الخطاب الاقتصادي للرئيس قيس سعيِّد


2021-12-14    |   

الخطاب الاقتصادي للرئيس قيس سعيِّد

“المرحلة اقتصادية بامتياز” و”على الرئيس تشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي”؛ أصبحت هذه الصِّيَغ متداوَلة بكثافة في الخطاب السياسي المحلّي منذ 25 جويلية الفارط. تُنادي الرؤية الاقتصادوية بتحييد الشأن الاقتصادي عن المعطى السياسي. إذ يتوجّب على الفاعلين السياسيين ترك مكانهم للخبراء والمختصّين كي يرسموا المستقبل الاقتصادي للبلاد. ويبدو أنّ المسألة محسومة عند فريد بلحاج، نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عندما صرّح في الفترة الأخيرة قائلاً: “يجب اختيار رئيس حكومة ذي صبغة اقتصادية حتّى يكون مسموعاً في الخارج”.

مقابل هذه النزعة الاقتصادية المفرَغة من أيّ حسّ سياسي، والمُدافِعة عن واقعيّتها بالاستناد إلى الأرقام والمؤشّرات، يقف رئيس الجمهوريّة كمحدِّد رئيسي في العمليّة السياسية الحالية وتُنسَج حوله آمال عريضة حول إنقاذ الاقتصاد الوطني. كيف ينظر أستاذ القانون الدستوري إلى الظاهرة الاقتصادية برمّتها؟ ما هي الأفكار الأساسية التي كَوَّنها حول المآزق الاقتصادية والمالية التي تعيشها البلاد؟ هل لديه تصوُّر للتغيير الاقتصادي أم أنّه سيُرسل الشأن الاقتصادي للخبراء والمختصّين، كما تطالب المؤسّسات الدولية المانحة؟

سُتحاول هذه المقالة طرح هذه الأسئلة بالعودة إلى الخطاب الاقتصادي للرئيس قيس سعيِّد، وقراءة طبيعة العلاقات التي يسعى إلى بنائها مع الفاعلين الاقتصاديين الكبار، سواء داخل تونس أو خارجها.

أخلَقَة السوق وتحكيم الوازع الديني

كان الرئيس قيس سعيِّد يدرك منذ الساعات الأولى لإعلان التدابير الاستثنائية أنّه في حاجة إلى إقحام البعد الاقتصادي في خطابه السياسي من أجل شرعَنة المرحلة الجديدة. اختار الرئيس الذي آلت إليه السلطة التنفيذية كاملة التعبير عن الظاهرة الاقتصادية ضمن بناء أخلاقي. وعلى هذا الأساس التمَس من تجّار الجملة والتفصيل التخفيض في الأسعار؛ قائلاً: “أطلب من التجّار التخفيض في الأسعار، المسلم الحقيقي لا ينام وجاره جوعان بلا عشاء”. ولم يُخفِ الرئيس انبهاره بقصّة المواطن الذي علّق لافتة على بضاعته، كُتِب عليها “إلّي ما عَندوش يهز بلاش” (مَن لا يملك المال يشترِ بدون مقابل).

ضمن هذا التصوّر، تُمكن قراءة ظواهر المضاربة والغشّ والاحتكارات بوصفها اختلالات أخلاقية ونقصاً فادحاً في الانتصار للقيم الدينية. وقد يُشكّل الالتزام الأخلاقي بالتخفيض في الأسعار أحد المداخل الكبرى لمعالجة السوق ومكافحة ظواهره السلبية. وليس من قبيل الصدفة أنّ الصبغة غير الإلزامية للبعد الأخلاقي – لأنّ المسألة راجعة بالإساس إلى ضمائر الأفراد – قد تنَاسبَت مع السياسة الإشهارية للمساحات التجارية الكبرى، التي أعلنت عن إدراج تخفيضات في بعض الموادّ الاستهلاكية، بدون توضيح قيمة التخفيضات ولائحة الموادّ المُدرَجة وسقفها الزمني، خصوصاً أنّ المساحات التجارية الكبرى دأبت على القيام بتخفيضات موسمية مُماثلة. وقد كان هذا الإعلان كافياً لإرضاء رئيس الجمهوريّة الذي استقبل وفداً من الاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، واعتبر التخفيضات المعلَنة جزءاً من الانخراط في المعركة الاقتصادية الجديدة. وقال خلال اللقاء المذكور “إنّ رأس المال الوطني سيكون في مستوى اللحظة التاريخية”.

يستند هذا التراضي المؤقّت بين الرئيس وأصحاب الأعمال “المُخلصين” إلى فكرة الالتزام الأخلاقي أو “الحسّ الوطني” على حدّ تعبير الرئيس. ويُشكّل هذا الاتّجاه بديلاً عن مبدأ تفعيل الرقابة القانونية والمؤسّساتية على الأسعار والسوق بشكل عامّ. يلوح أنّ الرئيس يملك تصوُّراً مثالياً حول فكرة السوق وقوانينه وظواهره التي أدّت إلى ارتفاع الأسعار. فهذه البنية التي تديرها الاحتكارات والتجارة غير المنظّمة والتخزين العشوائي وخرق قانون العرض والطلب وتواطؤ مصالح الرقابة الرسمية، لا يمكن معالجتها بإعلانات النوايا والتعاقدات الأخلاقوية الهشّة.

في هذا السياق، يقدّم التقرير السنوي لمحكمة المحاسبات حول برنامج تأهيل مسالك توزيع المنتوجات الفلّاحية إضاءة حول الأزمة الهيكلية التي يعاني منها سوق المنتوجات الفلّاحية. إذ أشار إلى أنّ المنتوجات الفلّاحية لا تخضع دائماً إلى قاعدة العرض والطلب، حيث عرفت العديد من المنتوجات ارتفاعاً في أسعارها رغم توفّرها في أسواق الجملة. وقد بلغَتْ هوامش الربح أثناء البيع بالتفصيل سقف 84% سنة 2016. وبلغت كمّيّات الخضر والغلال التي بيعَت خارج مسالك أسواق الجملة نحو 55% خلال الفترة الفاصلة بين 2014 و2018. كما أشار التقرير ذاته إلى غياب منظومة معلوماتية في التصرّف في الأسواق، ممّا جعل المرصد الوطني للتزويد والأسعار غير قادر على متابعة سير مسالك التوزيع، إذ “اقتصر دوره على متابعة الكمّيّات المسوَّقة والأسعار في خصوص 24 سوق جملة من إجمالي 82 سوق جملة، أي بنسبة تغطية في حدود 30%، بما لا يسمح بتحديد المؤشّرات المتعلّقة بالمنافسة أو الممارسات الاحتكارية”[1].

التضامن التاريخي و”فيض الخزائن”

بُعيْد انتخابه رئيساً جديداً للجمهورية التونسية، أعلن الرئيس قيس سعيِّد إعجابه بمبادرة أطلقها مواطنون مجهولون تدعو إلى التبرّع بيوم عمل كلّ شهر للخزينة العامّة للدولة. إذ علَّقَ عليها قائلاً: “البعض في تونس وخارجها أعلن عن التبرّع كلّ شهر بيوم عمل حتّى تفيض خزائن الدولة وحتّى نتخلّص من الديون”. وإثر إعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية أعاد الرئيس الإشارة إلى قصّة الأموال المخفية في تونس، قائلاً: “إنّ تونس ليست فقيرة ونسمع عن وجود المليارات” و”البعض لديه من الأموال ما يغني التونسيين”.

من داخل هذا التصوّر الذي ينظر إلى التضامن المواطني والمؤسّساتي مع الدولة بوصفه مورداً مالياً ضخماً، أطنب الرئيس في الإشادة بمبادرة الجمعيّة المهنية للبنوك والمؤسّسات المالية التي خصّصت 160 مليون دينار للخزينة العامّة. وقد التقى الرئيس بممثّلين عن جمعيّة البنوك، وخاطبهم قائلاً: “إنّ ما قمتم به دليل على صدقكم وانخراطكم في معركة التحرير الوطني” وأضاف “أنتم تدفعون الضرائب من الأرباح حتّى لا يبقى فقير في تونس، شكراً على هذه الوقفة التاريخية وعلى وقوفكم معنا في نفس الجبهة”. ويشير هذا الاحتفاء الكبير إلى أنّ اللوبي البنكي نجح إلى حدّ ما في استقطاب النزعة التضامنية التي يبجّلها الرئيس، خصوصاً أنّ هذا القطاع أصبح متّهماً أكثر من أيّ وقت مضى بضلوعه في الفساد المالي والاقتصادي، الذي أشار التقرير السنوي الأخير لمحكمة المحاسبات إلى جزء منه. وقد تعلّقت التجاوزات البنكية التي أوضحها التقرير المذكور[2] بمجالات الحوكمة والرقابة الداخلية، ومجال مكافحة غسل الأموال، وإسناد قروض بنسبة فائدة مشطّة، والمغالاة على نسبة تأجير الودائع.

يبدو أيضاً أنّ الرئيس على اطّلاع بالاختلالات المالية الكبيرة التي تعاني منها الماليّة العمومية لسنة 2021، ولكنّه ينظر إلى برنامج تعبئة موارد الدولة بمعياريّة أخلاقية تجسّدها فكرة “التضامن التاريخي”، التي لا يمكن قياس آثارها على الاقتصاد والمجتمع، لأنّها لا تشكّل برنامجاً ملموساً بقدر ما تعبّر عن انفعالات مؤقّتة لا تصلح لإنقاذ ميزانيَة عمومية يتهدّدها شبح الانهيار وتعاني من أزمة مديونيّة غير مسبوقة. ويلوح حتّى الآن أن أزمة الماليّة العمومية مُتأرجحة بين البحث عن موارد خارجية عبر الاقتراض الخارجي والتداين الداخلي بالالتجاء إلى البنوك المحلّية. على المستوى الخارجي، لا تبدو الأمور محسومة في ظلّ الحالة الانتقالية غير المستقرّة التي تمرّ بها البلاد. أمّا على المستوى الداخلي فقد رفضت البنوك إقراض الدولة على المستوى البعيد.

في هذا السياق، يشير أستاذ الاقتصاد عبد الجليل البدوي إلى محدوديّة الطرق التقليدية المعتمَدة في تمويل عجز ميزانيّة الدولة، من بينها: “التقليل من حجم عجز الميزانيّة عبر ترحيله وتحميله للمؤسّسات العمومية” و”اللجوء إلى التمويل غير المباشر عن طريق المؤسّسات البنكية، الذي تنتج عنه كلفة مرتفعة تزيد من أزمة الميزانيّة العمومية” و”اللجوء إلى الزيادة في الضرائب المباشِرة وغير المباشِرة بدون اعتبار ضرورة مقاومة تنامي الحيف الجبائي وتحسين العدالة الجبائية وبدون تسجيل نتائج إيجابية على مستوى الادّخار والاستثمار والنموّ” و”الاستمرار في اللجوء إلى التداين الخارجي الذي أصبح صعب التحقيق ومُكْلف للغاية وغير محبَّذ في كلّ الحالات لأنّه يدفع إلى ابتزاز البلاد وفرض شروط قاسية تمسّ من السيادة الوطنية وتقلّص من الآفاق التنموية وتقود إلى اعتماد سياسات تقشّفية”.

وأشار، في السياق نفسه، إلى ضرورة اللجوء إلى إجراءات استثنائية من أجل الترفيع  في الموارد الذاتية العمومية للدولة، من بينها مكافحة التهرّب الضريبي الذي يوفّر موارد إضافية ضخمة للخزينة العامّة، واتّخاذ إجراءات استثنائية لمحاصرة مسالك تهريب العملة، و”تعويض العملـة الحالية بعملة جديدة تمكّن من الكشـف عن الثروات النقـدية المكتسبة بصفة غير قانونية”، و”تعليق توريد قائمة بالبضائع الكمالية والرفع في المعاليم الجمركية القائمة على البضائع شبه الكمالية”، و”إعادة التفاوض حول الاتّفاقات التجارية” و”إعادة إحياء مفهوم « bilan en devises »  للأنشطة التجارية”، وغيرها من الإجراءات التي أشار إليها عبد الجليل البدوي في دراسته حول أزمة الماليّة العمومية لسنتَيْ 2020 و2021[3].

“الأشقّاء والأصدقاء سيقفون إلى جانب تونس”

كان الخارج عنصراً بارزاً في الخطاب الاقتصادي للرئيس سعيِّد، الذي حرص على طمأنة المؤسّسات العالمية المانحة والدول المُقرِضة على أنّ إمساكه بمفاصل السلطة لا يشكّل تهديداً للمصالح الخارجية أو تنكّراً للالتزامات المالية والاتّفاقات الاقتصادية السابقة. وقد وردتْ هذه الطمأنة في الإشارة الدائمة إلى فكرة استمراريّة الدولة. فخلال لقائه نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قال الرئيس قيس سعيِّد: “تمّ اتّخاذ التدابير الاستثنائية حفاظاً على الدولة التونسية، الائتلافات تتغيّر والحكومات تتغيّر ولكنّ الدولة يجب أن تستمرّ”. وأمام اشتعال الكثير من المصابيح الخارجية حول الوضع التونسي بعد 25 جويلية، تَنامَى الجدل الداخلي حول طبيعة المواقف الخارجية من الرئيس سعيِّد ودورها في تحديد اتّجاه المرحلة القادمة. على هذا الأساس، سَعَى الرئيس سعيِّد في أكثر من محطّة إلى إظهار وجود حزام إقليمي وعالمي داعم للإجراءات الاستثنائية: “بعد أن أفرغوا خزائن الدولة، أشقّاؤنا وأصدقاؤنا تداعوا لشدّ أزر الشعب التونسي” و”هناك اتّصالات مع أشقّائنا لسدّ اختلالات الموازنات المالية فكانوا نِعْم الأصدقاء والأشقّاء”.

لا يبدو إلى حدّ الآن أنّ الرئيس سعيِّد سيخرج عن المقاربة الكلاسيكية في إدارة العلاقة مع الخارج، من خلال الاستمرار في بناء شراكات اقتصادية مُختلّة تقودها سياسات التداين المستمرّة وتنفيذ برامج التعديل الهيكلي، بالإضافة إلى التعويل على المساعدات والهبات الإقليمية والدولية ضمن سياسة دعائية تُوهم بنجاح الدبلوماسية التونسية في حشد الدعم المالي للبلاد. وعلى الأرجح سيدفع هذا الاتّجاه نحو تشكيل “حكومة تقنية” تستأنف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول قروض جديدة، تشترط إدارة الصندوق مقابلها الالتزام بمراجعة منظومة الدعم العمومي واتّباع سياسات تقشّفية والتشجيع على الاستثمارات الخاصّة.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة


[1] برنامج تأهيل مسالك توزيع المنتوجات الفلّاحية، محكمة المحاسبات: التقرير السنوي الثاني والثلاثون، 09 فيفري 2021.

[2] الإشراف على القطاع البنكي، محكمة المحاسبات: التقرير السنوي الثاني والثلاثون، 09 فيفري 2021.

[3] عبد الجليل البدوي، “أزمة المالية العمومية سنة 2020 و2021: أي قراءة للموجود وأي حلول لتحقيق المنشود”، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة تونس ، سياسات عامة ، أطراف معنية ، سلطات إدارية ، مصارف ، منظمات دولية ، حقوق المستهلك ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني