتصادي وتهميش النقابات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. إضافة إلى أن الإصلاحات الحكومية المُعلنة تتعارض آثارها الاجتماعية مع خطاب رئاسي يَعد بالسعادة والرّفاه ويُبشّر بانتهاء عهد “التلميذ النجيب” إزاء المؤسسات المالية العالمية.

في الأوّل من نوفمير من العام الفارط، نشرت صفحات مساندة لرئاسة الجمهورية على موقع فايسبوك أخبارا تشير إلى أن صندوق النقد الدولي دعا الحكومة التونسية إلى استئناف المفاوضات. ولكن بيانا صادرا عن البنك المركزي التونسي في الفترة ذاتها أشار إلى أن الاجتماع التشاوري الذي جمع السلطات التونسية بمسؤولين من صندوق النقد الدولي، في 04 نوفمبر 2021 ، جاء في إثر طلب تقدّمت به رئيسة الحكومة نجلاء بودن إلى مديرة الصندوق. وعلى الأرجح كانت الوثيقة الحكومية المُسربة –المشار إليها سابقا- إطارا نظّم جدول أعمال الاجتماع التشاوري، الذي تناول بالأساس “الإصلاحات الاقتصادية” المقترحة من قبل الحكومة التونسية، حسب بلاغ البنك المركزي التونسي. 

كان الذهاب إلى صندوق النقد الدولي استئنافا لسلسلة مشاورات قديمة. وجاء مدفوعا أيضا بتقديرات رسمية سلبية للاقتصاد التونسي. إذ وصف مجلس إدارة البنك المركزي في اجتماعه الدوري الملتئم بتاريخ 06 أكتوبر 2021 وضع المالية العمومية بـ”الدّقيق”، ودعا إلى ضرورة تمويل الميزانية عبر اللجوء أكثر ما أمكن إلى الموارد الخارجية ووضع برنامج تفاوضي جديد مع صندوق النقد الدولي، وتبديد مخاوف المؤسسات المالية المانحة ووكالات الترقيم السيادي. وستُساهم هذه التقديرات الرسمية في توفير مناخ تفاوضيّ أكثر استجابة لشروط المؤسسات المالية المانحة، رغم إيهام رئاسة الجمهورية في الكثير من المحطّات بالتفاوض من موقع نِدّي.        

رفع الدعم وتقليص كتلة الأجور   

يُشير برنامج “الإصلاحات من أجل الخروج من الأزمة” المسرَّب -الذي يُهيكِل الرؤية الاقتصادية للحكومة الحالية- إلى أن كتلة الأجور ومنظومة الدعم يشكّلان المصدر الرئيسي لأزمة المالية العمومية. ومن أجل السّيطرة على هذه الظاهرة، تقترح الحكومة تجميد الأجور والانتدابات واعتماد برنامج التقاعد المُبكر وتوجيه أعوان الوظيفة العمومية نحو القطاع الخاص خلال السنوات الثلاث المقبلة، متوقّعة أن تُسجّل كتلة الأجور تراجعا إلى حدود 14.5% من الناتج الداخلي الخام في سنة 2025. بالإضافة إلى هذا، تقترح الحكومة تنفيذ الرّفع التدريجي لدعم المحروقات إلى حين بلوغ الأسعار الحقيقية في أفق سنة 2026، والزيادة في معاليم استغلال الكهرباء والغاز تحت عنوان “التعديل الآلي للأسعار” ومراجعة دعم المواد الأساسية بداية من سنة 2023 إثر تركيز منصة الكترونية لصرف تعويضات مالية للفئات الاجتماعية المعنية بالدّعم. كما تهدف الإصلاحات إلى انتهاج سياسة جديدة إزاء المؤسسات العمومية سواء عبر التفويت في صنفها “غير الاستراتيجي” أو “تحسين حوكَمَتها”. 

رغم أن برنامج الإصلاحات المقترح للخروج من الأزمة لم يفسّر الآثار المحتملة لهذه الإجراءات على المجتمع والاقتصاد واكتفى بإشارات وفرضيات مالية عامة، فإنّه سعى في الوقت نفسه إلى الظهور بمعجمية اقتصادية ومالية متناسبة مع توصيات المانحين الدوليين وخاصة صندوق النقد الدولي. شدّد البرنامج الحكومي على أهداف كبرى تمثلت في “الانفتاح الخارجي” و”تنقية مناخ الأعمال” و”التوجّه نحو القطاع الخاص” و”مكافحة الفساد والشفافية” و”الانتقال البيئي” وإلحاق الاقتصاد التونسي بفضاء التأثير الاقتصادي الجديد في العالم. وقد عبّرت هذه الكلمات المفتاحية بشكل موفق عن توصيات سابقة لصندوق الدولي دعا فيها تونس العام الفارط إلى “زيادة المبادرة والمنافسة في القطاع الخاص” و”مكافحة تغير المناخ وتنويع إمدادات الطاقة” و” مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة والشفافية”. 

بالإضافة إلى هذا، جاء البرنامج الإصلاحيّ الرسميّ مُواكبًا لتقرير صندوق النقد الصادر في أكتوبر 2021 حول آفاق الاقتصاد الإقليمي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، والذي دعا دول المنطقة ومن ضمنها تونس إلى “إعادة النظر في دور الدولة وتقوية دينامية القطاع الخاص وتعزيز الحماية الاجتماعية”، مقترحا “إعادة النظر في دور إعانات الدعم وكفاءتها” و”إعادة تقييم الأهداف الأساسية للمؤسسات المملوكة للدولة”.  

عموما يَنهض منطق الإصلاح الحكومي المدعوم من صندوق النقد على فكرة رئيسيّة مفادها أنّ أزمة الاقتصاد التونسي أزمة نفقات وليست أزمة موارد. لذلك يجري توجيه السياسات نحو إعادة هيكلة النفقات العمومية والتقليص في حجمها، وخاصة النفقات ذات الصبغة الاجتماعية تحت عنوان “إعادة النظر في دور الدولة”. وفي الوقت نفسه تُهمَل أزمة الموارد رغم الإقرار بخطورتها، ويتم توجيه الاقتصاد عنوة نحو التعويل أكثر على موارد الاقتراض الخارجي، رغم أن الدين العمومي يشكل حوالي 85% من الناتج الداخلي الخام.  

قانون المالية 2022: تمهيد ناعم لبرنامج التعديل الهيكلي 

راوَحَ قانون المالية لسنة 2022 بين الإبقاء على ملامحه الكلاسيكية المتعلقة بمنظومة الدّعم وكتلة الأجور وبين إطلاق إشارات جديدة تدلّ على التمهيد لتعديلات اقتصادية هيكلية في السنوات المقبلة. 

وقد أوضح تقرير قانون المالية لسنة 2022 أنّ نفقات التأجير سجّلت ارتفاعا بـ6% مقارنة بسنة 2021. ويبدو هذا الارتفاع منطقيا باحتساب الخطط الجديدة والترقيات. كما يبلغ عدد الانتدابات الجديدة 18442 خطة موزعة على عدة وزارات من بينها التربية والعدل والداخلية. ولكن في الوقت نفسه أشار التقرير إلى الشروع في تنفيذ سياسات جديدة من أجل السيطرة على كتلة الأجور. من بينها: “ترشيد الزيادات في الأجور، إعادة النظر في برمجة تطبيق اتفاقية 6 فيفري 2021 بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، عدم تطبيق القانون عدد 38 لسنة 2020 المتعلق بانتداب من طالت بطالتهم، ترشيد الانتدابات وحصرها في القطاعات ذات الأولوية، إقرار برنامج جديد للتقاعد المبكر والتمديد في آجال العطلة لبعث مؤسسة”. 

أما بالنسبة لنفقات الدّعم، فقد بلغَتْ في الميزانية الجديدة 7262 مليون دينار مخصصة لدعم المحروقات، و3771 مليون دينار مُخصصة لدعم المواد الأساسية مقارنة بـ2200 مليون دينار سنة 2021، ودعم النقل العمومي بمبلغ قيمته 600 مليون دينار مقارنة بـ500 مليون دينار سنة 2021. وفي الوقت نفسه، أطلق تقرير الماليّة إشارات متعلّقة بمراجعة سياسة الدعم في المرحلة المقبلة، من ضمنها: “إرساء منظومة الدعم المباشر لفائدة الفئات الاجتماعية المستحقة” و”إرساء التعديل الآلي للأسعار بصفة دورية ومحددة بالنسبة للكهرباء والغاز مع استثناء الفئات الهشة”.  

سعى قانون المالية لسنة 2022 إلى الظهور في صورة المحافظ على الدور الاجتماعي للدولة من خلال تخصيص 963.8 مليون دينار من أجل النهوض بالفئات محدودة الدخل، ستُصرف في شكل منح ومساعدات. ولكن في الوقت ذاته، يؤسس القانون بشكل عميق لاستمرار تراجع الدولة عن التدخل الهيكلي في تعزيز المنظومات الأساسية على غرار الصحة والتعليم والنقل. هذه المنظومات التي تشهد منذ عقود تدهورا مستمرا في مستوى الخدمات والبنية والتكاليف.   

المعركة القادمة مع اتحاد الشغل

اتّجهت سلطة ما بعد 25 جويلية نحو التعويل على خطاب اقتصادي يراوح بين الأخلَقة والتحريض والسيادة الشعبوية، من دون الإمساك بالإشكالات الهيكلية للاقتصاد التونسي. وفي الوقت نفسه، راهنت على حكومة تقنية لا تملك عمقا سياسيا وذات وجه إداري “محايد”. ولكن حكومة المختصّين المتحصّنة بلغة “تقنية” ستقدم على قرارات اقتصادية واجتماعية مصيرية، من دون الأخذ بعين الاعتبار تململ النخب السياسية والمنظماتية، ومن دون التشاور مع النقابات المهنية وخاصّة الاتحاد العام التونسي للشغل. تاليا، يبدو الاتجاه السياسيّ الحاكم قائما على منطق التعويل على حكومة “تكنوقراط” منزوعة 

البعد السياسي ولكنها تُشكل رافعة لتعديلات اقتصادية مصيرية، مقابل الاستمرار في خطاب رئاسي صاخب وتنازعي وأحادي، ولا ينظر إلى عمق الظواهر والوقائع. إن الاتجاه نحو تحجيم آلية التفاوض الاجتماعي مع اتحاد الشغل، من خلال المنشور الحكومي عدد 20 الصادر بتاريخ 9 ديسمبر 2021، الذي أوصى المصالح والإدارات بعدم التفاوض مع النقابات دون العودة إلى الكتابة العامة للحكومة، سيؤدي إلى انسداد اجتماعي وسياسي. بخاصة أنّ اتحاد الشغل يرفع اعتراضات كبيرة إزاء السلوك السياسي الانفرادي. وينظر إلى الإصلاحات الجديدة المعلنة -خاصة منها تجميد الزيادات في الأجور- بوصفها تهديدا لقاعدته الاجتماعية وضربا لشرعيته النقابية. وقد جاء البيان الأخير للاتحاد العام التونسي للشغل، الصادر في 04 جانفي 2022، انعكاسا لهذا التململ النقابي. إذ وصف السياسات الجديدة بالإنفراد والتعتيم والإقصاء والارتجالية. وطالب البيان الحكومة “بتنفيذ التعهّدات والالتزامات ومنها مراجعة الأجر الأدنى وتطبيق الاتفاقيات القطاعية المبرمة خاصّة تلك التي تضمّنها اتّفاق 6 فيفري 2021 وفتح المفاوضات حول الزيادة في أجور أعوان الوظيفة العمومية والقطاع العام ونشر الأوامر المتعلّقة بها وإنهاء كلّ أشكال العمل الهشّ كالحضائر والاعتمادات المفوّضة وصيغ التعاقد في عدد من القطاعات”.

لقراءة المقال باللغة الإنجليزية


1  آفاق الاقتصاد الإقليمي: مفاضلات اليوم من أجل التحول غدا في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. صندوق النقد الدولي،  أكتوبر 2021. 

2  تقرير حول ميزانية الدولة لسنة 2022. وزارة المالية، ديسمبر 2021. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة وتنظيم مدني وسكن ، سياسات عامة ، حقوق العمال والنقابات ، مؤسسات عامة ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، نقابات ، قطاع خاص ، منظمات دولية ، تشريعات وقوانين ، الحق في الصحة ، الحق في التعليم ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني